أخذتني بغداد، وأنا ابن ثماني عشرة سنة.. ومذ حللت فيها، صارت أمي، وأختي، وعشيقتي!! ولقد ولدت من أحشائها، بعد أربع سنوات، وما زلت أحمل معي حتى الساعة،رائحتها،واثار اصابعها، وسجل وصياها، المختلط بخبرتي وذاكرتي.
في بغداد، أعطي لي، ولأول مرة – كما أعطى لآدم – إن أذوق تلك الفاكهة المحرمة، التي من بعدها، أصبحت مؤهلاً لدخول الجنة، غير عابئ، بأنني يمكن أن أطرد منها في أيما لحظة.
كانت بغداد، في تلك الساعة – قد تقمصت شكل امرأة سمراء، سمرة جنوبية، هي في جوهرها، ذاك المزاج الفذ، من القمح والشعير.. ونكهة الخبز الحار.. والشهوة الأبدية.
ولقد أغلق الباب خلفنا، فصرنا وحيدين، أنا وهي – بغداد، التي صار أسمها، في تلك الأمسية الشتائية : "صبرية" … ولقد كانت "صبرية" يا للمفارقة، بغياً، تبيع أسرارها بسبعمئة وخمسين فلساً.. تلك هي المرة الأولى.
والمرأة الأولى..
وذلك هو أول امتحاناتي، الأشد جمالاً، والأكثر صعوبة …

* * *
حين صرنا وحيدين، تطلعت إلي "صبرية"، وقلبتني بخبرة مهنتها الظالمة، وإذ رأت وجهي الفج، وشحوب عيني، اكتشفت قلقي، وفهمت حيرتي، فتخلت تحت وطأة شهوتها للأمومة، عن أن تكون بغياً، وتبرعت بأن تكون أما، من أجل أن تساعد فتى غريراً مثلي، على أن يمسك بزمام رجولته.
وهي، حين شرعت في ذلك، أعجبها دورها، وازدهاها، بحيث امتلأ صدرها بالحليب..
أذكر :
إن السرير كان حديدياً، مغطى بملاءات متسخة.. تحدق فيه عن كثب مرآة وسخة مكسورة.. وإن رائحة غامضة كانت، تلف المشهد فهو أقرب إلى الوهم.
[ ما يزال السرير الحديدي في غرفتي / ينام على وجهه / رأسه يتدلى إلى الأرض / عيناه مغمضتان على سره / وقوائمه السود / تحفر أظلافها في الرخام / وتحت الملاءات / تبدو عظام السرير المعذب / ناتئة / باردة / تراودني / أن أنام عليها / ولو مرة واحدة – 1982].
وكنت أنا مكفنا بملابسي، ذابلا كورقة خس، دائبا على تحديد مسافة خيبتي، مستسلما إلى لذة الفضيحة الموشكة.
وإذ رأت صبرية ذلك، وفهمته، ابتسمت لي، ثم أومأت لي أن اقترب.. فاقتربت، مبتعدا عن نفسي.. وسمعتها تأمرني بنبرة راهبة :
- هيا.. اجلس بجانبي... جلست وشممت رائحتها المموهة بدهن الورد، وعرق ما تحت الأبطين، فاقشعرت روحي، وحين تحسست ذراعها العاري يمتد على كتفي، ومستني خصلة من شعرها على خدي، أدركت، أنني مجرد من أيما مشروع للدفاع عن نفسي، وممنوع بسبب استسلامي، من أيما طاقة على التراجع.. بحيث ما عاد أي متسع للمكابرة.. بل لم يعد أي متسع للخوف..
-أهي المرة الأولى ؟
كان واضحا، أنها تتلذذ بسؤالها، لمصلحتها.. متذوقة معنى أن أفوض إليها، أو تفوض لها الصدفة.. فرصة التصرف ببراءتي.. كأنها، مثلي، لم توفق إلى تجربة سابقة.
ولقد وهبتها قناعتها تلك، طاقة مسبقة على الصبر، ثم وفي الوقت نفسه قدرة على الحنان والحكمة، فابتسمت لنفسها، وشدتني إليها برفق وهي تهمس، بصوت مبحوح :
-سأعلمك.. ألا تريد أن أعلمك ؟ وبدون أن تنتظر جوابي، قبلتني وهي تردد كأنما لنفسها:
- إن الأمر يبدأ دائما.. بالقبل. كنت أنظر إليها، والى نفسي، من تلك المرآة المكسورة التي تقع عند قدمي السرير، وكنت قلقا، أشد القلق، من حركة أصابعها، ومن تلك الصراحة، التي أراني مهددا بها في حشمتي، بحيث وجدتني، على غير قصد، أتجمع على نفسي لاحمي جسدي من الفضول.
