تحدث الناس كثيراً في أواخر عام 1996 عن قناة فضائية جديدة ذات نهج غير عربي في الإعلام أقرب ما يكون إلى نهج ال بي بي سي البريطانية، تنقل الخبر كما هو في الواقع وتعطي مساحة للرأي الآخر كما للرأي. هذا ما دفعني إلى تحميل ميزانية البيت عبئاً ثقيلاً لا قدرة لها على تحمله من أجل شراء الجهاز اللاقط بمبلغ كبير نسبياً. لكنني وجدت بمشاهدة الجزيرة آنذاك ما يبرر الثمن بل ما هو أكثر. وبلغت ردة الفعل عندي أن أرسلت رسالة شكر لأمير قطر واصفاً إياه بِ " أمير الحرية " وكانت المرة الوحيدة التي أمتدح فيها رئيس دولة طيلة حياتي الطويلة. وفعلاً شكلت الجزيرة بقعة ضوء ساطع في منطقة حالكة الظلمة وبذلك أصبحت مثالاً أعلى للإعلام حتى أن أهم الشخصيات في العالم لم تقبل فقط الظهور على شاشة عربية بل وتتمنى ذلك أيضاً؛ وبذلك أيضاً إحتلت دولة قطر الصغيرة والهامشية باعتبار البعض مساحة هامة على خارطة السياسة الدولية. فقيل في إمتداح قنال تلفزيوني كقناة الجزيرة، ودخول الكاف منقصة بحكمة شاعرنا الكبير أبو الطيب المتنبي.
بلغت الجزيرة هذا العلو رغم تقديمها للشيخ يوسف القرضاوي في برنامج أسبوعي يدعو لأفكار براها الزمن ودون أن توفر من يقابله ليبين خطل أحكامه وتهافت فتاواه. وبالرغم من أن مذيعها الأول سامي حداد ظل يتحذلق في الدفاع عن نظام كريه مكروه هو نظام بعث العراق وصدام حسين. لكن نقطتين معتمتين لا تعتّمان شاشة مضيئة بسطوعها المعهود آنذاك.
لعل ما فهمته خطأً إدارة الجزيرة هو أن القبول الشعبي للقناة هو ما رفعها إلى العلو الذي كانت فيه، وليس النهج الإعلامي الموضوعي الحر البعيد عن التسييس والتحزب. لو كان ما فهمته الإدارة صحيحاً لما وصل الأمر بأشهر المحطات الإخبارية العالمية مثل السي أن أن والفوكس نيوز وغيرهما تنقل عن الجزيرة الصورة والخبر باعتبارها المرجع الموثوق حيث أن هذه المحطات الأجنبية لا يهمها بحال من الأحوال ما إذا كان للجزيرة شعبية في العالم العربي أم لا.
أعتقد أن الشعبوية هي ما قتل قناة الجزيرة وحطّ من هيبتها وقيمتها. الشعبوية هي ما دفع بها لأن تكون بوقاً للإرهاب في المنطقة، تذيع رسائل بن لادن بصورته غير المدنية وبصوته الأحادي المغلق ليومين متتاليين وباستدراج تعليقات من معلقين كثر مختصين، بل وهي التي تسعى بالجهد والمال للحصول على مثل هذه الرسائل التي يجب ألاّ تذاع أبداً على اعتبار ذلك مشاركة فعلية في الإرهاب. كما يجب ألاّ تسمح بأن تكون رسائل بن لادن والظواهري السياسية هي سياسات الجزيرة إذ من المعلوم تماماً أن الإنحياز هو مقتل الإعلام.
من يصدق أن قناة الجزيرة ليست منحازة لعصابات الإرهاب في العراق (أو المقاومة كما تصفها الجزيرة)؟ كنت أتساءل، قبل المنع، لماذا تسمح الحكومة العراقية لقناة الجزيرة المعادية عداءً صريحاً لها بالعمل فوق أراضيها وهي تتصيد المشاهد المرعبة لجز رقاب ضحايا المخطوفين من قبل الملثمين تحت شعار "لا إله إلاّ الله" وتكرر المشهد المرعب المقزز مرات ومرات بالرغم من أن مثل هذه المشاهد محرمة وفق عهود الإعلام الدولية وتبعاً لآداب المهنة، ولا تستدعي من المعلقين على الأخبار سوى أناساً معينين خسروا كثيراً بسقوط صدام.
إنحدرت الجزيرة بمستواها لدرجة أن معظم المثقفين الذين يحترمون أنفسهم أخذوا يحجمون عن الظهور على شاشات الجزيرة في برنامج "الإتجاه المعاكس" حتى بلغ الأمر بمقدم البرنامج، فيصل القاسم، لأن يستجلب أحد عملاء المخابرات المشهورة في المنطقة للمشاركة في برنامجه خمس مرات لكأن العالم العربي خلا من المثقفين ! وحتى بات القاسم مضطراً لأن يجعل من برنامجه صراعاً للديكة من قبيل التغطية على ضعف المستوى الفكري للمشاركين واجتذاب جماهير برامج " المصارعة الحرة " القديمة.
وانحدر مستوى الجزيرة كسباً للشعبوية مرة أخرى لدرجة أنها سمحت لإحدى مذيعاتها أن تظهر بالحجاب على شاشتها وهي تعلم أن شاشتها عالمية وليست محلية وأن مظهر المذيع على الشاشة ليس ملكاً له بل للمحطة التي تصمم كل تفاصيل ظهوره على الشاشة. أعتقد جازماً أن تحجيب هذه المذيعة الجميلة الذكية الحاذقة لم يكن برغبة منها بل بطلب من إدارة الجزيرة حيث أن آخر ظهور لها سافرة كان ظهوراً إستثنائياً لم يعتده المشاهدون، كان ظهوراً شديد الإفتان من حيث اللون والملبس وكل التفاصيل الأخرى. فإمرأة تريد أن تتحجب لا يمكن أبداً أن تظهر بمثل تلك الفتنة التي ظهرت بها تلك المذيعة قبل ساعات قليلة فقط من الظهور بالحجاب !!
وأخيراً خسرنا الجزيرة، خسرنا الحرية.. ولا حول ولا قوة !!

عبد الغني مصطفى