لعل من اهم التطورات التى طرأت على العلاقات الاميركية-العراقية بعد اسقاط النظام العراقى السابق هو التلميح لاول مرة بوضع جدول زمنى لسحب القوات الاميركية من العراق. لقد كان تصريح الرئيس العراقى المنتخب حديثا السيد جلال الطالبانى بان العراق ربما يحتاج الى سنتين اضافيتين للتمكن من استلام المهام الامنية فى العراق بصورة كاملة و ثم الاستغناء عن القوات المتعددة الجنسيات موضع ترحيب و تقدير من قبل الجانب الامريكى. و لهذا بادر الجانب الامريكى بالرد بسرعة على اقتراح الرئيس العراقى و على لسان السناتور ريشارد لوكر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية الواسعة النفوذ فى المجلس الشيوخ الامريكى حيث انتهز السناتور لوكر هذه الفرصة فى مقابلة له مع محطة سي ان ان الاميركية فى العاشر من الشهر الجارى و صرح بان السقف الزمنى المقترح من قبل الرئيس العراقى الحالى يتطابق مع التصور الامريكى للانسحاب من العراق.
لا شك ان لهذا التطور النوعى فى العلاقات العراقية –الاميركية ابعاد استراتيجية عراقيا و امريكيا و عربيا و اسلاميا و دوليا اذ ان التجاوب الامريكى الايجابى مع تصريح الرئيس العراقى لانسحاب القوات الاميركية من العراق فى مدة زمنية محددة يتفق عليها حسب تصريحات السناتور لوكر بين الطرفين العراقى و الامريكى فى محادثات تبدأ قريبا بهذا الشأن سيزيح بالدرجة الاولى الشكوك المتبلورة لدى بعض الاطراف العراقية و الخارجية حول النوايا الحقيقية للوجود الامريكى فى العراق و و يلغى صفة الاحتلال على وجود هذا القوات فى العراق باعتبارها قوة محررة جائت لانقاذ الشعب العراقى من دكتاتور دموى و سهل للعراقيين تاسيس نظام ديمقراطى فريد من نوعه فى الشرق الاوسط اذا استمرت العملية السياسية الحالية.
و الفرق الرئيسى بين قوات محتلة و قوات محررة هو بان القوات المحتلة تغزو عادة اقليم دولة ما للأستلاء على اراضيها و ثرواتها الطبيعية و اخضاع شعبها للارادة الاجنبية و هى تتدخل فى هذا الاقليم بالرغم من معارضة السكان للغزو و تبقى فيه بالرغم من مطالبتهم لها بالرحيل. و لكن نفس هذه القوات يمكن اعتبارها قوات محررة اذا تدخلت فى هذا الاقليم بدافع انسانى كانقاذ الشعب من ظلم حاكم غير شرعى و كاستجابة لرغبة الاكثرية الساحقة من سكان هذا الاقليم لانقاذهم من ظلم الحاكم. و هذه القوات بكونها قوات محررة تكون فى هذه الحالة مستعدة ايضا لمغادرة البلاد متى اكملت مهاتها النبيلة التى جائت من اجلها او بعد طلب من هذا النوع من قبل الحكومة الشرعية الجديدة.
و هذا هو ما حدث و ما يحدث فعلا الآن فى العراق. اذ ان التدخل العسكرى الامريكى و حلفائها فى العراق للاطاحة بنظام دموى فاشى كان بمثابة هدية تاريخية بالنسبة للاكثرية الساحقة للشعب العراقى و كان هذا الشعب قد سبق له و هيأ نفسه لهذا التدخل سنة 1991 ابان حرب تحرير الكويت حيث استجاب لنداء الرئيس الامريكى الاسبق جورج بوش و قام بانتفاضة باسلة لاسقاط النظام البعثى و حرر الجزء الاكبر من العراق من جلادى النظام السابق و كان بانتظار دعم الحلفاء بقيادة اميركا لاسقاط النظام السابق الى الابد و لكن الظروف الدولية غيرت مجرى الامور لصالح النظام البائد و انتهت الانتفاضة بمجزرة دموية راحت ضحيتها الآلاف من المواطنين. و لعل التدخل الامريكى لاسقاط النظام الدكتاتورى فى آذار 2003 كان بمثابة تصحيح لهذا الظلم الذى ارتكب بحق الشعب العراقى من قبل الحلفاء و خاصة اميركا.
