إقتصر وصف "الرسالات السماوية" على الديانات الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام. ويبدو ظاهرياً على الأقل أن وصفها بهذا الوصف يعني التبجيل والتمييز عن الديانات الأخرى كونها جاءت من الله في السماء بوساطة رسل ثلاث اختارهم الله نظراً لكمال أخلاقهم وإيمانهم المطلق به وهم موسى ويسوع ومحمد بالرغم من أنه حتى الديانات الوثنية كانت تؤمن أيضاً بأن آلهتها تسكن السماء. لكن لماذا لم يرسل الله إبراهيم وهو أبو الأنبياء وأول من نزل عليه الوحي واتصل بالله، ولم يرسل داؤود وهو أفضل الأنبياء كما جاء في القرآن، ولم يرسل سليمان الحكيم وهو أحكم الأنبياء كما تصفه الكتب المقدسة ؟؟ القراءة التحليلية الموضوعية للتراث الديني تنتهي إلى إجابة واحدة قطعية تقول أن المرسلين الثلاثة جاءوا برسالات ثورية تعنى بالشأن الإجتماعي للناس وتعمل على تغييره وليس بشؤون الله والسماء كما يوحي وصفها وكما يعتقد العامة، كما وأن هؤلاء المرسلين الثلاثة جاءوا من الطبقات الشعبية ولم يكونوا ملوكاً مثل داؤود وابنه سليمان ولم يكونوا شيوخاً مثل إبراهيم ونوح وإسحق ويعقوب الذين لم يطالبوا بالتغيير ولم يعنوا بشؤون المجتمعات ـ وقف موسى مع إصلاحات أخناتون في مصر فطارده الشيوخ والكهنة والعسكر المنقلبون على نظام أخناتون الإصلاحي حتى عبر هو وأنصاره إلى سيناء حاملاً معه وصايا أخناتون العشرة منقوشة على لوحين حجريين. وثار يسوع ضد روما مطالبا باستقلال بلاده وتحريرها من عسف الرومان ومن الضرائب والأتاوات التي أثقلت كاهل الشعب من مزارعين ورعاة؛ ولهذا لم يكن غريباً أن يقود بولص، وهو أكبر العسكريين الرومان الموكلة إليهم جباية الضرائب، حملات قمعية دموية ضد المسيحيين. وثار محمد ضد تجار قريش الأغنياء في مكة منتصراً للفقراء والمساكين واليتامى مؤكداً أن لهؤلاء الحق في أموال الأغنياء ـ لذلك فقط عمّرت رسالات هؤلاء الرسل حتى اليوم إلاّ أن الطبقات العليا الحاكمة كانت قد أفرغتها تماماً من محتواها الإجتماعي وليس أدل على هذا مما فعله بولص بالمسيحية وما فعله معاوية بالإسلام؛ وأخيراً انتهت الرسالات الثلاث لتكون حقاً أدياناً سماوية تعنى فقط بشؤون الله في السماء وكأن الله بحاجة لمن يعنى بشؤونه من بني البشر !!

الدين هو في نهاية المطاف عقيدة غالباً ما يحملها الإنسان طيلة حياته. ويُنظر دائماً إلى العقيدة على أنها فكرة ثابتة لا تتطور ولا تتغير. لكن ذلك ليس صحيحاً، إنها تتطور وتتغير ولكن بصورة بطيئة جداً لا يمكن ملاحظتها خلال وقت محدود. أما إذا ما أسقط إحتساب الزمن فإننا نجد أن الإنسان خلال رحلته منذ فجر التاريخ حتى اليوم قد تبنّى وتخلى عن أديان لا تعد ولا تحصى. فقبل الفرعون أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد لم تكن الأديان قد تطورت لدرجة التوحيد. ثم جاءت الرسالات السماوية التوحيدية الثلاث إستتباعاً لتوحيدية أخناتون ولم يعمّر أي منها طويلاً قبل أن تتشطّر إلى مذاهب وملل شتّى. فاليهودية تشطرت باكراً إلى فريسيين وصدوقيين ثم إلى أشكيناز وسفارديم وحاسديم وحريديم وكابالا وأرثوذكس والقائمة طويلة. وتشطرت المسيحية حال صلب المسيح إلى مسيحية بطرس اليهودية ومسيحية بولص المعادية لليهود ثم النساطرة واليعاقبة ثم الأرثوذوكس والكاثوليك والبروتستانت والأنجيلية والمعمدانية. وقبل أن يموت محمد ظهر إسلام علي مقابل إسلام عائشة ومعها أبو بكر وعمر، ومن بعد، الشيعة والخوارج والإمامية والإسماعيلية والعلوية والدروز مقابل السنة ثم الحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية والوهابية والأزيدية والأباظية وغيرها.
