باختصار، ولا شئ غير الاختصار...
عذراً منذ البداية، قد لا يعجبك هذا الاختصار ظناً منك أنني أنتظر الهروب من بين يديك مسرعاً. لكن الحقيقة – و يعلم الله – هي أنني متشوق للقياك. لكن كما أنت ترى. هذه الرسائل ليست أمراً سهلاً. إنها أمانة، و أنا أريد إرسالها بأي شكل إلى أصحابها. من هم أصحابها؟! لست أدري حقاً. لكنني وجدتها ملقاة على قارعة الطريق. ثلاث رسائل من أشخاص أظنهم قد أصابتهم لوثة الزمن المر. و كل رسالة تختلف عن الأخرى. عناوينها، همومها، مشاكلها، أحداثها. المهم هو كيف تكدست في نفس البقعة الداكنة؟ لا أدري، لندع ذلك حتى النهاية. ما أريده منك فقط هو أن تحاول معي سبر أغوار المشكلة و إيصال هذه الرسائل إلى أصحابها لدفع هذا الحمل عن كاهلي. و جزاك الله كل خير\
الرسالة الأولى
" غزة في الهزيع الأخير من ليل السبت 7/5/2002
عزيزتي كوثر...
لا أدري ماذا اكتب؟ أو كيف أبتدئ؟ يكفيني فقط أن أقول لك أن رسائلك التي تصلني متأخرة لا زلت أقرأها مرات و مرات، و حين تطلين برأسك من شفق الصورة الباهتة أبكي. أنهار من الدموع تتساقط تائهة على وجنتيّ دون أن أرفع رأسي عنك. البارحة فرغت من قراءة رسالتك الأخيرة للمرة العاشرة. كنت أترنم بكل سطر رسمته على ظلال ورقك، وعندما انتهيت دلفت أمي غرفتنا المتلفعة بروائح الصندل. تبسمت في وجهي، كانت تعلم أنني بكيت. أخبرتها بأنك سئمت، مللتِ الفراق، احتارت أمي ماذا عساها أن تفعل؟ " ماذا بأيدينا نحن؟ " قالت " القدر يتربص بنا دائماً ". لا أستطيع أن أقول شيئاً سوى أن اصبري. أتذكرين. كنا نشدو بأبيات الصبر تلك. سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري … آه يا صبري. من صبري هذا؟! مات الصبر. احترق بجمرات العبور الملتهبة. نفد الصبر. لكن ماذا عسانا أن نفعل؟ لا أنت هنا و لا أنا هناك. كم تمنيت أنك لم تغادري. لا أزال أتشمم طيف حوارنا الذي دار بيننا ليلتها. كنت مشتاقة لأمك التي تفطرت قدماها من عناء الطريق إلى الحدود السورية اللبنانية قديماً. هاجرت و أنت بين قدميها كي لا يراك الجنود. ثم تركتِها , أتيتِ إلى هنا و تزوجنا. أخبرتكِ بعدها بأننا لا نستطيع الذهاب هناك كما تعلمين. كنت تبكين. تودين الولوج بوابة الريح، و رغم عناء الجدال الطويل في النهاية أقبل عرضك. أنت تغادرين وحدك و تتركينني و ابنتنا (نور) ثم تعودين بسرعة. هكذا اتفقنا. أسبوع فقط و لم يكن أسبوعاً أبداً. أصبح سنوات الآن. أعرف أنه كان طلبك لي بسبب ذلك. تعرضين على الزواج و تركك للمجهول. قد يطول بنا الزمن لكني سأنتظرك. هكذا وعدتك منذ لقائنا الأول و تعانقنا. أمي الآن تهدهد طفلتنا كي تنام. أتدرين كم تبلغ الآن. لقد تجاوزت سن الخامسة. وقتما جهزت تأشيرتك لعبور الحدود كان عمرها سنتين و نصف. ها هي تكبر أمامي، تحبو، تنهض، تقول لجدتها دائماً " ماما "، و أمي تقول لها " يا عيون ماما " لم تكن تعلم أن أمها غادرت و لن تعود.