و الاعلان الامريكى عن استعدادها للانسحاب من العراق فى فترة زمنية محددة هو دليل آخر على ان التدخل العسكرى الامريكى فى العراق لم يكن الا تدخلا انسانيا و لهذا تعتبر القوات الاميركية و حلفاءها فى العراق قوات محررة و ليست محتلة. و من الغريب ايضا بان تسمية الاحتلال على الوجود الامريكى و حفاءها فى العراق لم تاتى من الجانب العراقى بل من الجانب الامريكى و البريطانى نفسه و ذلك فى الرساليتين الموجهتين من قبل ممثلى الدولتين فى الامم المتحدة الى مجلس الامن بتاريخ 8.5.2003 طالبا فيها مجلس الامن بالاعتراف بالوضعية القانونية كمحتلين لوجود قوات دولتيهما فى العراق.
و لكن الآن و بعد الاعلان الامريكى عن استعدادها للانسحاب من العراق فى فترة زمنية محددة يتفق عليها مع الطرف العراقى ازيلت الى حد كبير الشكوك و الغموض عن النوايا الاميركية و حلفائها فى العراق.
صحيح بانه بوسع الجانب العراقى الاستغناء عن دعم القوات المتعددة الجنسيات فى العراق فى اى وقت يرغبه و حسب قرار مجلس الامن 1546 و لكن هذه القوات تلعب الآن دورا مهما للحفاظ على الامن و الاستقرار فى العراق و تشكل ردعا امام الطموحات الاقليمية فى ارض و ثروات العراق، بالاضافة الى كونها عاملا رئيسيا و لكن ليس العامل الوحيد لترسيخ الحياة الديمقراطية فى العراق و اسناد التعايش السلمى بين كافة الطوائف العراقية لان استعداد العراقيين انفسهم لتبنى النظام الديمقراطى و نبذ التفرقة الطائفية و نضوجهم السياسى يشكل هو العائق الاكبر امام عدم نشوب حرب اهلية فى العراق او ظهور نظام دكتاتورى فيه و الا فان وجود قوات اجنبية او دولية فى دولة ما لوحده لا يشكل ضمانا كافيا امام ظهور الدكتاتوريات ونشوب حرب اهلية فى هذه الدولة. فمثلا وجود القوات الاميركية و قواعدها فى كوريا الجنوبية لم يستطيع منع الدكتاتوريات العسكرية المتعاقبة من الاستلاء على الحكم فى هذه الدولة بين سنوات 1961-1992 و نفس الحالة تطبق على الفلبين التى خضعت لنظام دكتاتورى شبيه بالنازية لمدة عشرين عاما بالرغم من وجود قواعد امريكية فيها الى ان اطاح الشعب بنظام ماركوس سنة 1986 فى انتفاضة شعبية و كذلك لم تستطيع القوات الاميركية الموجودة فى بنما منع الدكتاتورية العسكرية من الحكم فيها منذ سنة 1968 الا سنة 1989 حيث قامت هذه القوات بالقاء البقض على الدكتاتور نوريجا. و حتى فى الوقت الحالى فان للقوات امريكية و اجنبية اخرى وجود فى بعض الدول التى من الصعب جدا تصنيفها باى شكل من الاشكال كديمقراطيات. و بالنسبة للحرب الاهلية فان الحرب الاهلية اندلعت فى اليوغسلافيا السابقة فى التسعينات القرن الماضى بالرغم من وجود قوات دولية ادت الى حملات للابادة الجماعية ارتكبت بعض المرات امام اعين هذه القوات و حتى فى رواندا حيث راح ضحية جرائم الابادة الجماعية اكثر من 800000 انسان عام 1994 فكان هناك وجود لقوات دولية فيها.
