ربما كنت من اول من طالب بتأجيل الانتخابات، في مقالات نشرت على مواقع الانترنت، ومنها (ايلاف)، وفي بعض الصحف العراقية، منذ شهر ايلول الماضي. ومطالبتي تلك لم تكن لكسب الوقت لجهة ما، او دعما لجهة اخرى تعارض اجراء الانتخابات جملة وتفصيلا. ولكن تلك الدعوة كانت لضمان مشاركة الجميع، بحرية وثقة وامان.. وللحؤول دون تحول هذه الانتخابات الى اداة في الحرب على الارهاب التي تخوضها الولايات المتحدة الامريكية.. فلن يمكن جني اية فوائد من انتخابات تجرى في ظروف بالغة الدقة والتعقيد، وغير مضمونة النتائج، الامر الذي يجعل هذه الانتخابات عرجاء، او على اقل تقدير في حاجة الى الكثير من المساعدة للوقوف على قدميها يوما واحدا.

فعديد قوات الامن التي ستحرسها قد يفوق المائتي الف من العراقيين، واقل قليلا من القوات المتعددة الجنسيات، ناهيك عن الذين تطوعوا لهذه المهام من القوات التابعة للاحزاب (الميشيات)، وحتى المدنيين.. ومنع تجول المركبات سيطبق قبل اكثر من يوم على موعد الانتخابات، ويستمر لما بعدها، وستقوم القوات المتعددة الجنسيات بحماية مداخل المدن، ووسط الاكثر اضطرابا منها، فيما ستحوم المروحيات والمقاتلات فوق سماء جميع المدن، بلا تمييز. وهذه كلها ترسم جو المعارك الحربية، التي طالما شهدها الشعب العراقي خلال العقود الثلاثة الماضية.

وقد اثرت تساؤلا في مناسبات عدة عن جدوى هذه الانتخابات مع جميع هذه الضغوطات، والتأثيرات السلبية عن الناخبين، وعدم وجود فارق واضح بين الحكومة الحالية وتلك التي ستتمخض عنها الانتخابات.. بل انها قد تكون مكونة من الرموز نفسها والاشخاص عينهم. وما الفائدة من تلك الانتخابات اذا كانت هناك امكانية للطعن فيها، كما تلمح الى ذلك عناصر كثيرة داخل العراق، واخرى خارجه، على المستويين الرسمي والشعبي.

فالحكومة العراقية الحالية، التي تشكلت تحت مظلة الامم المتحدة واخذت شرعيتها منها اولا، ثم من معظم دول العالم ومنظماته الدولية، تلك الحكومة سرعان ما اصبحت عاجزة، مشلولة امام معظم المشاكل التي يعاني من البلد، سواء تلك التي يمكن حلها لاي حكومة عادية، سواء كانت منتخبة ام غير منتخبة، او المستعصية التي لن تستطيع اية حكومة حلها، سواء كانت منتخبة ام غير منتخبة. وكان الاحتجاج دائما يقوم على كون الحكومة (معينة) وليست (منتخبة)، وبالتالي فهي لن تستطيع محاربة الفساد الاداري، او التخطيط لمشاريع عاجلة لرفع معاناة الشعب العراقي، او ادارة موارده بشكل عادل.. او محاربة الجريمة والارهاب.

وهكذا.. اصبحت الانتخابات هي الحل لكل تلك المشاكل، لانها ستطلق يد الحكومة (المنتخبة) في العمل من اجل بناء العراق الجديد (الحر الديمقراطي)، ومحاربة قوى (الظلام والارهاب).. ولم يعد امام غالبية الشعب العراقي سوى انتظار موعد الانتخابات (30 كانون الثاني 2005) بنفس الترقب الذي انتظروا فيه موعد استلام السيادة (30 حزيران 2004)، ويكاد يشابه ترقب هذا الشعب تحريره من الطغيان (9 نيسان 2003). ولن تنهي ترقبات الشعب او اماله مع مرور اخر هذه التواريخ. فلازالت هناك خطوة كتابة الدستور والاستفتاء عليه (15 اب 2005) والانتخابات بموجبه (15 كانون الاول 2005)، اذا سار كل شيء حسب المخطط.. ويبدو ان هذا المخطط محتوم ايضا.

على كل حال، فموعد الانتخابات بات مقدسا ولن تجدي اية محاولة في مناقشته الان.. فقد وضعت كل الامور على هذا المسار، والعد التنازلي قد بدأ فعلا. فماذا عليّ ان افعل كمواطن له حق الانتخاب؟ ايماني بالديمقراطية يجعلني اسلم بان المشاركة في تلك الانتخابات واجب وطني، علاوة على كونه حق.. فحتى لو كنت غير مقتنعا بها، لابد ان اشارك فيها.. ولو بورقة بيضاء. ان عدم المشاركة لا يعني عدم الموافقة، وانما يعني عدم الاهتمام، او عدم القدرة. لذلك فان ما سافعله صباح الثلاثين من كانون الثاني هو ان اتوجه الى المركز الانتخابي لادلي بصوتي.

لمن؟ لم اقرر بعد، وكثيرون غيري لم يقرروا بعد ايضا. فالدعاية الانتخابية لم تكن ابدا بمستوى تلك التي طالما شهدناها عبر وسائل الاعلام في بلدان العام المختلفة.. والمناظرات معدومة، والبرامج المعلنة للكيانات السياسية هزيلة ومكررة وغير مقنعة، والغموض يلف اسماء المرشحين، والمعلن منها لا يتجاوز من هم فعلا في الحكومة الحالية، او من يساندها من شخصيات حزبية وسياسية.

فهل ساصوت للقائمة التي تدعي انها تضمن كتابة الدستور على اسس صحيحة وشرعية؟ ام للقائمة التي تدعي انها ضمانة الامن والاستقرار؟ ام للقائمة التي تدعي انها تضم اعرق الشخصيات الوطنية؟ ام للقائمة التي تعتقد انها ركن واساس قوة العراق؟ ام...

ام ان عليّ ان اترك الدعاية المبهرجة، لاعود فانبش تاريخ الشخصيات الرئيسة في تلك القوائم، لانني باي حال لان استطيع التعرف الا على تلك الشخصيات، فاستذكر ما قدموه فعلا خلال ما يقرب من عامين مضت. وحينها سارى من قال اكثر مما فعل، ومن فعل اكثر مما قال؟ من كان يعمل لاستمراره في السلطة بغض النظر عن المصلحة العامة، ومن كانت تحدوه رغبة في الخدمة العامة (وبناءا على ذلك يؤسس مجدا شخصيا)؟

لاشك ان الخيار سيكون صعبا، ولكن هناك بداية صحيحة، في رأيي على الاقل، للاختيار.. واتمنى ان اصل الى اختيار، ولا اضطر الى وضع ورقتي فارغة في الصندوق، الذي تحميه اطواق امنية عديدة على الارض، وطائرات الهليكوبتر من السماء.