ما زلت اشعر بغيرة شديدة حين اقارن بين حجم صفحات الثقافة في مجلاتنا وصحفنا الفلسطينية وبين صفحات الرياضة، اربع صفحات رياضة يومية مقابل صفحة ادب او صفحتين اسبوعيا كفيلة بان تثير حنقي وجنوني، انا الذي مع عدد من مجانين رام الله نقتات يوميا على الشعر والفنون والادب، ولكن مهلا، لأكن واقعيا مرة واحدة في حياتي، واعترف ان عدد المهتمين بالرياضة في بلادنا اكبر من المهتمين بالثقافة، وان المهتمين بالثقافة قراء وادباء لا يشكلون قوة ضغط مجتمعية، او لوبي اجتماعي او اقتصادي او ثقافي حتى، بالاضافة الى ان الافراد الذين يقتاتون نفسيا وروحيا على الشعر والادب ليسو بالكثرة التي تضغط باتجاه حفر هوية او طريق ما في هذا الاتجاه، فبالامكان الحياة دون شعر او موسيقى او قصص او روايات، وبامكان البشر ان يمضوا حياتهم دون ان يسمعوا الموسيقى او يتأملوا لوحة تشكيلية، اليست هذه حجج منطقية يتناقلها كثير من المثقفين والاكاديميين وتجار الصحافة ؟؟ سنختلف كثيرا جدا حول هذه الموضوعة، ولكن هذا موضوع اخر.
قليلة ونحيلة وشاحبة وخجولة، كأنها تعتذر لقرائها عن مرضها وفقرها ، تأتينا صفحات الثقافة في معظم صحفنا ومجلاتنا الفلسطينية، واذا انتقلنا الى مضمون هذه الصفحات القليلة فاننا نجد انه باستثناء صفحات الايام الثقافية التي يحررها الشاعر غسان زقطان، مع انه بالامكان الحديث عن نواقص وثغرات في تجربة ايام الثقافة
لا نجد صفحات ثقافية في صحف اخرى ، تحترم ذكاء و كرامة القاريء او تضيف الى حياته وافقه الثقافي ثراء ما ، او تعرفه على تطورات المشهد القافي العالمي والعربي، فمعظم النشور في هذه الصحف هو مسروق عن صحف ومجلات عربية ومواقع الكترونية، والمحررون الثقافيون في هذه الصحف هم انفسهم ويا للكارثة ! محررو المحليات والاخبار الاقتصادية والطبية، وهم انفسهم مبدعو الكلمات المتقاطعة، وهذا الواقع هو ما يعكس الفوضى والرداءة والمهازل، فيما ينشر من نصوص ومقالات واخبار ثقافية ، ففي بعض هذه الصحف قد تجد قصيدة لمحمود درويش منشورة في اسفل الصفحة مع اخرى للطفي زغلول منشورة في اعلاها، وقد تجد نصا او مقالا مسروقا من صحف عربية لادونيس مع نص اخرلجمال سلسع او جمال بنورة مع احترامي للاخيرين، لقد عانيت طويلا على صعيد تجربتي الشخصية مع معظم هذه الصحف، احدى هذه الصحف المركزية يحرر ثقافتها شيخ مهيب بلحية طويلة وذهن سلفي مرعب، يبحث في النصوص الادبية عن الحلال والحرام، بعيدا عن جماليات هذه النصوص ومدى صلاحيتها الفنية للنشر، لذلك نحن لا نرى في هذه الصفحة الا ما يؤكد ايمان كتابها الديني ومحافظتهم على اساليب لغوية وادبية كلاسيكية.
لا نقرأ نقدا جادا في هذه الصحف، لا نرى معارك حضارية مفيدة او سجالات حول قضايا الادب والثقافة، لا نرى اهتماما بالاقلام الواعدة، ولا نحس ان هناك اهتماما بجيل او بتجربة كاتب متميز.
لا نسمع اخبار المثقفين والفنانين الجادين، هناك ادباء وفنانون زاروا مؤخرا دولا اروربية وقدموا عروضا فنية وامسيات شعرية ولم نسمع شييئا عن ذلك، اذكر هنا عروض مسرحيات الدمى للفنان الفلسطيني نضال الخطيب في اسبانيا والتي اثارت اهتمامات الصحافة الثقافية في مدريد، وتجرية الفنان عمر الجلاد في اوسلو وامسيات الشاعر مريد البرغوثي في لندن، وباتاكيد هناك شعراء وفنانون اخرون يقومون بنشاطات وعروض ولا نسمع عنهم، في صحفنا المريضة بفيروس التسطح والعشوائية لا نقرا متابعات او عروض لكتب او اصدرارات محلية.
هذا الخلل الكبير فيما يحدث لصحافتنا الثقافية يستدعي وقفة طويلة لا تتسع لها هذه العجالة، ولو تتبعنا جذور هذا الخلل، ورصدنا امتداداته العميقة وتأثيراته البعيدة لوصلنا الى امراض خطيرة في ذهننا وحياتنا الروحية ، امراض تتوزع على اصعدة ومستويات كثيرة هي امراض الفقر الروحي والهمجية والتسطح والفراغ الكبير: احدى تجليات هذه الامراض واشدها اثارة للرعب والسخرية هو : البحث عن السهل والممتع والمسلي العابر، واهمال واحتقار المتعب الجميل الخالد.