هذه الدلائل تثبت بان ما انقذ العراق من شبح الحرب الاهلية بالرغم من كل المحاولات الداخلية و الخارجية هو التقيم الصحيح للمعادلات السياسية من قبل العراقيين و نضوجهم السياسى و ايمان هذا الشعب بالتعايش السلمى و القيم الديمقراطية و العدالة. و لكن بلا شك فان غياب القوات المتعددة الجنسيات فى الوقت الحالى سيؤدى الى عواقب وخيمة فى العراق لا يمكن تصورها.
و لكنه من المحق ايضا السوآل عن مغزى و دوافع هذا التغير الطارئ فى السياسية الاميركية اتجاه وجودها العسكرى فى العراق. و لعل الاجابة على هذا السوآل لا يشكل صعوبة كبيرة بالنسبة لكل من يهتم بالسياسة الخارجية الاميركية التى تتسم بالمرونة و الديناميكية و ألتأقلم السريع مع الظروف المتغيرة.
الموقف الامريكى الجديد اتجاه وجودها العسكرى فى العراق له اسباب دولية و اقليمية و داخلية عراقيا و امريكيا:
1.دوليا: لو كان التدخل الامريكى فى العراق للاطاحة بنظامه السابق له شرعيته فى نظر للاكثرية الساحقة من العراقيين و لكن قسما كبيرا من المجتمع الدولى و من ضمنه ثلاثة اعضاء لمجلس الامن لا يشاطر الشعب العراقى فى رأيه هذا و حتى منظمة الامم المتحدة و على لسان امينها العام كوفى انان وضع علامة استفهام على شرعية التدخل الامريكى العسكرى فى العراق خاصة بعد فشل اميركا و حلفائها فى العثور على اسلحة الدمار الشامل و التى كانت الهدف الرئيسى للحملة العسكرية الاميركية. و اميركا كالقوة العظمى الوحيدة المتبقية فى العالم و التى تدعى لنفسها ايضا بانها حامية الحرية و حقوق الانسان فى العالم ترى بانها يجب عليها ابعاد شبهة اللاشرعية فى سياستها الخارجية عن نفسها خلال خروجها من العراق و جعل الحملة باكملها تظهر بمظهر التدخل الانسانى و تحرير شعب من الدكتاتورية و نشر الديمقراطية فى العالم الذى له شرعيته فى القانون الدولى و القانون الطبيعى. هذا بالاضافة من ان سمعة اميركا فى العالم عانت الكثير من جراء بعض الممارسات اللامسؤولة من قبل عدد من المنتسبين العسكريين الامريكيين على مثال الخروقات لحقوق الانسان التى حدثت فى سجن ابو غريب بحيث فقدت اميركا الكثير من التعاطف الذى حصلت عليه من جراء العمليات الارهابية على اهداف فى نيويورك و واشنطن.
من هنا يبين بان اميركا هى مهتمة جدا بتحسين صورتها فى العالم و ان الانسحاب من العراق او التلويح به هو جزء من هذه الجهود.
2.اقليميا: مصطلح الاقليمى يشمل ايضا البعد الاسلامى حيث انتشرت فى العالم الاسلامى كراهية لا مثيل لها فى تاريخ المنطقة ضد كل ما هو امريكى او غربى و هذه الكراهية تترجم فى بعض المرات الى اعمال عنف ارهابية دموية يذهب ضحيتها المسلمين و غير المسلمين و حتى فى بعض الدول التى لم تكن تعانى من ظاهرة الارهاب فى اقاليمها. و الذريعة الرئيسية وراء هذا التطور هى التدخل الامريكى فى العراق و الممارسات الخاطئة لبعض منتسبى الجيش الامريكى فى العراق التى لا مبرر لها و التى تترجم فى بعض الاحيان من الجانب الاسلامى كاهانة لكل المسلمين و هو اتهام غير صحيح لان نفس هذا لجيش الامريكى سبق له و قد انقذ مسلمى البوسنا و الكوسوفو من خطر الابادة الجماعية على يد جماعات تدين بالمسيحية. بهذا اصبح العراق ميدانا لشن حرب على اميركا و حلفائها من قبل جماعات تتمتع بدعم مادى و معنوى و لوجستيكى من قبل اطراف دولية و اقليمية عدة. خروج اميركا من العراق يضعها فى موضع القوة اتجاه الجماعات المعادية لها والتى تتهمها بالعداء للاسلام اذ لا مصلحة لاميركا فى مواجهة اكثر من مليارد مسلم فى العالم.
