د. كامل فرحان صالح: الملل هو الروح المحرك للحداثة، في سياق حضور إنساني كان يهرب باستمرار من الروتين والرتابة إلى كشف يثير الأسئلة والقلق والدهشة. فمن إنسان خاف من القمر فعبده إلى آخر خاف من الرعد فعبده إلى إنسان قدس الجسد الذي فدى العالم من خطيئته الأولى ومن خلاله لامس التجلي الإلهي وصولا إلى إنسان عرف الله بالعقل. هذه الحركية التاريخية لعبادة الإنسان أمكن للمرء أن يطلق على كل مرحلة منها حداثة، بحيث هي حالة تنفي ما سبقها لتخلق حالتها الجديدة، وساعية في الوقت نفسه إلى استشراف مجهول تخاف منه وتسعى إلى فهمه بعد أن يدب فيها الملل مما هو سائد.
ولا شك هناك من يرى أن للملل هذه السطوة الظاهرية، مشيرا إلى أن الحضارة الإنسانية تبرهن ما هو عكس ذلك، بحيث روح المغامرة والاكتشاف وحب السيطرة والتحكم وفكرة أن نجعل الحياة أكثر سهولة، لها الدور الأبرز في تقدم الإنسانية المستمر . بالمقابل، لعل الكثير من المثقفين اطلع على رواية ألبرتو مورافيا "السأم" التي يذكر فيها أن سبب خلق الأرض والإنسان والوجود كله يعود إلى سئم دب في مزاج الله، هذه الإشارة التي تنتمي إلى عالم سردي إبداعي ما هي إلا ملامسة دقيقة لخطورة السأم / الملل ومدى تأثيره في حركة الدنيا، ودفعها إلى المابعد بخطوات مترددة أحيانا وأحيانا بخطوات واثقة وثابتة.

الملل هو رد فعل وليس الفعل، وينتج عن ركود ما أو نسق دائري يمارس دوما الحركة نفسها، وبمعنى آخر إذا كان الملل ناتجا عن رتابة الدائرة فان الحداثة تأتي لتكسر هذه الدائرة وتحاول أن تجعلها خطا يصل إلى نقطة مختلفة، لم تُعبر من قبل، فهي بهذا المعنى، أرض بكر لها وهجها الخاص ومساحاتها التي بحاجة الى اكتشاف وفهم وإدراك، وساعتئذ تعود لتتخذ شكل الدائرة، فتأتي حداثة أخرى لتكسر هذا الطوق من جديد وتدفعه إلى الأمام.
هذه الحركة التي تشابه الحركة الميكانيكة شكلا، لا تتم بسهولة، بحيث كل مرحلة ينتج عنها مريدون، يستبسلون بالدفاع عنها، والحفاظ على نقاطها المحددة والمعروفة، إنما تختلف كل مرحلة بحجم القوة المدافعة عنها والأشخاص الرافعين لوائها لتبقى ضمن سياقها التي انطلقت منه وتراكمت فيه. إذ هؤلاء المريدون يحاولون باستمرار تبرير الإحساس بالملل بالتجربة والامتحان، وبالتالي يركز خطابهم دوما على الصبر والتحلي بالمقدرة على تراكم حركة الدائرة ليفوزوا بالوقوع/ الموت وهم ضمنها لا خارجها
.

شاعر وصحفي لبناني
[email protected]