مسجد "بيبي – هانم": القوام الانشائي... ملوّناً




يشغل المسجد الجامع الكبير"مسجد بيبي – هانم" في سمرقند، بازبكستان في آسيا الوسطى، والذي تم انشاءه عند تخوم القرنين الرابع عشر والخامس عشر، يشغل اهمية كبيرة ومؤثرة في مجمل الفعاليات الأساسية التى وسمت المشهد المعماري لمدينة سمرقند ؛ تلك المدينة التي اراد حاكمها واميرها في القرون الوسطى – تيمور، ان تكون من اجمل مدن العالم وأكثرها ثراء وشهرة.
تعكس مهام ممارسة بناء وتشييد المسجد الجامع الكبير في وسط مدينة سمرقند، وبمقاسات ضخمة تعكس تقليداً إسلاميا، بات امراً مألوفاً وشائعاً في فعالية التمدن الإسلامي وفي قرارات بناء المدن، فقد ظلت مفردة (المسجد الجامع) في النسيج العمراني تمثل النواة الرئيسية فيه مؤشرة معالم وخصوصية هذا النسيج ومدللة بمقياسها البنائي المنتخب على سعة أطراف تلك المدينة ومقدار تعداد سكانها! هكذا كان حال تلك الممارسة، سواء لحهة ممارسة إضفاء الطابع الإسلامي على المدن المأهولة التي تم فتحها من قبل المسلمين، او بتلك المدن التي قام المسلمون انفسهم بتمصيرها وبناءها في الأراضي المحررة التي دخلت ديار الإسلام.

تعود فترة تأسيس المسجد الجامع الكبير في سمرقند الى عام 1399 م، وتم تشييده بأمر مباشر من قبل تيمور، بعد ان عاد حاكم سمرقند مظفراً من إحدى غزواته الموفقة على الهند. حاملاً غنائم تلك الحملة و آسراها الذين قدر لبعضهم ان يشاركوا في بناء وتزيين المسجد الجامع الكبير.
لقد تابع الأمير عملية عمران المسجد بشكل دوري ومستمر. مكرماً معماريه وفنيه مستخدماً مختلف انواع المناشدة والتشجيع من اجل ان تأتي عمارة المسجد بأحسن صورة وادق زخرفة، واوسع مقياساً واكثر استيعاباً ؛ وبعد مرور خمس سنوات من العمل الدؤوب والواسع والمستمر، الذي اشترك في تنفيذه عمال وفنيين مهرة من مختلف المدن الإسلامية، اكتمل بناء المسجد الجامع وتم افتتاحه للمصلين عام 1404، ودعاه سكان مدينة سمرقند وضواحيها باسم مسجد "بيبي- هانم" على اسم زوجة الأمير تيمور- الأثيرة لديه، والتي ساهمت هي نفسها بشكل فعال في بناء وتعمير المسجد.

يشغل مسجد "بيبي-هانم" مساحة واسعة، لم يعرفها أي مبنى شيد في مدينة سمرقند من قبل، إذ شكّلت أطوال المسجد أبعاداً قدرت بـ 99×140 متراً تقريباً ؛ ويعيد الحلّ التكويتي للمسجد، الصيغ التي سبقت وأن اختيرت عناصرها سابقاً، في منشاءات أخرى مماثلة أو قريبة له معمارياً كأبنية المدارس أو الخانات.
وتشمل تلك العناصر "الصحن" وهو عبارة عن ساحة وسطية مكشوفة؛ تحيط بها الأروقة من جميع الجهات؛ وعلى امتداد المحور الطولي للمبنى يقع المدخل الرئيسي للمسجد معبراً عنه بكتلة بنائية تبرز عن حدود جدار المسجد المحيط وتحف به أبراج دائرية كما يخترق تلك الكتلة عقد مدبب ضخم مفتوح كناية عن بوابة المسجد. وثمة أربع منائر دائرية عالية ورشيقة تقع في أركان المسجد الأربعة.
يتشكل حرم المسجد من أروقة عميقة تغطي فضاءاً واسعاً، وهذا الفضاء الفسيح يتلائم مع خصوصية المكان كونه الفضاء الرئيسي لأداء الصلاة. وجميع الأروقة سواء كانت هنا في الحرم أم في المجنبتين أم في المؤخرة من المسجد الكبير تتألف من أعمدة مرمرية تسند قباب صغيرة تكوّن سقف المسجد.
في كثير من تخطيطات المساجد الجامعة يتم الانتقال من الصحن إلى الحرم عبر مداخل واسعة تخترق الجدار الفاصل بينهما (أي مبنيّ الحرم والصحن)؛ ولكن في حالة مسجد "بيبي- هانم" يتم الانتقال بين الفضاءين عبر ايوان لبوابة عالية وضخمة؛ تماثل بتشكيلاتها الهندسية عناصر المدخل الرئيسي للمسجد من حيث ضخامة الكتلة البنائية، وحضور العقد الكبير المحاط بأبراج مضلعة، وكذلك في تشابه طبيعة ونوعية التزينات المستخدمة في كلتا البوابتين.