ورأيتها تلمسني، كأنها فهمت ما يجول بخاطري، وسمعتها تهمس بتلك النبرة البغدادية الطيبة.
- يا عيني.
ثم راحت تلقي عليّ أسئلة، عن عمري، وعن المدينة التي جئت منها، والمكان الذي أسكن فيه، والكلية التي أدرس فيها.
كانت تسأل، وأنا أجيب نصف ذاهل، لأنها، وهي تسألني وتتلق إجاباتي، ظلت مثابرة على تفحص استجابتي لأصابعها الدقيقة، حينا والمشاكسة حينا.. حتى اطمأنت.. ورأيتها في المرأة، وهي تبتسم لنفسها، راضية بالإنجاز الذي حققته.. وهمست لي عند ذاك :

***
- والآن…
لم يطل المشهد… وحين انتهى.. كانت المرآة ما تزال في مكانها.. والسرير.. وعري امرأة غريبة.. ما تزال مستلقية، تتطلع إلى فتى في الثامنة عشرة من عمره، يجهد في الخروج من المرآة المكسورة.. خجلا من عريه الشاحب.. متعبا.. مبللا بعرق وهمي.. يتساءل في أعماقه، أن كان حقا قد حدث هذا الذي حدث وسمع صوتا يقول له:
- أذهب فأغتسل..
فأطاع… لكن الماء لم يستطع أن يغسل ما لحق بجسده وروحه من سوائل دبقة ستبقى عالقة به، تلطخه إلى حين.. وألمه أن يرتدي ملابسه. فوق ما بدا له، لحظة ذاك، أنه دنس..
وسألته.
-هل ستأتي مرة أخرى؟
- أجل
- قالها دون أن يعنيها.. وسمعها تقول من جديد :
- إذا جئت، فأسال عن " صبرية ".. هل تحب " صبرية ".
- أجل..
-سأزعل عليك.. إذا أنت ذهبت مع سواي.. كما قلت لك.. أسال عن صبرية ولن تندم..
***
أنحني لذكرى " صبرية "..
أنحني لها – تلك البغي التي حاولت أن تكون عاصمتي.. وأمي وشجاعة تجربتي الأولى.. وأفكـر : ترى لو لم تكن صبرية – التي وقعت عليها صدفة. وأنا في طريقي إلى الحياة – بالمزاج والتعاطف الذي وجدته لديها. أ فكان يمكن، أن أنجح، من بعد في معرفة المرأة.. وأسرار شجرة الفردوس المحرمة؟.. خرجت من ذلك المنزل في " السنك "… واستقبلني مساء بغداد النظيف- ساجياً، وأليفا، فآلمني، إحساسي بوساختي إزاء كل تلك النظافة والهدوء.. وكنت، أدرك، أنني لكي أستوعب ما حدث، محتاج قبل كل شيء، إلى أن أستعيد إحساسي بنظافتي.
وهكذا، وبعينين مغمضتين، وتحت سطوة ماء حار، ورغوة صابون كريم، وبيدين مثابرتين، رحت أغسل نفسي، وذهني، ورئتي.. حتى انتهيت، وتنفست الصعداء.. وجلست وحيدا، أحاول عبثا.. أعيد ترتيب إحساسي.. بينما كانت تنبع في ذهني تلك المزامير التي حفظتها في أيام طفولتي.
[ اغسلني كثيرا من إثمي / ومن خطاياي طهرني /.. تنضحني بالزوفا فأتطهر/ وتغسلني، فأغدو أشد بياضا من الثلج / لأنني بالأثام حبل بي / وبالخطيئة ولدتني أمي.. ]
نومتني المزامير.. فلم استيقظ إلا عند حدود الفجر..
كان جسد "صبرية" في ذاك الهزيع المتأخر ينام إلى جانبي.. ويعيد إلى ذاكرتي كل تلك التفاصيل التي هربت منها، مجددا إياها، وفق سحر غريب.. فإذا هي ذات طغيان، بحيث عجبت لبلادتي، وخمول أحاسيسي قبل بضع ساعات، واحتقرت كل وهمي عن القذارة والاتساخ.. وكنت وأنا غارق في تشوقي المبكر، أسمع صوت " صبرية " المبحوح:
-هل ستأتي مرة أخرى ؟..