3.عراقيا: لا شك بان الاكثرية الساحقة من العراقيين تنظر الى التدخل الامريكى فى العراق و الاطاحة بنظامه اللاشرعى كعملية انقاذ لهذا الشعب من نظام دموى وحشى حول العراق الى مقابر جماعية و شرد الملايين من ابنائه. و لذلك رحب العراقيون بالقوات الاميركية و القوات المتحالفة معها عند دخولها العراق و حتى الجيش العراقى لم يكن مستعدا للدفاع عن النظام السابق مما ساعد على انتهاء الحرب بهذه السرعة و باقل نسبة من الخسائر.
و لكن الشعب العراقى كان ينتظر اكثر من ذلك، خاصة بعد ما عاناه من حرمان و بؤس تحت ظل الحصار الدولى لمدة اكثر من عقد. الشعب كان يعتقد بان تحريره من النظام الدكتاتورى سيجلب له ايضا الرفاهية و تحسن فى توفير الخدمات الاساسية و قلع بؤر الفساد.
و لكن ما حدث بعد سقوط النظام كان بعيدا عن آمال و تطلعات العراقيين اذ تدهورت الخدمات الاساسية و الحالة الصحية للمواطنين و توسعت دائرة الفساد الادارى داخل اجهزة الدولة حيث الرشاوى و سرقة اموال الشعب و المحابات و المحسوبية و الاعتماد على الانتماء العشائرى و العائلى والطائفى وليست المؤهلات لتوزيع المناصب الحكومية و لذلك ازدادت ظاهرة البطالة والتسرب من المدارس و نسبة سوء التغذية بين الاطفال العراقيين وصلت حسب تقرير للامم المتحدة الى معدلات لم تسبق لها مثيل حتى تحت الحصار الدولى. صحيح بان الامريكيين لا يمكن ان يكونوا مسؤولين عن كل هذا المشاكل اذ هى تعود بصورة رئيسية الى تراكمات الماضى و عجز فى الشعور بالعدالة لدى قسم كبير من النخبة السياسية العراقية و الدليل على ذلك بان نفس هذه المشاكل خاصة الفساد الادارى موجودة فى منطقة كردستان ايضا و لو ان الامريكيين لم يحتلوها و لم يتدخلوا فى شؤنها الداخلية و هى كيان شبه مستقل منذ سنة 1991. و لكن مع هذا فان اكثرية العراقيين تلقى اللوم على عاتق الامريكيين و يعتبرونهم مسؤولين عن الوضع المزرى فى العراق و البعض اظهر شكوكا عن النوايا الحقيقية للتدخل الامريكى فى العراق مما ساعد على تصاعد حدة الاعمال الارهابية لهذا فانه من المعقول جدا بان يفكر الامريكيين تسليم زمام الامور كليا الى العراقيين للتخلص من هذه المسؤولية و ابعاد الشبهات عن انفسهم و مع كل ما يترتب عليه من عواقب وخيمة امنياو اقتصاديا بالنسبة للعراقيين.
و بصورة عامة فان القرار الامريكى بالانسحاب من العراق له هدفين رئيسيين على المستوى العراقى:
1- سحب البساط من تحت اقدام كل الذين يدعون بان اميركا جائت لتبقى فى العراق و لتستولى على ثرواتها الطبيعية و خاصة الجماعات الارهابية و كذلك كل الذين كانوا يطالبون بجدول زمن لخروج القوات الاميركية كشرط للاشتراك فى العملية السياسية فى العراق. و بذلك اصبحت هذه الذريعة الآن باطلا لان اميركا تجاوبت لمطالبهم و الكرة اصبحت الآن فى ملعبهم.