لكن لماذا عاش الإنسان ملايين السنين قبل أن يوحى إليه للمرة الأولى خلال إبراهيم قبل خمسة آلاف سنة فقط كما تؤمن الرسالات السماوية التوحيدية الثلاث ؟ ولماذا ظهر موسى بعد إبراهيم بأربعة عشر قرناً ؟ ولماذا ظهر يسوع ـ ما زال اليهود يسمون "يوسي" وهو أقرب إلى يوسف وليس عيسى ـ قبل ألفي عام فقط ؟ ولماذا تأخر ظهور محمد حتى القرن السابع بعد الميلاد ؟ ليس من إجابات لدى المؤمنين على هذه الأسئلة سوى أنها حكمة الله هي التي عيّنت زمن رسالة كل منهم. فإذا كان علينا أن نوافق المؤمنين على إجابتهم فعلى المؤمنين بالمقابل أن يوافقوا على أن الحكمة تحكم بأن لكل زمان دينه الخاص به، بل أكثر من ذلك وهو أن الدين إبن الزمان والمكان أيضاً طالما أن شريعة موسى ظهرت في سيناء ـ والحقيقة أن الوصايا العشر كانت من وضع أخناتون في تل العمارنة في مصر ـ ورسالة يسوع ظهرت في القدس في فلسطين ورسالة محمد في مكة في الحجاز. خلاصة القول هنا هي أن الدين، أي دين، هو الإبن الشرعي للزمان والمكان المعبّر عنهما بالإنسان فيهما.
لكن ما هي أصول الدين بالمطلق ؟؟
الإجابة على هذا السؤال الكبير بكلمات قليلة هي أن الدين هو " القانون " الميتافيزيقي العام الذي قام لدى الإنسان القديم مقام القانون المادي العام للحركة في الطبيعة الذي لم يكتشف قبل القرن التاسع عشر. ومن هنا ما زال سر الإيمان لدى سائر المؤمنين هو سر حركة الكون بكل هذا التنظيم والدقة المتناهيين.
تفتحت عيون الوعي البدائي في الإنسان الأول على الأشياء من حوله ساكنة ثابتة فتوهم أن القانون العام في الطبيعة هو السكون، وهذا الوهم جعله عاجزاً تماماً عن تفسير ظاهرة الحركة في الطبيعة، حركة الكواكب والنجوم، حركة السحب والرياح، حركة الأمطار والأنهار والبحار.. ألخ فلم يكن أمامه من وسيلة للتغلب على ذلك العجز سوى الإيمان بقوة خفيّة تحرك كل ما يتحرك فافترض أن للشمس إلهاً يحركها وللقمر إلهاً، للريح إلهاً، للبرق والرعد إلهاً وللأنهار والبحار إلها وللغابات إلهاً وللنار إلهاً، لكل حركة في الطبيعة إلهها الخاص بها. هكذا وصلت الأديان إلى السومريين والفينيقيين وإلى الفراعنة والفرس والإغريق.
أول من قال بتوحيد أسرار مظاهر الحركة بسر واحد هو أخناتون فرعون مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. قال أخناتون بإله واحد لا شريك له هو إله الشمس " آتون " ووضع نشيداً للإله الجديد هو ذات نشيد الملك داؤود في المزمور رقم 104 كما وضع الوصايا العشر منقوشة على ألواح حجرية حملها موسى معه وهو يقود العبرانيين عبر سيناء هرباً من الإنقلابيين على نظام أخناتون ودينه الجديد. والحقيقة أن الصواب لم يجانب أخناتون وديانته الجديدة فالشمس هي مصدر الطاقة والحركة في الأرض وفي المجموعة الشمسية. وهكذا تتابعت الديانات التوحيدية بدءاً بدين أخناتون وليس بدين إبراهيم وموسى كما يعتقد الجميع.
مثل هذه القفزة النوعية في تطور الدين لم تأتِ من فراغ أو من عبقرية أخناتون بل من تراكم التطورات الصغيرة عبر التاريخ. فالشكل الأول للمجتمعات البشرية المتحضرة أخذ شكل المملكة المدينة أو المدينة المملكة حيث يتبع سكان المدينة العبيد لسيدهم ملك المدينة. وبتكاثر السكان من جهة واتساع شبكة علاقات الإنتاج من جهة أخرى لم يعد السيد الملك قادراً على إدارة مملكته المتنامية حتى ولا بعد ترسيم شيوخ يعاونونه على الإدارة، فما كان منه إلاّ الإدعاء بأنه ليس هو السيد الملك كما يرونه على الطبيعة فقط بل إنه على صلة وثيقة بقوىً خارج الطبيعة تتجسد به دون غيره ولذلك فهو ليس السيد الملك فقط بل والإله أيضاً وهو بذلك مستوجب الطاعة والعبادة. لقد وظف ملوك المدن ألوهيتهم في استهلاك العبيد حتى الموت كما ينعكس ذلك في المعالم القديمة الضخمة كالأهرام والكولسيوم وسور الصين، كما وظفوها بصورة رئيسية في إشعال الحروب بهدف احتلال الممالك المجاورة واستعباد أهلها حتى كان وراء كل حرب دين جديد وآلهة جديدة. كان ملوك الفراعنة آلهة تُعبد وإلى عهد قريب كان إمبراطور اليابان إلهاً ومثله دالاي التبت. ثم تطورت ألوهية الملك لتأخذ شكل النبوة فكان الملك داؤود نبياً وكان الملك سليمان نبياً أيضاً ثم انحدرت قليلاً نحو الأرض فكان الخليفة المسلم هو خليفة الله وخليفة النبي في ولايته على العالمين وانتهت اليوم ليحل الملك في رأس السلطة الدينية بالإضافة إلى السلطة المدنية كما هو اليوم في بريطانيا ومصر وكما كان بالأمس في روسيا القيصرية. ثم انتهى الدين ليكون قانوناً ثابتاً تستخدمه السلطة الحاكمة سداً مانعاً للتقدم والتغيير من خلال إشاعة النصوص الجامدة التي لا علاقة لها بالحياة على العكس تماماً مما أراده أنبياؤه رافعة للثورة والتغيير.