آه كم اشتقت إليك، كيف يمكن لي أن أعبر لك بذلك؟ عندما اجتزت الحدود و بقيت أنا في غزة، انتظرتك في اليومين الأولين، و في الثالث أغلقت الحدود، لا يمكن تجديد تصاريح العودة للاجئين من سوريا أو لبنان.. أتدرين ماذا حل بنا ليلتها؟! كارثة قسمت ظهري، ظهر أمي، أبي. أبي الذي مات بعد مغادرتك بشهرين. أتدرين كيف مات؟ كان يمر بطريقه في ساحة المخيم مغادراً المسجد و هناك سمعهم يتحدثون عن إغلاق الحدود و منع السفر أو العودة إلى المخيم. أصابته حينها الحمى، أدركته لوثة الجنون أخيراً، الشيب اعتمر لحاف رأسه. عاد. وصل المنزل و بكى، بكى، ظل يبكي دون أن يتوقف، كأنه عرف بأنهم لن يفتحوا الحدود مرة أخرى. قال لي يومها " أي بني، ليس لك إلا الله. قف على عتبات بابه، و الزم الدعاء" … كما تعلمين لم يكن أبي يتوقف عن الدعاء أو عن زيارة الزاوية الصوفية، الشاذلية. كان متصوفاً إلى حد بعيد، مريداً، يلزم الاستغفار. السبحة لم تكن تفارقه. حتى عند موته دفنتها بجواره. ثم حضر شيوخ المخيم كلهم. أقاموا شعائرهم هناك و أعلنوا وفاة العارف بالله، العابد الزاهد عبد الله محمد بن محمد الشاطبي قدس الله سره. قالوا أنه ولى الله و ستظهر كرماته إلى أهالي المخيم عند عيد العودة. هكذا أردفوا يلوكون حروفهم. ثم بعدها طلبوا مني الذهاب معهم إلى هناك. الزاوية. كنت تنعتينني بالمجنون وقت أن تحدثني نفسي بزيارتهم. تضحكين. تسألين إن كان هذا هذيان المهندسين أم …؟ أم ماذا؟! ألأنني مهندس. انتهى العمل الآن. أنا كما أخبرتك سابقاً دون عمل. لربما تسمعين في نشرات الأخبار بالبطالة التي اكتسحت شوارعنا. فاحت رائحتها جنبات المخيم. حواف المساجد اكتظت بالمتسولين. الجميع هنا متسولاً. أتدرين كيف نقتات طعامنا؟ من ذلك الحقل القاحل الذي استولى اليهود على ثلاثة أرباعه. نسيت أن أخبرك بأن جميع الحقول المجاورة لمزرعتنا قد صودرت. اتهموا (محمد) ابن سعيد الشايب بأنه يضرب قذائف الهاون على مستوطناتهم من أرضه. محققون آخرون وجهوا له تهمة مساعدة المخربين بذلك. و عند تجريف أرضهم ابتلعوا بقايا حقلنا. أصبح الآن صحراء وارفة الموت كوجوهنا الباهتة. لست أدري هل سيتركوننا أم سيستولون على أرضنا؟!
لو تعلمين يا كوثر كيف أضحت ابنتنا (نور) الآن؟ إنها تشبهك كثيراً. أمي دائماً تقول ذلك و تدعو لك. كم هي أصبحت تحبك، ليست كما كانت في سابق عهدها. فقط تشدو بكلماتها الملتصقة جدران عقلها الصلب " لا هي من توبنا و لا احنا من توبها ". لماذا كانت تقول ذلك؟ أظن أن هذا السؤال صار يراودني كل مساء. لربما لأنك ولدت في سوريا. هنا كثيرات أيضاً مثلك من سورية، لبنان. كلنا لاجئون. أمي لم تدرك ذلك إلا في هذا الزمن الأغبر.
