عبر الصحافة كما عبر الأثير يغمر المواطن المتابع كل يوم وكل ساعة طوفان من الخطابات التي نسخها خطباؤها من مكتباتهم القديمة فتحجب الرؤية عنه حتى لا يكاد يرى الأمور على حقيقتها والعالم كما هو. هؤلاء الخطباء وقد تخرّجوا جميعاً من مدرسة الإستهلاكية (Consumerism) لا يمتلكون الوقت اللازم لإعمال عقولهم ولا يتحرّجون لذلك من إستنساخ خطاباتهم من مكتباتهم القديمة التي تحمل ثلاثة عناوين فقط لا غـير، القومية، الإسلامية والليبيرالية.
بعد انهيار أنظمة الإنتاج التي عرفها العالم خلال القرنين الأخيرين تعولم العالم في نظام إنتاج غريب فريد لا يحمل أياً من جينات الأنظمة المنهارة. ولدى فحص هذه الجينات مخبرياً يتبيّن بكل وضوح أن هذا النظام العالمي الجديد مصاب بثلاث علل خطيرة من شأنها ليس فقط أن تعجل في نهاية النظام بل وأن تهدد مصائر الجنس البشري أيضاً. يجب أن يحتم مثل هذا الخطر الداهم على سائر المفكرين والخطباء أن يوفروا الوقت اللازم للبحث في علل هذا النظام الطارئ وأن يكفّوا نهائياً عن البحث في كتبهم القديمة التي لم تعد مفرداتها تشير إلى أشياء العالم القائم.
أما العلل الخطيرة الثلاث التي تبدو واضحة لكل باحث في طبيعة النظام القائم فهي..

1.إهتراء قانون القيمة البضاعي
في النظام الرأسمالي وما قبله كان العمل الإجتماعي ينقسم بنسبة آلية بحيث يكفي مجمل الإنتاج الخدمي لسد حاجات الإنتاج السلعي من الخدمات وليس أكثر، أي أن نظم الإنتاج على تباينها لم تكن تنتج الخدمة من أجل الخدمة بذاتها كما هو حالها اليوم خاصة في البلدان المتقدمة حيث 50 -70% من إنتاج الخدمات يتم إستهلاكه بعيداً عن دائرة الإنتاج السلعي كما في التعليم والإعلام والصحة والأمن. التوسع المتسارع في إنتاج الخدمات لا يقابله توسع مواز في إنتاج السلع بل غالباً ما ينعكس ذلك في إنكماشه. مثل هذا الإنحراف الخطير في الإنتاج يتسبب مباشرة في فقدان المجتمع لمناعته ويعمل على تفكيكه وتشويهه ويهدد إستمراره بخطر داهم. الفيروس الخفي الذي يفقد مثل هذه المجتمعات مناعتها هو تحديداً إهتراء قانون القيمة البضاعي وهو القانون الحيوي النافذ بقوة في بناء السوق مع ما فيها من أنشطة مختلفة وفي توزيع الإنتاج وتقسيم العمل الإجتماعي.
سوق الخدمات تختلف تماماً عن سوق السلع. إنها سوق إفتراضية ضبابية وظرفية ضعيفة الإتصال بكل قوانين السوق المعروفة مثل قانون القيمة وقانون العرض والطلب. إنها لا تعرض الخدمات كأصنام كما تفعل سوق السلع. كما أن الخدمة تختزن بذاتها مقادير متفاوتة من "المعرفة" التي يشيع الإعتقاد على أنها بذاتها، مستقلة عن العمل، ذات قيمة بضاعية مرتفعة وهو الإعتقاد الذي رسخته بقانون منظمة التجارة العالمية. لكل هذا يجري تبادل الخدمة على أساس الإفتراض والحدس وليس الحسابات العيانية كما في تبادل السلعة.
الإنفاق المتزايد على الخدمات أدى إلى تهميش قانون القيمة البضاعي الذي لا تستطيع السلع أن تنفك من قيده إلاّ بمقدار ما تختزنه من الخدمات. الجريمة الفظيعة التي تقترف بحق المجتمع تبعاً لذلك هي تغوّل منتجي الخدمات وافتراسهم الوحشي لمنتجي السلع حيث يجري التبادل الحيوي بين الخدمات من جهة والسلع من جهة أخرى بصورة جائرة للغاية حتى بتنا نرى مديراً لمؤسسة يتقاضى أجراً يزيد عن مجموع أجور العاملين فيها حتى ولو تجاوز عددهم الخمسين عاملاً، وثمة من يصل أجره الشهري إلى مئات الألوف من الدولارات!!
مثل هذا الحيف الناجم عن إهتراء قانون القيمة البضاعي ينعكس في تشوّهات بشعة في هيكلية المجتمعات الكلاسيكية. تنكمش الطبقة العاملة وتتهمش من جهة وتتوسع الطبقة الوسطى وتستبد بالسلطة من جهة أخرى وتضمحل الطبقة الرأسمالية حتى التلاشي من جهة ثالثة.