بعد إكتشاف قانون الحركة الديالكتيكية في الطبيعة في القرن التاسع عشر إنقسم الناس حول الدين إلى ثلاثة أقسام :
1.منهم من ينظر للدين نظرة سالبة باعتبار الدين يخص الله والدنيا الأخرى وتبعاً لذلك لا يستوجب الأمر منهم سوى القيام بالعبادات المنصوص عليها في الكتب.
2.ومنهم من يعتبر الرسالات السماوية ثورات قضت بالتغيير وأن أمر الله بالتغيير يستوجب منهم العمل على التغيير وحتى بالقوة إن إقتضى الأمر. وغالباً ما يصل الأمر بهؤلاء إلى الأعمال الإرهابية وإقتراف الجرائم البشعة كما تفعل منظمات القاعدة والتكفير.
3.وأما القسم الثالث فهو الذي يرى أن الحركة في الطبيعة هي حركة ديالكتيكية من خصائص المادة إذ لا مادة بلا حركة وأن كل التغييرات التي حدثت وستحث في الطبيعة وفي المجتمعات، وهي جزء من الطبيعة، إنما جاءت بفعل الحركة الديالكتيكية التي لا تتوقف ولو للحظة خاطفة.

الجذور العميقة لهذا الإنقسام ليست دينية في الحقيقة إذ أنها لم تنبت من محاكمات جادة وعميقة للنصوص الدينية بمعانيها ومدلولاتها التي لا علاقة لها بما جاء به الرسل الثلاث وخاصة ما في التوراة والإنجيل ـ وهو ما سنأتي عليه في مقالات لاحقة ـ سداة هذه الجذور هي علاقات الإنتاج أو طرائق العيش. فالذين يؤمنون بالنصوص على أنها أوامر إلهية هم الذين لا يؤمنون بخلق الثروات ولا يعملون مباشرة فيه كالتجار والفلاحين المعتمدين على الزراعات المطرية والشعوب ذات الإقتصادات الريعية. أما الذين يعملون في خلق الثروات كما في المجتمعات الرأسمالية الصناعية المتقدمة فعامتهم تتجاوز النصوص الدينية ولا تؤمن بها؛ لذلك تجد الدول الغنية قد ابتعدت عن الدين والعبادات بخلاف الدول الفقيرة الغارقة بالأفكار الدينية والتي تفسر تخلفها وهزائمها بمشيئة الله. أضف إلى ذلك أن الدين، أي دين، لم يعد هو العلاقة بين الله والمؤمنين بل أصبح أحد عناصر مركبات الهويّة ولذلك تتباين بمقدار أو بآخر أديان القوميات المتجاورة حتى وهي تعود لذات المرجعية، فلكل من اليمن والسعودية وعمان والإمارات إسلامها المختلف بالرغم من أنها دول عربية متجاورة؛ كما لكل من ألمانيا وفرنسا وإنكلترا مسيحيتها المختلفة وهي دول متجاورة.
المفارقة الغريبة في هذا السياق هي أن المؤمنين بالتغيير وفق ما جاءت به الرسالات السماوية وكرسوا حيواتهم لإنجاز مثل ذلك التغيير هم في حقيقتهم كفرة فالتغيير الذي عمل الرسل من أجله ليس هو التغيير المطلوب اليوم ولا يمكن أن يكون. ولو عاد الرسل إلى الحياة اليوم لعملوا لتغيير آخر يختلف تماماً عن التغيير الذي كانوا قد طالبوا به في أزمانهم، تغيير إلى الأمام وليس إلى الخلف كما يفعل أتباعهم اليوم، هؤلاء الأتباع الذين يعاكسون متبوعيهم وهم الرسل. متى يدرك هؤلاء الأتباع مفارقة ما هم فيه فيتوبون على رسلهم ؟!

فؤاد الزاير