العراقية بين العباءة والبرتقالة:
بين حزن مجبولٍ وفرحٍ غير معلوم!
حسن المصطفى: صورتان مختلفان تتجاذبان صبايا العراق، كل واحدة منهما تشد الحبل بإتجاهها. ليس ثمة تقاطع بين الإثنتين شكلا. ربما إحداهما تخفي الأخرى أو تضمرها، فيما الثانية تزيح الأولى لصالح تكشفٍ طالما كان المجتمع يقف ممانعا له حتى في أوساطه المتعلمنة. فالعراق مهما تبدل حاله وثقافة أبنائه، يظل مجتمعا محافظا، له سمته الشرقية الخاصة والمختلفة عن سمات باقي المجتمعات العربية.
هذه السمة كانت نتيجة الشخصية المتناقضة والمتصارعة على الدوام مع ذاتها. الشخصية القلقة، غير المتصالحة مع نفسها، والواقعة بين قطبين يتجاذبانها كل حين. وهي شخصية تاريخية خلقت واقعا إجتماعيا معقدا، كما يرى عالم الإجتماع العراقي الدكتور علي الوردي.
في عراق ما بعد صدام حسين صار المشهد أكثر وضوحا. وهو بقدر ما تكشفَ عن حقائق ماثلة وأظهرها للعيان، وجعل الناس تتلمسها وتعيشها بشكل مباشر، بقدر ما زاد في هذا التعقيد.
المسرح العراقي أصبح مفتوحا، وبات ملعبا للجميع، ومختبر أفكار وأدلجات وسلوكيات، كلٌ يحاول استنباتها إن كانت جديدة، أو ترسيخها والمحافظة عليها إن كانت ضمن منظومة القيم والعادات المتبعة.
الصبايا العراقيات بدورهن يقعن ضمن هذا الجو المتصارع. فهن جزء من تركيبة هذا المجتمع، ورقم وعدد سيحدث التغيير فيه تغييرا وخلخلة في مجتمع بدأ يحاول النهوض من ركام دِكتاتوريات متعاقبة.
صورٌ كثيرة تجدها جاهزة. وبراويز معلقة على الحائط. ما على الصبايا إلا أن يخترن ما يلائمهن منها، ويجدنه أقرب إليهن مما عداه.
الإسلاميون يرفعون صورة المرأة المحجبة. العفاف، والطهر، والكرامة. العلمانيون مع صورة المرأة الحرة، التقدمية، المنفكة من قيود الماضي. آخرون لا يجدون حرجا من إختيار نماذج أخرى قد تقع وسطا بين الصورتين. هو نوع من الوسطية، أو التلفيق، أو التوفيق، وربما محاولة التأقلم مع العراق الجديد بأقل قدرٍ من الخسائر.
لا يقف الأمر عند هذا الحد. بل تجده ينزاح جهة التطرف على كلا الضفتين. ليس من الغريب أن ترى صورة قاتمة ماضوية تدعي أنها الأحق بالإتباع، على مسافة منها صورة على العكس منها تماما لصبية "ستايل" متعولمة، تدعي أنها هي صورة بنت عراق اليوم والغد!.
لك أن تقيس المسافة في ذهنك وتتخيلها.
المسافة ستأخذ طابعا حسيا وماديا. فأنت مهما حاولت ترميزها ذهنيا، سيتحول هذا الرمز تلقائيا لتجسدٍ قائم، طالما أن كل شيء ممكن، وطالما كان المشهد مُشرعاً للجميع.
لى مدى العقود الماضية سادت صورة نمطية واحدة عن الصبية، أو لنقل عن المرأة العراقية. تلك النسوة المتشحات بالسواد القادم من عاشوراء. سواد الحزن والأسى على إبن بنت رسول الله، عندما قتل في كربلاء ولم يجد من ينصره، سوى نساء ثواكل رحن يندبنه ويؤججن الثورة ضد قاتليه.
صورة العباءة المتشحة بالندب لطماً، متماهيات مع صورة السيدة زينب عندما كانت تندب أخيها، ليكن هن الزينبيات، والعقيليات، والهاشميات، وليتقمصن دور زينب متماهيات معه، غارقات في حزنه المقيم.
"أولُ ما شاهدتُهُ هنَّ: نساءٌ غارقاتٌ في السوادْ، يتمايلن على نعشٍ، ويَحْنين كما الأشجار قاماتٍ، تراءتْ لي مراياها كإكليلٍ من الشهوةِ، أولُ ما شاهدتُ كان الكحلَ والدمعَ، لذا لم أدرك الرغبةَ إلا ومضةً تلمعُ في برِّية الموتِ، أو المرأة إلا جسداً يغرق في ثوبِ الحدادْ".