2- توجيه تحذير الى الاطراف السياسية الحاكمة فى العراق بان اميركا سوف لن تبقى الى الابد فى العراق لحمايتهم و لذلك عليهم الاسراع بتاسيس المؤسسات الديمقراطية و وضع حد للفساد الادارى و احتكار الوظائف الحكومية على اسس طائفية و عشائرية و عائلية لانه ليس من المعقول بان تضحى اميركا بارواح الآلاف من ابنائها و تنفق عشرات المليارات من اموال دافعى الضرائب الامريكيين من اجل نخبة سياسية كانت عاجزة عن اسقاط او حتى محاربة النظام السابق و تسلم الحكم عن طريق التضحيات الاميركية و حلفاء اميركا و لكنها تعتمد الآن نمط حكم هو عكس ما يؤمن به الامريكيون اذ لا يمكن الادعاء الآن بان العراق هو دولة القانون و النظام السياسى فيها يتسم بالشفافية و المساوة و تكافوء الفرص بل بالاحرى فان الحكومة العراقية كانت تعتبر لجد الآن من اكثر الحكومات فسادا فى العالم و اكثر الاحزاب التى لها تاثير فى الساحة العراقية حاليا ليست لها تراثا ديمقراطيا. و هذا قد يعنى بان الامريكيون يموتون فى العراق و يبذرون اموالهم من اجل نشر الفساد و و اللامساواة و اللاعدالة فى العالم.
اميركا و الاطراف العراقية تعرف جيدا ماذا سيكون مصير العراق فى حالة خروج مفاجئ للامريكيين من العراق و الصومال ليست الا مثالا حيا لما يمكن التنبأ به و ان الكثير من الكراسى الفخمة على منصة الحكم فى العراق سينزلق الى الهاوية مع خروج هذه القوات. هذا واقع يجب قوله على كل من يرى بان قول الحقيقة هو فرض عين.
4.امريكيا: اميركا كدولة ديمقراطية عريقة يجب ان تعتمد فى سياستها الداخلية و الخارجية على الرأى العام الامريكى و الادارة الاميركية قبل تدخلها العسكرى فى العراق حددت ثلاثة اهداف للحصول على دعم الرأى العام الامريكى. و الاهداف كانت العثور على اسلحة الدمار الشامل و تدميرها العراقية، و محاربة الارهاب و مساعدة الشعب العراقى وايصال المعونات الانسانية اليه. و المعلوم بان كل هذه الاهداف لم تتحقق و لذلك فان الرأى العام الامريكى شاهد تغيرا ملحوظا فى الآونة الأخيرة اذ هناك اكثرية ترى بان العراق لم يكن يستحق كل هذه التضحيات. وفيما يتعلق باسلحة الدمار الشامل فانه من المعلوم بان لم يعثر على اى منها و بالنسبة لمحاربة الارهاب فان ظاهرة الارهاب ضد اميركا و حلفائها او الغرب عموما ازدادت منذ التدخل الامريكى فى العراق و العراق نفسه اصبح الميدان الرئيسى للارهاب الدولى يحصد ارواح الآلاف من العراقيين والامريكيين و حلفائهم. و لا نتكلم عن تحسين الاوضاع الانسانية فى العراق التى تدهورت بسبب الوضع الامنى المتأزم والفساد الادارى المنتشر فى انحاء العراق.
و حتى فى مجال حقوق الانسان بالرغم من ان الوضع لا يقارن ابدا مع عهد النظام السابق و لكن لا يزال هناك مشاكل جدية و حسب ما اعلنه اخيرا اشرف قاضى ممثل الامم المتحدة فى العراق بان العراقيين لا يتمتعون بالقدر الكافى من حقوقهم اذ هناك لحد الآن اعتقالات عشوائية و حتى انباء عن التعذيب فى السجون العراقية. و اميركا كدولة ديمقراطية تحترم الراى العام الداخلى و حتى الخارجى عليها اللآن الاستجابة لمطالب مواطنيها و و وضع حد لكل هذه التضحيات البشرية و المادية الضخمة و لذا فهى فعلا صادقة بوعدها للانسحاب من العراق لان الانظمة الديمقراطية تتسم بنظام المحاسبة السياسية اى الانتخابات و ان الحزب الجمهورى الحاكم لا يرغب ابدا بفقدان مصداقيته لدى الناخب الامريكى من اجل العراق.