2. إنهيار النقد
لا يمتلك قانون القيمة أدوات لتنفيذ فعالياته سوى النقد. والنقد هو سندات تصدرها الدولة وتوقعها نيابة عن المجتمع تحدد مقدار ما لحاملها مبادلتها من الإنتاج. والنقد ضرورة إجتماعية حيوية يقوم بدور تسهيل دورة الإنتاج (Facilitator) وتوزيعه. كان هناك عهد دولي تبلوّر فيما بعد الحرب العالمية الثانية بمعاهدة بريتنوود (Britainwood) توجب على الدولة الإحتفاظ بغطاء ذهبي لعملتها الوطنية. في العام 1972 إنسحبت الولايات المتحدة الأميركية من المعاهدة وتركت دولارها مكشوفاً. القوانين الإقتصادية تسمح للدولة بكشف عملتها من الغطاء إذا توفرت لديها فرشة مريحة من الإنتاج. الولايات المتحدة التي يقصر إنتاجها عن إستهلاكها بملياري دولار يومياً لم تكن لديها تلك الفرشة المريحة قياساً إلى كتلتها النقدية الهائلة. بل ذهبت بعيداً في ذلك إذ توسعت كثيراً في الإنفاق دون أن تكون قادرة على تغطية إنفاقها المتعاظم إلاّ من خلال الإستدانة حتى باتت ديونها الدولية تزيد عن ضعف ديون دول العالم مجتمعة وتصل إلى 8 تريليون دولاراً؛ ولعل مجموع ديونها الداخلية تزيد عن أضعاف أضعاف ديون دول العالم وتصل إلى 35 تريليون دولاراً. وهذا يعني أن مجموع الدين العام للولايات المتحدة الأميركية يزيد على أربعة أضعاف مجمل إنتاجها القومي الذي يصل إلى 10.5 تريليون دولاراً؛ ودولة بهذا الإفلاس لا بدّ أن تكون عملتها ساقطة ولا تساوي الحبر الذي صبغت به.
إحتفاظ الدولار الأميركي اليوم بالمرجعية لكل النقد في العالم حتى لسائر العملات الصعبة لا ينفي أبداً السقوط الحقيقي للدولار. فقانون النقد يشترط تأهيل العملة الوطنية بأن تلتحف بالذهب أو أن تفترش إنتاجاً كافياً وبغير ذلك تفقد العملة كل قيمة لها. الدولار الأميركي ومنذ أكثر من ثلاثة عقود إفتقد الغطاء والفرشة وأصبح بذلك خارج القانون. لكن ما يحفظ له حتى اليوم ببعض الحرارة فيه هو قوة النار، نار الحروب، حتى أصبحت الولايات المتحدة بحاجة إلى تمرين حربي ناجح بين فترة وأخرى وإلاّ هوت إقتصادياً حتى القاع وانكشفت مديناً مفلساً عاجزاً عن تسديد أي من ديونه الهائلة وهكذا تكون الولايات المتحدة الأميركية قد تخلت عن دينها بالله واستبدلت عنوان دولارها ( نثق بالله، IN GOD WE TRUST) بِ ( نثق بالمدفع، IN GUN WE TRUST)
يجري الإنفاق الجنوني للإدارة والمجتمع الأميركيين على حساب كافة شعوب البلدان الأخرى التي تشتري الدولار الأميركي بقيمته الإسمية وتكدس المليارات منه في خزائن إحتياطياتها كغطاء لعملتها الوطنية. وأي إنهيار مفاجئ للدولار لا بدّ أن يتبعه إنهيار مماثل لسائر العملات الأخرى في العالم وتواجه البشرية جمعاء حينذاك كارثة كونية ما بعدها كارثة. لذلك ترى الدول الصديقة كما المعادية للولايات المتحدة سواء بسواء تحرص كل الحرص على إحتفاظ الدولار بالمرجعية المصطلح عليها، فليس بالحرب وحدها يحيى الدولار.
ما يتوجب التحذير الشديد منه هو أنه بافتراض أن جميع ذوي القرار بذلوا كل جهودهم للحفاظ على قيمة الدولار وأن شعوب العالم قبلت دائماً إبتزازها من قبل الإدارة والشعب الأميركيين وأن العسكرية الأميركية ظلت تقوم دائماً بحروب ناجحة بين فترة وأخرى أقصر من سابقتها، لو استمرت هذه الإفتراضات الثلاثة قائمة حقيقة، وهو ما لا يجوز إفتراضه، لن يكون بالإمكان إطلاقاً تعطيل قانون يعتبر ركنا أساسياً من أركان الإقتصاد والذي يقول لا نقداً بلا فرشة أو غطاء.

