د. بهجت عباس: في الجزيرة الإندونيسية فلوريس النائية جداً والتي تقع 500 كيلومتر شرق جزيرة جاوا، التي هبط عليها الإنسان الأول البدائي Homo erectus قبل مليون عام إكتشف العلماء والباحثون هيكلاً عظمياً لكائن قزم لا يزيد طوله عن متر واحد عاش على هذه الجزيرة قبل 35 – 18 ألف سنة، يُـظَـنّ به بشراً، وقد أطلق عليه الباحثون إسم Homo floresiensis نسبة إلى اسم الجزيرة وتمييزاً عن نوعنا Homo sapiens وانقرض نتيجة الثورات البركانية التي تميـزت بها الجزيرة المذكورة. وقد نال هذا الكائن كنية هوبت Hobbit ( كائن خرافي برأس إنسان وخواص أرنب ).
إكتُـشف هذا الهيكل العظمي في أيلول 2003 وأعلن عنه في 27 تشرين الأول (أوكتوبر) هذا العام، أيْ قبل بضعة أيام، وقد نُشر الإكتشاف في مجلة نيتشر التي أفردت له مقالات عدة في ذلك اليوم، وقد كُتب عنه في صحيفة نيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، وغيرهما. وتقول جريدة ديلي تلغراف البريطانية " ربما لا يزال هذا البشر عائشاً في جنوب شرق آسيا في غابات الأمطار الكثيفة ". ولكنَّ الكارديان تقول " الكائنات الصغيرة انقرضت قبل 12 ألف سنة نتيجة حمم البراكين ". ولكنْ هل لا يزال بعضهم في هذه الجزيرة البركانية التي يقطنها مليونان من الناس العاديين ؟ يقول الدكتور بيتر براون، أحد رؤساء بعثة التنقيب والإكتشاف التي شملت الدكتور مايكل موروود الأسترالي مثله والبروفيسور الإندونيسي سوجونو " إنَّ بشراً بأجسام من هذا الحجم يُفترض أنهم انقرضوا منذ ثلاثة مليون سنة ".
تبيّن بعد فحص دقيق أنَّ الهيكل العظمي هو لامرأة في الثلاثين من عمرها، طولها ثلاثة أقدام، بذراعين طويلتين وجمجمة صغيرة بحجم الكريب فروت ودماغ صغير بحجم دماغ الشمبانزي ( ثلث الدماغ البشري ). وقد افتُـرض من الذراعين الطويلتين أنها كانت تقضي معظم أوقاتها على الأشجار هرباً من الحيوانات المفترسة، وخصوصاً تنّـين كومودو ( كومودو جزيرة إندونيسية ) الذي يُعتبر أضخم تنّـين في العالم ( يبلغ طوله تسعة أقدام ) والذي وجُدت عظامه قرب موقع البحث مع عظام فئران ضخمة ( حجم أحدها كحجم الكلب الكبير ) وعظام فيلة صغار ( ستيغودون ) بحجم المهر الصغير مع عظام مهشمة لسبعة أفراد من رفاقها. وإلى جانبها كانت آلات حجرية استعملت في الصيد، كما يظهر، ولأغراض أخرى. وكانت هذه الآلات تشبه الآلات الحجرية التي اكتُشفت في جزيرة جاوا، والتي كانت بحجم أكبر، عام 1990، أيْ بعد قرن من اكتشاف عظام الإنسان البدائي H. erectus الذي كان موجوداً هناك قبل 900 ألف سنة. ولذا يعتقد بعض الباحثين أنَّ هذا الإنسان الصغير كان من سلالة Homo erectus ولكن ظروف البيئة القاسية ونقصان المواد الغذائية حولته إلى قزم، لأن الحيوانات الأخرى، كالخنزير والسنجاب وغيرهما، يُختزلون تدريجياً إلى حيوانات صغيرة قزمة، عندما تكون شُحة في الغذاء وعندما لا يشعرون بتهديد من آخرين. وكما يقول د. هنري جي ( محرر أقدم في مجلة نيتشر ) " عندما تُـترك الكائنات الحيّة مهجورة على الجُـزر مدة طويلة، تتطور في طرق جديدة لا يمكن التكهن بها، حيث يكبر بعضها حجماً، ويأخذ البعض في التقزم والصِّـغر."
يتحدث سكان فلوريس عن أساطير بوجود ناس صغار الحجم على الجزيرة يسمونهم إيبو كوكو Ebu Gogo ، فيصفونهم بأنَّ واحدهم لا يتجاوز المتر الواحد ويغطي أجسادهم الشعر، وأنهم يتمتمون فيما بينهم بلغة خاصة، وكانوا قادرين أنْ يردّدوا ما يقول سكان الجزيرة كما تردد الببغاوات. وآخِـر أسطورة تقول إنهم كانوا موجودين قبل مئة عام أيضاً. ويذهب د. هنري جي أبعد من هذا بافتراضه أنهم لا يزالون موجودين الآن في مكان ما من غابات إندونيسيا غير المُكتشفة بعد.