من هم الخاسرين من الانسحاب الامريكى؟
تغير اى معادلة سياسية يكون على حساب طرف ولصالح طرف آخر و لذلك فلا بد ان يكون هناك مستفيدين و خاسرين من الانسحاب الامريكى من العراق. ان الخاسر الاكبر سيكون الشعب العراقى الذى يعرف بان خطر الدكتاتورية لم يزل بعد بل ازداد من ظهور الجماعات المتطرفة الشرسة التى تعلن بصراحة بانها لا تؤمن بالديمقراطية و حتى الاحزاب الرئيسية فى الساحة العراقية التى تتبع الآن نهجا ديمقراطيا ليست لها تراث ديمقراطى عريق و لذلك يمكن ان تنزلق بسهولة الى هوة الدكتاتورية خاصة اذا ازدادت الضغوط عليها من قبل الجماعات المتطرفة خوفا على نفسها.
وجود القوات الاميركية فى العراق هو بلا شك العامل الرئيسى للحفاض على سيران العملية السياسية فى العراق عبر القنوات السلمية و تكوين تراث ديمقراطى فى هذا البلد. فالعراق يحتاج على الاقل الى عشر سنوات اخرى لتكوين تراث ديمقراطى فيه و تربية جيل يؤمن بالحقوق المتساوية للجميع بغض النظر عن الانتماء العرقى والطائفى والمذهبى لذا فان بالرغم من وجود رغبة جدية لدى العراقيين فى التعاييش السلمى فان الخروج المبكر للقوات المتعددة الجنسيات ستؤدى على الاغلب الى الحرب الاهلية. و كم من ديمقراطيات عريقة فى التاريخ الحديث وقعت فى ظروف معينة فى هاوية الدكتاتورية كالمانيا و اسبانيا و ايطاليا و اليونان و النمسا و البرتغال.
و لكن هناك فرق بين خاسر و خاسر.فان الاقليات العرقية و الدينية فى العراق ستكون الخاسر الاكبر لهذا التطور و خاصة الاكراد الذين دعموا القوات الاميركية علنا فى حملته على النظام السابق و ماضى الاكراد فى العراق يثبت بان هذا الشعب هو مهدد بألابادة الجماعية متى سنحت الفرصة لتنفيذ هذه الجريمة كما حدث بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية فى اواخر ثمانينات القرن الماضى. و لذا على الاكراد قبل خروج القوات الاميركية اما الاستفادة من حق تقرير المصير و تكوين دولة مستقلة لهم يحميها ميثاق الاممم المتحدة و النظام الدفاع الجماعى للدول او من الافضل المطالبة بحماية قوة دولية لحمايتهم من حملات الابادة الجماعية المحتملة. و هناك العديد من الاطراف تنتظر يوم خروج الامريكيين للانتقام من الاكراد من بينها دول اقليمية و اطراف عراقية. و كذلك مصير الاقليات الدينية كالمسيحيين و اليزيديين سوف لا يكون الافضل من مصير الاكراد اذ حملات الابادة الجماعية و التشريد ضد هذه الاقليات هى مستمرة حتى فى ظل الوجود الامريكى العسكرى فى العراق و ماذا لو خرجت هذه القوات.
و الرابح الاكبر من الانسحاب الامريكى يكونوا الامريكيين انفسهم اذ يتخلصوا من كل هذه الاتهامات ضدهم و ينقذوا ارواح الكثير من ابنائهم و يمكنهم استثمار اموالهم فى مشاريع اسثمارية بدل مستنقع الفساد العراقى و ثم يستطيعوا ان يقولوا للعراقيين والعالم هذا هو عراقكم افعلوا به ما تشاءون. و لكن من الطريف بان هناك رابحين أخرين ايضا فى هذه المعادلة ولو فى المعسكر المضاد. و هم الجماعات المتطرفة و الارهابية و القوى الاقليمية التى تحلم بيوم خروج الامريكيين من العراق لتنتقم ممن يمكن الانتقام منه و تحويل العراق الى بحر من الدم.
د.كمال سيد قادر
[email protected]
التعليقات