3.تعرّي الرأسمالية
كما تتعرى الجبال وتفقد تربتها وغطاءها النباتي ليدب فيها الموات بالتالي، تعرّى النظام الرأسمالي وفقد تدفق رؤوس الأموال اللازمة لاستمراره ودب فيه الموات أخيراً. كان ماركس قد تحدّث عن ميل معدل الربح العام للإنخفاض في النظام الرأسمالي بسبب تطور أدوات الإنتاج وما يستلزمه من زيادة مطردة في رأس المال الثابت قياساً إلى رأس المال المتحرك وهو ما بدأ يتحقق بصورة واضحة خلال النصف الثاني من القرن المنصرم. فإذا ما أضفنا إلى هذا الإنخفاض تعاظم معدلات الأجور الذي إقتضاه التحسن الملموس في شروط حياة العمال، وكذلك تصاعد الضرائب التي تفرضها دولة الرفاه (Welfare State) على الأرباح الرأسمالية، أدركنا بالتالي أسباب إحجام أصحاب الرساميل عن توظيف أموالهم في الإنتاج. هرب هؤلاء بأموالهم إلى الإتجار بالعملات والمضاربة في أسواق السندات والأسهم. وصدرت إحصائية قبل بضع سنوات تقدر أن 97.5% من حجم الأموال المتوفرة للتوظيف يذهب للتجارة في البورصات. والتجارة سواء كانت بالسلع أم بالأوراق المالية لا تخلق ثروة على الإطلاق إنما يقتصر دورها على مناقلة الثروة من مكان إلى آخر ومن جهة إلى أخرى. بدأ الموات في نظام الإنتاج الرأسمالي منذ بداية الربع الأخير من القرن العشرين ولم يعد النظام جاذباً للإستثمار وخاصة في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية حيث آلت السلطة تدريجياً إلى الطبقة الوسطى ولدولتها، دولة الرفاه. وشرع الرأسماليون الذين لم يستطيعوا التحرر من صناعاتهم وتحويل أموالهم الموظفة فيها إلى البورصات، شرعوا بالهرب من المراكز إلى الأطراف بالرغم من سوء مناخها بالنسبة للإنتاج الرأسمالي. هذا الهروب الذي من شأنه أن يعجّل بنهاية النظام الرأسمالي كنظام عالمي إتفق العامة على تسميته بالعولمة.

نشير بقوة إلى هذه العلل الثلاث التي يكابد منها عالم اليوم وتهدد مصائر البشرية جمعاء، وهي علل ماثلة بكل وضوح لكل ذي عينين لم يحجبهما ضباب الإيديولوجيات السميك. لكن أمة العرب بشكل خاص، ومفكريها على الأخص، مثقلة بالعقائد. لكل عربي عقيدته الخاصة به وهو الناطق الرسمي الوحيد باسمها، عقيدة تعرف كل ما كان وما سيكون ولا يحتاج صاحبها أن يعرف أو يتعرّف على ما هو خارج عقيدته حتى وإن عفا عليها الزمن ولم تترك أثراً في الحياة كما هو واقع سائر العقائد والإيديولوجيات ـ لك أن تعتقد ما تشاء غير أن الحياة لا تحفل إطلاقاً بما تعتقد.
من هنا تجد المفكرين والكتاب العرب مشغولين دائماً بالإرسال وليس لديهم أي وقت للاستقبال. يرسلون دائماً منطوقات عقائدهم متفاخرين بعقائديتهم ولا يلتفتون إلى حقائق الحياة حتى وإن كانت تقرر مصائر شعوبهم كالعلل التي أشرنا إليها. ولعلي لا أستغرب أن يبرز أحدهم ليزعم مرة أخرى أن أمته، أمة العرب، لها خصوصية ليست لدى أمم الأرض طالما نحن أمة عقائد!!

فـؤاد النمـري