هل هناك ساعة معينة لأن يتوجه الكاتب الى طاولته أو الى حاسوبه ليفرغ خلالها ما يُلحّ عليه من أفكار وكلمات، وما يختلج في أعماقه من مشاعر وأحاسيس؟ هل هناك ثمة لحظة محددة على الكاتب أن يسطّرفيها ما لديه من مشاريع كتابية وابداعية؟ تساؤلات عديدة تحمل ذات المعنى خطرت في بالي وأنا بصدد الجلوس أمام الحاسوب والنقر على الكيبورد للشروع في الحديث عن شأن الكتابة وطقوسها.
وهل ينزل الوحي على الكاتب بصورة فجائية طالباً منه أن يقول ما عنده في وقت غير محدد؟ أم، أنه و قبل أن يلجأ الى يراعه، يتوجه الكاتب الى الحمام، يفرش أسنانه ويأخذ دوشا بارداً، أن كان الموسم صيفاً، وساخناً أن كان الموسم شتاءً، ومن ثم يسرح شعره، أن كان ثمة شعيرات قد بقيت عالقة في رأسه. إذّاك يحمل يراعه أو يتوجه الى الحاسوب لقول ما لديه وترتيب كلامه بشكل لائق ومتناسق؟
أسمع من يقول أن الكتابة بالنسبة له، كما اعداد السلاطة، ففي لحظة غير محددة بمقدوره أن يفبرك قصة أو مقالة، وتبريره لذلك أنّه يتسلح بخلفية ثقافية، و ملكة لغوية، وتجارب حياتية متراكمة تؤهله للقيام بذلك، إذ لا يتطلب الأمر منه سوى الجلوس على كرسي والشروع في الكتابة عن كل ما يحلو له و ترجمته في صورة قصة أو شعر أو أي شكل آخر من الأشكال الأدبية. وفي المقابل، هناك من يقول بأن عليه أن يُدعى من قبل وحي الكتابة والإلهام، ولا علم له بالوقت أو الساعة التي سينزل عليه هذا الوحي أو ذاك الإلهام، حيث يتعلق الآمر بمزاج كل منهما، فعندما يخطر في بال وحي الكتابة أمر استدعاء الكاتب للقيام بمهامه، يحمل متاعه ويطرق بابه داعياً إيّاه لتفريغ شحنة الكتابة المتوقدة فيه، والتي تكون هي الأخرى في انتظارهذه الدعوة على أحَر من الجمر.
وأما النوع الآخر من الكتاب، فأمره يختلف جداً عن سائر أقرانه، ولست أدري أن كان يحق لنا أن نطلق عليه صفة الغريب أو الشاذ، لأنه لا يكتب إلاّ عندما يكون قد أخذ السُكر منه. فهو ليس بمقدوره الكتابة وهو صاح، ولا بد له، أولاً، أن يفقد الإحساس بالعالم الخارجي، وكل ما يحيط به،ومن ثم، ليدخل عالمه الخاص، حيث تتخبط في أعماقه الصور والمواقف الحياتية وهي تلح عليه لأن يطلق سراحها، بعد أن تكون قد تعتقت وتخمرت بصورة تبدو في نفسه غير متوازنة الحركة، من تأثير حالة السكر الشديدة التي يعاني منها سيدها. إلاّ أنها بعد أن يطلق هذا الكاتب العنان لمخيلته لأن تعمل، ترى هذه الصور والمواقف الحياتية التي نتحدث عنها والقابعة في دواخله وقد ارتدت ثوباً، في غالب الأحيان، يأتي متمرداً على الواقع، متمرداً على المجتمع وعلى الآخرين. وهل كان العبقري جان دمو يكتب كلماته الصافية، كما النبع، وهو صاحٍ، وفي كامل وعيه؟ أشكّ في ذلك!