وجد الهيكل العظمي الذي اكتشفه مايك موروود في أحد كهوف جزيرة فلوريس على عمق تسعة عشر قدماً بجمجمة وفك وأسنان مهترئة. الدماغ صغير ( ثلث حجم دماغ الإنسان الحديث ) وهو أصغر كثيراً من دماغ الإنسان الأول البدائي الذي وجد في دمانيسي – جورجيا، غطاء الرأس واطئ مع حاجب مرتفع في المقدمة والفك الأسفل تُـعوزه الذقن تماماً، ولكن الوجه صغير ودقيق، كما هو في الإنسان الحديث، والأسنان مثل أسناننا حجماً. ولم يكن الهيكل متحجراً بل ( مهروساً ) يشبه الورق النشاف المُـبلّل، نتيجة البيئة الرطبة ومرور السنين الطوال ( 18 ألف سنة ). وقد اعتبر الأنثربولوجي برنارد وود – من جامعة جورج واشنطن – الإكتشاف ( الأكثر أهمية الذي يخص نوعنا في حياتي ). وقد راجع البحث منفرداً.
ويقول روبرت فولي ومارتا ميرازون لار من جامعة كمبردج " الإكتشافات بكل بساطة لا تحصل على أحسن من هذا. "
ولكن باحثين آخرين يشكّـون في أنَّ إنسان فلوريس له علاقة بنوعنا بتاتاً، ولكنّهم غير واثقين من تصنيفه. إذ " لا يوجد أيّ سبب بايولوجي يمكن أن تدعوه إنساناً Homo ، يجب أن نفكّـر ما هو. "، يقول الأنثروبولوجي جيفري شفارتز - من جامعة بتسبرغ.
هؤلاء الناس الذين لا يزيد طولهم عن المتر الواحد، عاشوا جنباً إلى جنب مع الإنسان الحديث قبل 38-18 ألف سنة، وقد بقوا آلاف السنين قبل أن يعرفهم الإنسان الحديث ويضايقهم فانقرضوا. إنَّ هذا الإكتشاف يعطي القصص الخرافية حول مخلوقات تشبه البشر، مثل الرجل الجليدي، أو ما ذُكر في بعض رحلات السندباد البحري – ألف ليلة وليلة – خيوطاً من الحقيقة. فلربما كانوا من سلالة الإنسان البدائي الأول Homo erectus الذي هبط على جزيرة فلوريس قبل مليون عام، وأخذوا يتضاءلون حجماً جيلاً بعد جيل، فتحولوا إلى مثل هذا الصِّغر نتيجة ظروف البيئة القاسية. وفي هذا الصّدد يقول البروفيسور موروود، مكتشفهم، " إن تقزيم الثدييات في الجزر المعزولة يقع في العالم أجمع- وفي هذا مثل صارخ، حيث أنَّ العزلة الطويلة لمجتع بشري أدى إلى اختزال في الحجم ذي أهمية، وأنَّ هذه الكائنات صغيرة الدماغ كانت ماهرة إلى درجة أنها استطاعت أن تصنع آلات حجرية دقيقة مزخرفة. " فسكان هذه الجزيرة عُـزلوا عن بقية البشر 800 ألف سنة، وهي أطول عزلة للبشر في التأريخ.
ولكن كيف وصل الإنسان البدائي Homo erectus إلى فلوريس؟ فالنظرة التقليدية حول تطوّر الإنسان هو أنَّ النوع H. erectus الذي انتشر خارج أفريقيا قبل حواليْ مليونيْ عام، وُجد في دمانيسي (جورجيا)، في الصين وجزيرة جاوا (إندونيسيا). ولم يكن معتَقَداً أنه سافر من بعد هذا إلى أستراليا. ولأنَّ أيَّ إنسان استطاع المَشيَ إلى جاوا من جنوب شرق آسيا في وقت كان مستوى البحر منخفضاً، لم يستطع الوصول إلى الجزر الواقعة شرقها، حيث تفصلها مياه عميقة لا يستطيع سبر غورها، إلاّ إذا كان استعمل القوارب، وهذه خاصية فريدة للنوع Homo sapiens ، وليست للنوع Homo erectus .
