بيروت (رويترز) - مما يميز كثيرا من قصائد الشاعر السوري منذر مصري في مجموعته الاخيرة "الشاي ليس بطيئا" ان سطوره الشعرية مدروسة بتخطيط ذهني واضح وبميكانيكية ذات سمات يختلط فيها الواقع والغرابة والسريالية. انه يستخدم كلمات الحياة اليومية المألوفة ليبني منها مشاهد وعوالم فنية صغيرة تتميز في احيان كثيرة بخروج عن المألوف لترتبط بغرابة تلفت النظر. الا ان تجربته الفنية لا تتجلى بالضرورة في حرارة تسيل من سطوره بل هي تطل من ذلك الانتقاء الغريب للصور والمعاني وتركيبها في أشكال غير عادية.. ونادرا ما تفيض مشاعر حارة من هذه السطور المملوءة بالمعاني والصور المركبة بمهارة وتميز لكن بهدوء من تجاوز بركان الحالة الشعورية وهدأ ثم اخذ في نقلها بشىء من برود من يصنع قطعا منفصلة قابلة لان تتداخل.. يشكل كل منها امرا غير عادي وينتج من مجموعها فكرة او حالة او مشهد واسع. المجموعة وهي السابعة لمصري منذ سنة 1979 صدرت عن دار (رياض الريس للكتب والنشر) في 185 صفحة من القطع المتوسط واشتملت على 35 قصيدة.

استهل الشاعر المجموعة بقصيدة بدا كان الحالة الشعورية التي ولدتها تجاوزت اللهب لا الى الجمر بل الى حالة من الترمد هي في حد ذاتها اقرب الى "جحيم بارد" وفقا لتعبير للشاعر الكبير الراحل خليل حاوي. حملت القصيدة الحافلة بالصور واقعا ورمزا عنوانا هو "الاصدقاء.. ما عادوا قتلة ضجر" وقال فيها "ما عادوا يصلحون-لدفع الايام من ظهورها-ما عاد بحوزتهم ما يملا الجماجم- الاصدقاء- ما عادوا قتلة ضجر." وينتقل الشاعر الى الاجابة بتصوير وحركة واقعيين ليعود ويصل عبرهما الى النتيجة معبر عنها مجازا. يقول "اجيبه هازلا-هل فعلت الشاي-يجيبني وعقب سيجارة-عالق في زوايا فمه..-لم تأت لشرب الشاي بل لشرب الوقت-فاخلط جده بهزلي..-الشاي ليس بطيئا-نحن مسرعون."

ونجده بعد ذلك ينقل في هدوء عقلاني رغم غرابة صوره وضعا نفسيا لكنه ينقله بصورة كانها وصف يقوم به مراقب لا يعيش في سعير تجربة بل يعمل كرسام هادىء. يقول "ابطلتها-عادة ان احتفظ بحطام-كل ما يقع من يدي-وينكسر-على ان الصقه ببعضه غدا-او بعد غد-او ان انحني والتقط حصى عن الارصفة-هذه كاملة الاستدارة-وتلك عينان مجوفتان- كانها جمجمة...-كمفتاح ضائع يطابق باسنانه- نصف وجه شخص-اعرفه." اما الامر فهو كما يقول "هو امراة ما احتاجه-تراني بغير وجهي-وتناديني بغير اسمي-لا يعيقني في الطريق اليها-اية ذكرى.."

تقريريته الفكرية ولعبة المعاني المجردة المتكررة التي تأتي في صور جميلة تبرز بوضوح تام مثلا في القصيدة الاخيرة وعنوانها "ثعلب في داخل مشمشة" التي بدأها بالقول "كان الوقت-يضع عقاربه الثلاثة-فوقي-كنت اربط الوقت- بمعصمي-كنت وقت الوقت-كنت اذا لم اصل ابدا-افضل من ان اصل متاخرا-ودائما كنت متاخرا-...- كنت احب الكره-لاني لا اقدر على شىء-سوى الحب-لكنني احببت الحب اكثر-لان الحب كان يحبني-والكره يكرهني-ولانه مكتوب على بطاقتي-تحت اسمي- المهنة..-عاشق. ويبدو ان الفقد والموت والبعد والزمن الافل موضوعات تجعل مشاعر مصري تسيل حارة اكثر مما يفعل في مجالات اخرى.

في مجموعة القصائد الاخيرة قصيدة بعنوان هو "انا دوما كما لست انا دوما" وهي مهداة "الى حارس الخديعة " يقول في ما يجمع بين التقريرية الفكرية الواضحة وبين الصور الفذة للواقع والانتقال منه الى ما هو ابعد "خذني-الى حيث اريد-...-لا اعلم اين-بعيدا عن جدران-بلا ابواب وبلا نوافذ-عليها مسامير-ترتدي ثياب من كانوا هنا-وخرجوا عراة. "الغبار يلم عن البلاط-ببواطن الاكف-ثم يجمع في قوارير-تصم-كتحف نفيسة- على-الرفوف."

وتتجلى هذه السمات في أبرز صورها في نماذج قد يكون أبرزها قصيدة "بيت مضاء لا يسكنه احد" وهي عمل مميز ورائع يذكر باجواء عند الشاعر وولتر دي لامار يقول "اذا راقبته-من نافذة بيت قريب-او من الرصيف المقابل-خلف جذع شجرة-لن ترى رجلا-يخرج او يدخل-او امراة تقف على الشرفة-لن تلمح راسا-يطل من النافذة-او ظلالا ترسم على الستائر. "وان بدافع الفضول-عبرت المسافة التي تفصل بينه وبين مكمنك-فسوف تجد مصباحا صغيرا-ينير غرة بابه وهذا يعني-ان في داخله من سوف-يفتح لك الباب اذا قرعته-لكنه الصمت-هو من يستقبلك-فاتحا لك ذراعيه-مغلقا عليك ذراعيه-مثله مثل غيابك-تدريب على الموت-وان تجرات-ودفعت الباب قليلا قليلا-فسيبهر عينيك -فجاة انفلات ضوء حاد-من الشق الذي صنعته بيدك-لان احدا-اضاء غرف البيت كلها ...-المراة الفضية الكبيرة-التي وحدها من راه-يخرج. "خرج-دون ان يغلق الباب خلفه-وكانه كان يخشى ان-يسمع صوت اغلاقه نائم...-خرج كانه سيبتاع غرضا ما-من الدكان المجاور-او خرج مسرعا-وليس لديه دقيقة من الوقت-ليضيعها بحثا عن المفتاح-وقد تنبه رغم قلقه واضطرابه- انه لن يحتاجه ابدا-لانه لن يعود ابدا-خرج دون ان يقول كلمة-او يترك ورقة صغيرة...-وكان احدا ينفخ له-بوق سيارة-...-هكذا -بيت مضاء-ولا يسكنه-احد."

قم بزيارة إلى مكتبة إيلاف واختر كتابك المفضل