يقود المدخل إلى قاعة رحيبة داخل الحرم خالية تماما من الأعمدة التي عادة ما "تزرع " بواسطتها احياز أقسام الحرم الأخرى؛ وهذه القاعة ذات شكل هندسي منتظم تسند جدرانها الضخمة قبة شاهقة الارتفاع ليصل علوها في الخارج إلى 44 متراً وبهذا الارتفاع فإن عنصر قبة مسجد "بيبي هانم" تلعب دورا مهما وأساسيا في اثراء خط سماء مدينة سمرقند منذ تشييد المسجد وحتى الوقت الحاضر، رغم تصدع وانهيار أجزاء كبيرة من قبة المسجد في الوقت الحالي. وإلى جانب قبة الحرم الضخمة فثمة قبتان آخريتان واقعتان على امتداد المحور العرضي للمسجد؛ في فضاء مجنبتي المسجد، يشكلان كل منهما هيئة بنائية تكرر عناصر القبة الرئيسية الموجودة في فضاء الحرم، ولكن بمقياس اصغر.

وعلى العموم، فإن المخطط المعماري لجميع قباب المسجد هو مخطط متماثل ومتشابه فالحجوم المكعبة الرحيبة تسند حجوم مكعبة آخرى أقل منهما في الضخامة، وهذه تنتهي بطبل اسطواني يحمل قبة ذات شكل نصف دائري من الخارج.
والجدير بالاشارة فإن سقف القبة في مسجد "بيبي- هانم" من الداخل، هو أوطأ ارتفاعاً من مقاس القبة ذاتها من الخارج؛ أي أن هناك سقف ثانوي يفصل بين سقف ارتفاع القبة الأصلي عن سقف فضاءها الداخلي، وهذه المعالجة نراها شائعة جدا ليس فقط في مباني سمرقند المهمة واإنما في معظم الآثار الإسلامية الضخمة التي يلجأ مصمموها إلى استخدام أسلوب التسقيف القبابي فيها.
وبهذه المعالجة الفريدة، فإن المعمار المسلم يحصل على تأكيد لعنصر القبة تكوينياً وبالتالي تمّييز المبنى ذاته ضمن المشهد البونارامي للمدينة الواقع الاثر المعماري فيها ؛ في ذات الوقت الذي يمنح الفضاء الداخلي الذي يحدده السقف الثانوي ارتفاعا كافيا، يتناسب بصورة حاذقة وكفؤ مع طبيعة واهداف هذا الفضاء ومضامينه الوظيفية.