ولكنّ جماعة من علماء الآثار برئاسة الأسترالي مايك موروود نشروا بحثاً قبل ستة أعوام، إدّعوا أنَّ موضعاً في جزيرة فلوريس، شرق جاوا، يحتوي على آلات حجرية يرجع تأريخها إلى 800 ألف سنة. فجلب هذا الإدّعاء شكّاً لدى الباحثين، لأنّـه لو كان صحيحاً، فهو يعني أنّ Homo erectus قد تحرك ما بعد جاوا وقد استعمل القوارب. وإذا كان Homo floresiensis من نوع البشر الذي انقرض حديثاً، أو لا يزال على قيد الحياة، تبقى الحقيقة أنَّ نوعاً آخر من البشر عاش جنباً إلى جنب مع الرجل الحديث Homo sapiens، وهذا يعني أنَّ ثمة أشكالاً من البشر، وليس شكلاً واحداً. هذه الحقيقة، يقول د. هنري جي،
تغني مفاهيمنا في نظرية التطور من الناحية الأساسية. إذ " أنَّ التطور البشري يشبه شجيرة لها فروع وليس سُـلّمـاً. " و " حتى وقت حديث جداً صيغت فكرة التطور بخط مستـقـيم، مسار متـدرِّج يرتفع من أوطأ أشكال الحياة ويصل ذروته في الإنسان. لقد ناقشتُ في موضع آخر أنَّ هذه النظرة ليست، مع الأسف، مندثرة كما يجب أن تكون. "
ولكن البروفيسور بيتر براون، رئيس التحليلات المختبرية في فرقة الإكتشاف التي يتجاوز عددها خمسة وثلاثين شخصاً، يقول " لا نعرف فيما إذا كان هذا الإنسان قد تقزم في جزيزة فلوريس، إذ لم نشاهد له سلفاً أكبر حجماً منه. " ويتوقع الخبراء أنهم سيحصلون على مفاجئات في هذا الشأن " إذ أنَّ الإكتشافات الأثرية في المستقبل "، يقول مايك موروود، رئيس التنقيب، " ستبيّـن أن الشتات البشري أكثر تعقيداً مما كان يُـعتّقد، لذا، ربما تكون آسيا لعبت دوراً أكثر أهمية في هذه الأمور مما هو عالق بالأذهان من التفسيرات البسيطة – " من خارج أفريقيا ".
أما د. بيتر براون، فيجيب على سؤال فيما إذا كان هذا الإكتشاف قد غيّـر شعورنا حول انفرادية وحداثة الجنس البشري الحالي Homo sapiens بقوله " لمْ يدرْ في خلدي أن أفكر بأن كائناً شبيهاً بالإنسان بحجم دماغ كهذا، وربما بإدراك محدود، مثل رجل فلوريس، إستطاع عمل أنواع من الآلات، أو حتى استطاع الوصول إلى فلوريس. أعتقد أنَّ هذا هو ما يتحدى النظريات الموجودة عن ما الذي هو ليكون إنساناً على الأغلب. " ولكن د. هنري جي يقول " الفكرة أنك تحتاج إلى حجم دماغ خاص لتعمل أيَّ شيء ذكيٍّ، قد نُسفت بهذا الإكتشاف. "وللتأكد من حقيقة هذا الكائن الصّغير، يقول البروفيسور موروود إنَّ خبيراً دولياً في الدنا DNA من جامعة اوكسفورد، د. آلان كوبر، أبدى استعداداً لمساعدة فرقة التنقيب لاستخلاص دنا من هذا الجنس الجديد Homo floresiensis ، مستغرباً جداً أنّ " إنسان Homo erectus بقي حياً إلى عهد متأخر ليعاني تقزّماً أسوة بالفيلة على الجزيرة "، وأنّ جنسنا Homo sapiens هو أيضاً من سلالة Homo erectus ، لذا، فإنّ " دراسة المواد الجينية في بقايا النوع الجديد تفتح الطريق للتحليل الجيني لأسلافنا وكيف هم كانوا عليه قبل ملايين السنين." كما يقول بروفيسور كوبر. كل العظام التي اكتُشفت لـ Homo erectus كانت متحجّرة، لذا لا توجد أيّ دنا فيها. ولكنْ عظام الأفراد الثمانية من الـ Homo floresiensis لم تتحول إلى صخور، مما يكون ممكناً الحصول على دنا منها.
إنَّ كوبر استطاع الحصول على دنا من نباتات وحيوانات عاشت قبل 400 ألف سنة من بعض حفر التنقيب، لذا من الممكن أن يحصل على دنا من الهوبت ومن الآلات الحجرية الموجودة قرب عظامهم. إنَّ كهف ليانغ بوا في فلوريس أماط اللثام عن بعض الخفايا. ولكنْ كم من الخفايا لا تزال كامنة في كهوف أخرى ؟
التعليقات