يختزل المقطع الشعري السابق للشاعر اللبناني شوقي بزيع حال تلك النسوة. وهي حال تاريخية موغلة في القدمِ. خصوصا مع هذا الشعور الدائم بالذنب، واللوم المتكرر للنفس لخذلانها الإمام الحسين وعدم نصرته. وكيف أُرسلت له الرُسلَ والمكاتيب أنْ أَقدِمْ فقد إخضر الجناح، ثم من بعد ذلك ركزوا له السيوف والرماح لتقيم في جسده الطاهر.
حزنٌ وحسرة، وشعور بالذنب ظل يتوارث من جيل إلى جيل. زاد عليه تعاقب الطغاة، أمويين وعباسيين، منذ الحجاج، وصولا إلى صدام حسين. تاريخ كان ملؤه الدم، والقتل، والمجازر، والثكل، والفقد، والتشريد، والخوف، والذل، والمهانة، لم يدع فسحة للفرح والإبتسامة. ولذا كان من الطبيعي أن يكون السواد هو اللباس الدائم. وهو اللون الحاكي لما عليه الحال، والتعبير الصامت عن الرفضِ والمقاومة.
الصبايا والنساء العراقياتُ كن متماهياتٍ مع حالهن وهن يرتدين هذا الزي. صحيح أنه نتاج تقليد إجتماعي وثقافي درجت عليه البيئة. ولكنه كان تقليدا صادقا. بمعنى أن الفارق بينه وبين كثير من التقاليد المتبعة في عدد من المجتمعات، أنه لم يكن زائفا، أو إستنباتا لنبتٍ قادم من الخارج، أو موضة مبالغ فيها، بل تقليد أفرزته قبل كل شيء الحال النفسية لأناس لم يجدوا ما يعبرون به عن ألمهم سوى هذا الشعار.
لو كن العراقيات يرتدين الزاهي من ثيابٍ، والمُبهج من ملابس، سيكون ذلك هو الغريب، والطارئ عليهن. وستكون هنالك مفارقة بين السلوك الممارس، وحالُ الفردِ الممارسِ له.
سقوط الطاغية صدام حسين ونظامه البائد، شكل أول فرح للعراقيين منذ عقود طويلة. وهذا الفرح بقدرِ ما هو ممزوج بالكثير من الدم والألم، إلا أنه شكل منعطفا تاريخيا سيحدث تحولات جذرية في بنيةٍ ظلت لسنوات محافظة على نواتها الصلبة.
هذا التغيير لن يأتِ منتظما، تلقائيا، سلسا. بل سيأخذ أشكالا متنوعة من الفوضى، والسجالات، والتضاربات الفكرية والاجتماعية بين شرائح وتيارات وأفكار متباينة. ولذا ستظهر طفرات وتغيرات ربما لن تعجب الكثيرين، وربما لن تكون إلا مؤشرا عما يُعد للمستقبل من بناءٍ، وما يراد للعراق أن يكون في سياقه من منظومة متعولمة ظل معاندا لها وعصيا عليها.التغيير له صدمته، إيجابيا كان أم سلبيا. مقبولا كان أم مرفوضا. خاصة إذا طال موضوعات شائكة وحساسة، ترتبط بثقافة "العيب" و"الشرف" و"العار"، وهو المناخ المًلبد بالغيوم الذي ظهر فيه فيديو كليب "البرتقالة" بصبياه المتشحات بياضا بدل السواد هذه المرة.
تبدلٌ شكلي هام حصل هاهنا. في الفيدو كليب الأول ظهرن الصبايا متشحاتٍ بالبياض. وفي الكليب الثاني ظهرن متكشفات الفخوذ والصدور. وهاتان الصورتان ليستا على النقيض من الصورة النمطية للعباءة وحسب، بل يزاحمانها على الموقع، محاولتان تقاسم إرثها التاريخي، لصالح عهدٍ جديد يدشن بهكذا ثقافة.
