خضع الأديب العراقي محيي الأشيقر إلى عملية جراحية في القلب في إحدى مستشفيات مالمو في السويد. وفي الوقت الذي خرج إلى بيته في حالة نقاهة يتمنى جميع أصدقائه ومحبيه التماثل السريع للشفاء. سلامة قلبك الكبير أبو الطيب ألف سلامة.
مثقفون عراقيون
العراق الجديد والمثقف المسبي في الداخل والمنفى الخارج
عندما رقد الزميل محيي الأشيقر لمدة تسعة أيام في مستشفى مالمو السويدية قسم جراحة القلب أثر أزمة قلبية ألمت به فجأة، تذكرت آلم قلبي أنا كذلك، ومرت على بالي جميع الفحوص التي أجريت لي سابقا بسبب ذات الأعراض. القهر والعزلة والكتابة المخنوقة في حيزها البعيد والمنفي، وعدم التواصل مع المحيط العضوي لما نكتبه، فتكون كتاباتنا وكل ما يلحق بها من معاناة وأوجاع وهموم أشبه بهواء في شبك.
في غضون هذه الأيام العليلة والكئيبة، حيث الوطن الجديد لا يبشر بثمره المنتظر منذ عقود من السنين، وتعصف به الأحداث الشريرة حتى صار ساحة مفتوحة لكل من هب ودب لتصفية حساباته مع الآخرين قتلا ونهبا ودمارا، وجدنا لزاما علينا المكوث في المنافي ردحا آخر من الزمن. ذلك بعد الإحساس العميق بالمرارة الذي رافقنا عند زياراتنا الشخصية اليتيمة للعراق والخيبات التي صدمتنا في الروح وأعماق النفس. في هذه الأوقات العبثية والمجنونة التي نفقد فيها أيامنا وأعمارنا كماء شحيح في بئر مهجور، تشخص عيوننا وقلوبنا نحو الأفق المأمول في عراق المستقبل. قدرنا أن نتمسك بالأمل، هذا ينبع من ثقتنا بالحياة وثقتنا بالإنسان وثقتنا بالمستقبل. لكن قوى الظلام وشراذم الحقد والكراهية والموت تضع العبوات الناسفة في عجلة الزمن لتبقي راياتها السوداء خفاقة كسحب من دخان أسود وحرائق في شوارع المدن والأحياء السكنية لنشر الذعر بين الناس ومن ثم قيادتهم إلى الجحيم. ملوك صعاليك للقتل وإفشاء الدمار، ملوك صغار يحكمون سيارة مفخخة، أو عبوة ناسفة، أو لحية مسربلة أو جسد بشري ليس له حرمة في فكرهم ولا براءة في روحهم. ملوك صغار للموت عن طريق جرائم الخطف والذبح في سبيل المال. ونظل ممسكين بالأمل بالرغم من كل المأساة التي تتراكم صنوفها كل يوم وكل ساعة. الأمل بعراق جديد حر فيه دولة تعمل من أجل أبنائه وتتفانى لبنائه بعد كل الدمار الذي لحق فيه.