فأرد عليها : " أجل.. أجل سأجيء.. ".
وبررت بعهدي بعد ثلاثة أيام فكافأتني " صبرية " على وفائي، بأن وهبتني العلم الذي كانت بي حاجة إليه، والخلاصة الفريدة، التي سأظل محتفظاً بها، من خلال مناشدتها لي :
- على مهلك..
وقد استجبت لها مباشرة، وتعلمت الأناة متدرباً على الأخذ والعطاء. وعلى " على مهلي.. " منذ تلك الأيام.. متذوقاً وعي رجولتي.. متحسساً شاربي المبكرين.. وهما يدغدغاني.
والساعة أدرك، إن السعادة اللاحقة التي أعطي لها التعرف عليها في العلاقة بالمرأة، أخذاً وعطاءً، إنما هي هدية تلك (البغي الفاضلة) صبرية، أيام كانت تؤدي وظيفتها في بيت (السنك) ذاك، قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
وانتظروا..
فسيأتي وقت، تخاف فيه علي " صبرية " من أخطار العلاقة الجسدية بالبغايا.. كانت تفهم بكارة جسـدي، وتهمها نظافته، وبالمقابل، وبسبب ذلك كله، كانت تريد لجسدها، حين اقترب منها، أن يكون معافى، حد، إنها مرة، اعتذرت مني، بأمومة عذبة.
- لا تقربني.. فأنا مريضة.
انحني لذكراها
ذكرى المرأة – معلمتي – فهي لن تلبث أن تتركني فجأة.. وحيداً في مساء حزين.
- صبرية راحت.. صبرية قتلها أخوها!!
وانطبع في ذهني وجه " القوادة " العجوز، وحيادها المهني، إزاء صبرية.. ومقتلها المقدر سلفاً.
كنت أتطلع إليها، وأحس إن الكون من حولي يسبح في خمول كريه.. وتمثل لي جسد حبيبتي عارياً، يسيل فوق دعاراته دم قان، يلطخ الهواء والملاءات.
عدت إلى البيت، مذهولاً، لقد بدأ لي أن العالم يعاني من اختلال عجيب.. فهو يميد فاقداً توازنه.. وكنت أجهد في التفاهم مع حقيقة، أن امرأة مثل صبرية، يمكن فجأة، أن تختفي، فلا يترك اختفاؤها أثراً.. ليس ثمة من يشعر بغيابها.. أو يحزن لها.. ويفتقدها سواي..
(جثة امرأة / كنت أحببتها / ستبقى بلا كفن / في ضمير الحضارة.. / إلى أن يدب الفساد بها.. / فتفضح سر العلاقة / بين القداسة في ما نحب.. / وبين الدعارة.. 1992).
وأحسست بسبب ذلك كله، بالوحدة والخوف.. لقد أوحى لي اختفاء صبرية، باختفائي الشخصي.. وموت جميع الذين سيقدر لي أن أحبهم بعد قليل.
بعد يومين، كتبت قصة قصيرة، عن موت صبرية، فكأني بذلك أنقذت نفسي.. ذاك إنني بعد أن أنهيت الكتابة، وتنهدت، أومأت إلى حاملي نعش صبرية، وسمحت لهم بدفنها.
لقد انقضى على ذلك، ما يقرب من أربعين عاماً.. وإنني لا أستطيع حتى اللحظة، أن أتفادى تلك المرارة، التي تنبع دائماً في أعماقي، بسبب من أنني، رغم ما قدمته لي تلك المرأة، لم أعرف عنها سوى اسمها.. وجسدها.. ولا شيء عدا هذا، ومن يدري ؟ لعل أسمها لم يكن اسمها.. بل لعل جسدها لم يكن جسدها كذلك.
صبرية، مذ اختفت صارت وهماً.. حتى كأنها لم تكن إلا في ذاكرتي.. أو كأنها، لم توجد، إلا لكي تقدم لي وحدي مآثرتها العظيمة، حين عرفتني على الجنة.. ولهذا فهي ما أن أنهت مهمتها، حتى انسحبت، ولم تخلف من وهمها سوى بغداد.. وبغداد عاصمة لا تموت..
سيظل ثمة من يلاحقها.. وسيغمد كثيرون مديتهم في عنقها.. لكنها لا تموت..

[email protected]