الموضوع لا يرتبط بذات الأغنية. فهي لا تحمل أي قيمة فنية أو موسيقية. وحتى الفيديو كليب في حد ذاته وبعيدا عن كل ما يحيط به من ملابسات، لم يكن سوى نسخة مكررة من كليبات سخيفة سابقة "عندما تطفىء الأنوار تتشابه الفُرُوج"، كما يقول حسين الموزاني في روايته "إعترافات تاجر اللحوم". وإنما يرتبط بطبيعة التبدل الثقافي والإجتماعي للصورة النمطية للصبية العراقية، وبالصورة المُقدمة للصبايا في الفيديو كليب: جسدا، وتكشفا، ورقصا، وغنجا، وإغراء، ولباسا. فالكلمات لوحدها مطروقة سابقا. ولو غنيت بمعزلٍ عن الصبايا لن تكون لها أي شهرة تذكر.
الصورة النمطية للعباءة السوداء. وصورة الأجساد البضة المتراقصة أمام الأعين دون حشمة أو حياء، بقدرِ ما هن متصادمتان ومتنافرتان، إلا أنهما تتقاطعان سراً، وترتبطان ببعضهما البعض بخيط بحبل سري.
الرابط بين الإثنتين يكمن في أنهما وجهان لعملة واحد، طالما ظل أحدهما محجوبا وممنوعا من الظهور. وصورتان لجسدٍ واحد، هو ذات الجسد البض الذي قدم دون أي حجاب، والذي كان في ما مضى مستورا تحت هذه العباءة.
صورتان الأولى ظاهرة، والثانية مبطنة. الأولى تمثلُ السِتار، والثانية تحكي عن المستور. الأولى خطابها معلن، والثانية خطابها مضمر. الأولى ترتبط بالحشمة والعفة، والثانية ترتبط بالعيب والحرام. الأولى طالما ادعت أنها تحافظ على أنوثة لا تريد لها أن تخدش أو تصبح ملكا مشاعا. والثانية تحاول أن ترى بعض النور المحجوبة عنه إلا في الفراش.
الجسد هو ذاته. جغرافيته لم تتغير. وإنما تغير مظهره الخارجي، وأتى من يعتبر أن السواد مرتبط بحزن سابق إنتهى وولت أيامه، وبرتقال اليوم ما هو إلا تعبير عن فرح بأيام قادمة، وسرور بانتهاء حقبة دموية "تذكر ما تنعاد".
هذه القرابة السرية بين الصورتين لن تحلَ مشكلتهما. بمعنى أنه ليس من الممكن أن تتصالحا مع بعضهما البعض. ولن يكون من السهل أن يتم تتعايشا على الطريقة اللبنانية. فالأرض غير الأرض، والشعبان متمايزان.
في الضاحية الجنوبية من بيروت، والتي يحلو للبعض أن يسميها "جمهورية حزب الله" تجد صبيتان تمشيان جنبا إلى جنب. الأولى بعباءتها السوداء، والثانية بتنورتها القصيرة. المشهد لن يضير أحدا، ربما سيُفضل لو أطالت اللباس قليلا، أو تجنبت المثير منه.
هذا التصالح الثقافي بين الصورتين لبنانيا، مستعصٍ عراقيا. وهو استعصاء له أسبابه، وله ما يبرره، بل وما يجعله صحيا وسليما ومقبولا. خصوصا وأن الحزن في نظر الكثير من العراقيات لمّا يزل مقيما، فحمام الدم لم يتوقف، والمشهد العراقي موعود بكربلاءات قادمة.
العباءة والبرتقالة، وبنت العراق الواقعة بينهما، بين صورتين وثقافتين تتجاذبانها. لن يكون الخيار سهلا طالما ظل المشهدُ موجها. وطالما ظلت الخيارات مفروضة من الأعلى ومن الخارج.
الفضائيات تلعب دورها. وقنوات الفيديو كليب ستخلق بيئة مناسبة ومسهلة للتغيير.
المنابر والعوائل بدورهما ستظلان تقاومان هذا القادم من سماءٍ عالية عبر أعين الشيطان المفقوئة المعلقة على سطح كل منزل.
السياسة بدورها ليست بمعزلٍ عن الحدث. ورجال البيت الأبيض، ومجاهدوا الفلوجة، سيسعون إلى رسم صورة فتاة عراق الغد، بدل أن ترسمها هذه الصبية من تلقاء نفسها، أمام مرآتها، كما تُحب هي، لا كما يريد الآخرون.
صراع وتدافع سيطولُ أمده، وسيكون على صبايا العراق أن يخرجن من هذه الثنائيات بوعي وكياسة، وهن دون ذلك سيكُنَ سجينات "براويز" و"أُطرٍ" تفرض عليهن فرضا، لا يملكن تجاهها أي محبة، وإنما يتكيفن معها كواقع غير قادرات على مواجهته.
عراقٌ جديد، وصبايا جددٍ، في فضاء لا حد له.
التعليقات