هكذا تغدو الكتابة في لحظات متباينة، تختلف من كاتب الى آخر، ومن شاعر الى آخر، ومن قاص الى آخر، فلكل واحد من هؤلاء طقوسه الكتابية المرتبطة به، تدعوه للإحتفال بقدوم الوليد الجديد، كل على طريقته الخاصة. لكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن السبب في إختلاف التعبير الإبداعي بين كاتب وآخر؟ أليس جميع هؤلاء يغرفون من ذات النبع، نبع الحياة، يجترون ذات التجارب والمعاناة، التي لا تختلف كثيراً عن بعضها البعض؟ فالحياة تسير بشكلها الطبيعي، والانسان سائر معها يجاريها في كل شئ، وأن كان ثمة ما يدعو الى التوقف، فهو في الإختلاف في صغائر الأمور، من انسان الى آخر ومن كاتب الى آخر.
المسألة تبدو جد طبيعية في مثل هذه الحال، أن الكل يخضع لمطرقة الحياة بكل ما تحمله من مد وجزر، بغض النظر عمن يتلقى الضربات، سواء أكانت موجعةأم سطحية، الأمر الذي يدعو المتلقي ـ الكاتب الى ترجمة حالات المد والجزر هذه، مهما اختلفت عوامل التأثيرات الخارجية عليه، لأن الهدف واحد، ووسيلة الكتابة والتعبير هي الأخرى لا تختلف عن غيرها من وسائل نقل التجربة والمعاناة التي يمر بها الكاتب.
وتختلف المادة المكتوبة، أو العمل الأبداعي، من كاتب لآخر، حسب عمق التجربة المعاشة، من حيث تأثيرها المباشر على القارئ، و من حيث مدى التصاقها بتفاصيل حياته اليومية. فقد يقرأ كلاماً لا يمت بصلة، لا من قريب ولا من بعيد بهموم الأنسان المعاصر، مما قد يدفعه بعيداً عن شاطئ الأمان والسلام الذي ينشده في كل مرة يقترب فيها من النص، وفي المقابل، فقد يتناول هذا القارئ نصاً لصيقاً الى نفسه وما تتوق إليه، مما يبعث الروح في هذه النفس التي قد تكون ذاقت مرارة الشوق الى ما يدخل الطمأنينة والأمل إليها.
وتبقى مسألة الوقت المناسب للكتابة من المسائل الأكثر إلحاحاً هنا، وعودة الى تجارب الآخرين وطقوسهم الكتابية، نرى أن كاتباً ما لم يكن يكتب إلآّ في غرفة بدون نوافذ، الأمر الذي قد يبدو غريباً عند البعض من عامة الناس، غير أنه لن يكون كذلك عند أغلب الكتاب والأدباء. وهذه كاتبة لم تكتب الاّ وهي عارية تماماً، والغريب أنها لم تكن مؤلفة بورنوغرافية، ولا حتى ايروتيكية. واذا واصلنا البحث، فسنرى أن الروائية ليندا سافلير تستطيع الكتابة في أي مكان وتحت أي ظرف، فهي تكتب في المترو وفي الشارع وفي غرفة الانتظار بعيادة طبيب السنان. في الوقت الذي يرى الروائي فرنسوا مورييه أن مصدر الهامه هو العزف على الغيتار الالكتروني والاسباني قبل البدء في الكتابة بساعة!
غريب جداً هو عالم الكتابة، والأغرب من ذلك، هو الكاتب ذاته، الذي لا يرتاح ولا يطمأن ابدا للكثير من الأمورالمحيطة به، مهما عرضت عليه المغريات، وأن لم يشأ ، فسوف لن يكون بمستطاعه خط كلمة واحدة. لذا، فعلى الآخرين أن يتركوا الكاتب وشأنه، من دون تسليط الضغوط عليه، ولا وضعه في أجواء لا يستسيغها، و تركه وحيداً في صومعته، و ليس عليهم سوى إنتظار مرحلة المخاض التي ستأتي بأحسن النتائج، وإلاّ فأن وضع القيود واصطناع الأجواء سوف لن تؤدي سوى الى ولادة المزيد من الأعمال الممسوخة، والخالية من النبض اليومي للأشياء، وللآنسان.

سيدني ـ استراليا
[email protected]