لكن الانتظار يطول ويطول حتى يفقد الإنسان الطبيعي طاقته المعتادة عليه. نحن لا ننتظر القبور. الجيل الذي ننتمي إليه يتلاشى مثل غيوم شفافة في سماءٍ صيفية. وسبقته أجيال طواها الموت الغريب والضياع في متاهات الروح والانتماء الوطني. خراف تسمن وخراف تموت وخراف تُذبح على مقاصل الجزارين. يستحق منهم من كان يصفهم الجزار الكبير "أرباب فتات الموائد" تاهت علينا المقاييس وأصبحنا من دون مبادئ. المبادئ ضرورية لكن يجب ألا تصبح سجنا فكريا وعقليا، هو عبارة عن مجتمع القطيع. وعندما تغيب هذه المبادئ السطحية والبسيطة، وحتى تلك المعقدة منها، نجد بعض القطعان الفكرية تشذ عن قاعدتها الاجتماعية ونظمها الفكرية المزيفة لتتحول إلى كتلة من الاختراقات الاجتماعية التي لا يمكن أن يحتويها نظام معين، أو وسط اجتماعي محدد الأبعاد تاريخيا ودينيا وجغرافيا. وهكذا نجد أنفسنا مصلوبين أما شاشات التلفاز الفضائية وهي تنقل لنا الأشلاء المهشمة والأوصال البشرية المحروقة في الوقت الذي نبحث فيه عن مواد الدستور الجديد وفصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وننتظر إصلاح المؤسسات الثقافية من سينما ومسرح ودار كتب واتحاد كتاب. بعض المنظرين القدامى يبدون لنا أشبه بالعاطلين عن العمل، وقد رضى كل بنصيبه من السلطة وممارسة الحكم في دولة لا حكم لها أو قانون. لذا بالإمكان أن تشاهد وزيرا يجلس مع شاعر "جلفي". لا نقول شاعر "شعبي" كي لا ندخل الشعب العراقي بالمشكلة. هذه إحدى ميزات الدولة الجديدة، ويجب ألا نغفل ذلك، لأنه امتياز ألغته الدولة السابقة بكل احتقار. لكن يبدو هذا كثير على كاتب "هوسات" تمجد الدكتاتور وتذكي أوار الدهماء. وإلى وقت قريب كان يلطع أصابع المجرمين السابقين ويلطخها بالحنة والوهيليات والنذور الكاذبة. شاعر عامي لا يستطيع هضم معادلة إنسانية غاية في البساطة تتلخص بحمل الفرد لجنسيتين في آن واحد. لا يستطيع فهم ذلك "الانحراف" أو "الشذوذ" القانوني!؟ مواطن عراقي يحمل الجنسية الإنكليزية! كيف يحدث هذا في الدنيا؟ لابد أن ساعة القيامة قد قامت وعلى الدنيا السلام. هل يظن هذا الشاعر أن الشعر هو تدبيج القصائد الركيكة والمثيرة للسخرية في مدح المسؤولين الأغبياء وعلى رأسهم الحكام؟ والوزير بدا راضيا بكل ما قيل ويقال، وأظهر من الحس الديمقراطي الشيء الكثير، ومن دماثة الخلق ما يعجز عنه الوصف. لكن ماذا فعل الوزير للضرب على أشد وتر قابل للإثارة والحساسية والتفرد مثل الوضع الثقافي العراقي؟ على الصعيد الرياضي قام المسؤولون عن هذا المرفق الحيوي بإيصال منتخب العراق إلى الربع النهائي، المربع الذهبي، للأولمبياد في أثينا، وتم رفع اسم العراق عاليا دون نظام الجلاوزة في أرجاء المعمورة. السؤال: لماذا لا يحدث مثل هذا الأمر في الحقل الثقافي؟ حتى لو كان على الصعيد المحلي.
مسار الثقافة والإبداع يختلف عن مسار السياسة وتحولاتها الآنية المرتجلة أو المخطط لها. بيد أن العمل على إعادة بناء المؤسسات الثقافية، وبث الدماء الجديدة في أوصال الحياة الثقافية العراقية من موسيقى ومسرح وفنون ودور نشر ليس له علاقة بأبي مصعب الزقاوي وأعماله المجرمة، ولا بجماعة القاعد ومقاومة الفلوجة وجيش المهدي المنتظر. إنه عمل منفصل وله حيزه الخاص كما الحيز الرياضي. لا يُشفع لوزير الثقافة أن يقول "أنا أصمت في مجلس الوزراء عندما يجري الحديث عن الوضع الأمني" ـ برنامج لقاء مفتوح ـ العراقية الفضائية. لا تصمت يا رجل! أذهب إلى واردك الثقافي وطالب باسمك واسم من تعتقد انك تمثلهم بحقوق البلد الثقافية. لنر ماذا تستطيع الحكومة أن تفعل في مثل هذه الظروف. لا تؤجل مطلب الثقافة وقيام المؤسسات من جديد. الفرصة التاريخية لا تسنح مرتين.
التعليقات