إن وحدات المجمع المعماري Ensemble لمسجد "بيبي- هانم" مبنية على اقترنات متداخلة بين الأشكال المعمارية والاستخدمات اللونية. فثمة وحدة بنائية؛ نجدها مكررة في جميع العناصر التصميمية للمسجد، وهذه الوحدة تعتمد على توظيف منظومة المقياس التناسبي والتي بإمكانها أن تسهم في تضخيم الأبعاد بصورة واضحة، عندما تستخدم بطريقة معينة، وان يجعل بعض عناصر المسجد تبدو بمقاسات متواضعة، تتساوق مع طبيعة أهدافها ووظيفتها عندما تستخدم تلك المنظومة باسلوب آخر.
ويظل القرار التصميمي الخاص، المتمثل بحضور الاستخدامات الواسعة " للون " والتلوين في عمارة مسجد "بيبي – هانم"، يظل يمثل أمرا غاية في الأهمية والاثارة فالأثر اللوني الناجم عن توظيفات الرقش "الأرابسك" والذي يغطي سطوح جميع عناصر المبنى بدءً من تلوينات الجدران المحيطة وحتى مسطحات القباب التي كسيت باللون الأزرق الفيروزي؛ تجعل من مبنى المسجد ذاته قطعة فنية ملونة، فريدة من نوعها؛ وإذا أخذنا في نظر الاعتبار فقر المناخ اللوني للبيئة المحيطة بالمسجد؛ فإن المرء
بمقدوره بسهولة أن يدرك مدى الاحساس الرهيف والمؤثر الذي يتركه الوقع اللوني وفعله في المعالجات التصميمية- الفنية لمسجد "بيبي- هانم" وتأثير ذلك على زوار ومستخدمي هذا المنجز المعماري الفريد.

لقد تم استخدام الرقش بوحداته النباتية والهندسية بصورة مركزة وكثيفة على جميع السطوح البنائية للمسجد. فالتوريق النباتي والتضفير الهندسي، فضلا عن تكوينات الخط العربي كان لها جميعاً حضور مميز في المعالجات التزينية للمسجد، وكانت نماذجها الملونة تغطي وحدات الهيكل الأنشائي بأكمله.
ولم يقتصر الفعل التلويني على السطوح الخارجية، وإنما شملت أيضا تزينات الفضاء الداخلي للمسجد فجاءت فضاءات الحرم والفراغات المسقفة الأخرى تثير الدهشة لفطنة القرار التصميمي المنطوي على رهافة التناسب وثراء الديكور والأحساس بالفضاء الفسيح.

لقد اثرت القرارات التصميمية لعمارة المسجد الجامع الكبير في سمرقند- مسجد "بيبي- هانم" بحلولها التكوينية الرصينة وتوظيفات الزخرفة الكثيفة أثرت على مجمل المعالجات التصميمية والتخطيطية للمساجد الجامعة التي أنشئت بعد مسجد "بيبي- هانم" في عموم منطقة وراء النهر باسيا الوسطى.

وعلى الرغم من التخريب الواسع والهدم المستمر الذي رافق تاريخ المبنى، فإن مسجد "بيبي هانم "لا يزال يمتلك قدرأ كبيرا من الاهلية والتأثير نظرا لوضوح العناصر التكوينية وضخامتها وجمالية السيلويت Silhouette، ورحابة الفضاء الداخلي وبريق الزخارف التشكيلية.

عندما زرت مسجد " بيبي هانم " بداية السبعينات، لأغراض تتعلق بنوعية دراستي للعمارة الإسلامية، أدهشتني ألفة المكان؛ وحذاقة العمل المهني، وغزارة الزخرفة، وانسانية المقياس المعماري
المنتخب؛ على الرغم من ضخامة العناصر الإنشائية، واتساعها، وما برحت أن رددت مع الشاعر شرف الدين يزدي: أحد شعراء سمرقند القرن الخامس عشر، ومعاصري ظهور مسجد " بيبي - هانم "، في وصفه لمسجده المحبب بما معناه:

لولا أن قبة السماء لم تكرر هيئتها،
لظلت قبة المسجد لا نظير لها ؛
وإن عقده العالي على الأرجح كان وحيدا؛
لولا أن درب التبانة لم يكن له مماثل.!


مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانملاكية للفنون
كوبنهاغن- الدانمرك