نشرت صحيفة الأهرام في بريد قرائها رسالة مفعمة بالألم من أستاذ فاضل يتساءل تساؤلا موجعا: إلى متى سيتعثر صدور قانون زراعة الأعضاء في مصر مما يحول دون إنقاذ حياة العديد من المرضي ؟ ويشير سيادته إلى أن سبب تعثر صدوره هو البلبلة التي تثيرها مجموعة من الأطباء حول هذا القانون بحجة إمكانية التلاعب في تشخيص "موت جزع المخ".
ولم يمضي يومان على نشر هذه الرسالة حتى أبرز الباب تعقيبا من أحد القراء يستنكر فيه " محاولة ضخ الدماء في شرايين المشروع المتجمدة" وواصفا له بأنه " مشروع استثماري الهدف منه هو السطو على أجهزة جسم الإنسان وذلك باستحداث موت أطلقوا عليه الموت الإكلينيكي ليكون موتا شرعيا تقننه البلاد ويسري على العباد".
ويستطرد القارئ الذي يتضح من ألقابه التي أوردها أن الطب أو التشريع ليسا من ضمن تخصصاته قائلا:" الموت الشرعي وليس الإكلينيكي هو الذي ينتقل به الإنسان إلى الحياة البرزخية ". وأوضح سيادته أن الموت الشرعي الذي حدد الشرع ملامحه تحديدا قاطعا جامعا هو مفارقة الروح للجسد مصحوبة بثمان علامات من ضمنها: العلامة الثانية: " تغلظ في الشفتين". العلامة الثالثة: "اعوجاج في الأنف يسارا". أما العلامة الأخيرة فهي " زيادة ملموسة في الوزن".
وبما أن لحظة صعود الروح إلى بارئها تعجز الحواس البشرية عن اقتناصها، فطبقا لهذا الكلام يكون على الطبيب والمريض المتلهف على تلقي هبة العضو المنقول الانتظار حتى التحقق من العلامات المذكورة في جسد المتبرع ومنها الاعوجاج في انفه (بشرط أن يكون ناحية اليسار !!).. من المؤكد أن الانتظار سيطول حتى تصبح كل الأعضاء بلا نفع إلا للتراب.
وفي نهاية كلمته ألقم الكاتب كل من تسول له نفسه الاعتراض حجرا بأن قال منذرا محذرا:" فتلك حدود الله فلا تعتدوها بأسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان والله المستعان على ما تصفون".
ولا يدعي الكثيرون العلم بما ذكره القارئ ولكن لا يجوز أن تظل وجهة نظره هذه هي فصل الخطاب في هذا الموضوع الحيوي الذي يحمس حياة المصريين. ومما يثير العجب أنه من المعروف أن رجال الأزهر الشريف قد أجازوا تشريع نقل الأعضاء وأن العديد من الدول الإسلامية قد أخذت به وتطبقه فعلا.
ومن تحصيل الحاصل أن نُذكر بأن قضية الموت الإكلينيكي وموت جزع المخ كمؤشر للوفاة قد حسمها العلم واتفقت عليها الهيئات العلمية منذ زمن طويل وتمارس بموجبها عمليات ناجحة لنقل الأعضاء كل يوم في كل أنحاء المسكونة ووضعت لها ضوابط وقيود لا تسمح بالتلاعب في مسألة الحياة والموت.
لا بأس.. فالإنسان المصري العادي لا يفترض فيه أن يتابع الدوريات الطبية العالمية وكفاه أن يستقي معلوماته من جريدة عريقة كالأهرام. هذا الإنسان البسيط الذي قد يرغب في أن يهب عضوا من أعضائه بعد عمر طويل أو يعطي الإذن بذلك نيابة عن قريب له أصبح في عداد الموتي.. هذا الإنسان من المؤكد أنه يبغي مرضاة الله وليس مخالفته ولذا فمثل هذه الرسالة كفيلة بأن تملأ نفسه بالمخاوف والشكوك.
ولذا فقد كان من الضروري أن لا يُترك هذا الكلام بدون تعقيب بل كان يجب أن يُنشر وبسرعة وفي نفس المكان ( لأن بريد الأهرام في مقدمة الأبواب المقروءة ) رأي العلماء الأفاضل الذي يريح بال قراء الباب ويجعلهم يقدمون على هذا العمل الإنساني بضمير مستريح (طبعا هذا لو كُتب للقانون أن يخرج يوما من أدراج مكاتب مجلس الشعب التي يقبع فيها منذ أزمنة).
وقد يكون من الصعب الاستعانة ببعض العلماء والمفكرين من داخل بيت الأهرام. فالمفكر الكبير مشغول بدس السم في العسل فيما يدبجه من مقالات. والعالم المتبحر غارق في عمله الموسوعي وهو تحويل الكتب السماوية إلى مرجعيات في الذرة والفلك وغزو الفضاء وعلم الأجنة وطبقات الأرض.. الخ.. الخ.
ولكن مصر عامرة بعلماء الدنيا والدين الأجلاء الذين يعنيهم بلا شك أمر المرضي المساكين الذين لا يملكون القدرة على شراء ما يحتاجونه بالمال أو التماسه في الخارج.
هؤلاء العلماء الأفاضل بيدهم أن يوضحوا الأمور بجلاء ويحثوا المصريين على إنقاذ أخوة لهم يعيشون حياة معذبة تختتم بموت مؤلم بسبب الأعضاء التي نهشتها البلهارسيا والأكباد التي تهرأت من الفيروسات الوبائية والرئات التي تفحمت من دخان السجائر والشيشة وسموم العوادم والاسبستوس.
هل هناك رسالة أجل من تلك ؟!
وكفانا مأساة بنوك القرنية التي أغلقت أبوابها. كيف يعيش ويستمتع بالحياة والنور كل من تسبب في أن يظل ألوف المصريين يتخبطون في الظلام بعد أن مُنع عنهم غشاء رقيق كان من الممكن أن يعيد النور لأعينهم وتُرك لتستمتع به ديدان الأرض ؟!!
أما لو كان هذا الكلام غير وارد وأن قانون زراعة ونقل الأعضاء لن يري النور، فمن الواجب مصارحة المرضي وأهاليهم بذلك.. واليأس إحدى الراحتين..
ومن الضروري أيضا إيضاح ذلك بجلاء لأساتذة الطب حتى يعرفوا كيف يفحموا من يعن له التساؤل باستنكار في المحافل العلمية العالمية عن سبب عدم ممارسة نقل الأعضاء في مصر. كل ما عليهم أن يقولوه (بشرط أن ينفخوا أوداجهم ويقولوه بعزة وأنفة ): نحن قوم لنا هويتنا الاجتماعية والثقافية وثوابتنا الاقتصادية والسياسية ولنا أيضا خصوصياتنا "الموتية"
[email protected]