أمسى الظلام يلفنا الآن، يستر عوراتنا جميعاً، حتى نور التي ستدخل المدرسة العام المقبل لا أملك قوت يومها. إنها الآن تتعلم في المدارس التمهيدية للاجئين. و غداً. كم أخشى غداً. لم يكن أبي يخشى غداً، لماذا؟!. حتى عندما انفجرت انتفاضتنا الثانية لم يكن يلقي أي بال تجاه غدٍ. الناس يهذون بالاجتياحات. حظر التجوال و أبي يضحك. رحمه الله كان يقول " يا بني لا تخاف من بكرة. فكر باليوم و انسى امبارح " ما هذه الحكمة الغريبة التي كانت تنفرج عنها شفتاه. أية جرأة و أي يقين كان يمتلك.
المهم قبل أن أنسى. أعتقد أن في جعبتنا الكلام الكثير و الوقت تداركنا. فقط أريد أن أذكرك أنني قد استعنت بأحد أبناء عمي في ألمانيا كي يجهز لي الحصول على تأشيرة سفر " فيزا " هناك سألتقي بك. أمي سئمت تلك الحياة. و هي من اقترحت عليّ ذلك. بأن ألجأ إلى بلاد الكفار كما تقول... سوف أرسل لك من هناك كي تحضري. أنا و نور سنكون بانتظارك. سلاماً. حتى ذلك الوقت لا تفتقديني من ذكراك الجميلة و دعائك لي.
المخلص
ياسر
الرسالة الثانية
" الثانية صباحاً من تباشير أيلول 2002
أخي و حبيبي سالم.
تحية طيبة و بعد...
اليوم لن أبدأ لك بالمقدمات التي أكتبها دائماً في رسائلي. فالوضع جد خطير. و لا يحتاج منا إلى التكلف في الحديث. الأسبوع الماضي كانت الضربة قاسية في منزلنا. طوحت بأجسادنا الملتهبة. قسمت ظهر أمك التي تنتظر رحمة الله بها. كان الظلام شديداً تلك الليلة و أصوات القذائف تقترب من ثكنتنا الضيقة. الناس يتصارخون، يبكون. سمعنا القصف بجوار المنزل. فخرج أبوك. أراد أن يعرف ما يجري في الخارج. و يا ليته ما خرج. وصل الباب. وجد هناك مجموعة من الشبان يتمنطقون أحزمة متخمة بالقنابل و الرصاص. سألهم عمّا يجري فلم يجيبوه. فقط طلبوا منه أن يدلف إلى الداخل لأنهم كانوا منشغلين بتركيب قاذفاتهم الصغيرة.
لو تعرف كيف هم الآن شبابنا يا سالم؟! انهم جاءوا من ريح الانفجار الذي حطمنا على عتبات الوطن. في عام 48 كانوا ينسحبون. ينهزمون و يقولون انسحبنا. كنا نقرأ ذلك في كتب التاريخ و نبكي. ننهزم و نعود بذيول العار الذي لحقنا إلى غزة. حتى أنني قبل أسبوع بكيت. كنت أقرأ رواية (باب الشمس) للإلياس خوري. و بكيت. ضحكت من نفسي على ذلك، لكن الحقيقة كم هو جميل أن تبصر الأحداث. كيف حلت بنا الكارثة؟ و كيف نحن الآن؟ فكما أخبرتك نحن الآن نختلف. إنهم ينتظرون اليهود. بل يذهبون إليهم بأقدامهم. الجميع ينشد الشهادة. يريد أن يقدم شيئاً للأرض. الكل كما تسمع و ترى على شاشات التلفاز يجهز نفسه للمعركة الحقيقية. إنهم الآن ينتشرون في ردهات المخيم. كما كانوا بالأمس قتما حدث ما حدث. فقد وقفوا لساعات طوال على بوابة المخيم ثم عندما سمعوا الانفجارات تئن في الحي المتاخم لنا. انسحبوا، لا لم ينسحبوا بل تقدموا. وقف أبي حينها حاسر الرأس، ظل جالساً بجوار منزلنا الضيق، أشعل كانون النار و جلس، ظل يشدو، يبتهل بآيات القرآن الكريم، و أمي تدعوه للولوج. كان يرفض و يأمرها بالخلود إلى النوم. أمي كما تعلم لا تعرف طعم النوم دون أن يكون بجوارها والدك العجوز. و جلس أبي بجوار النار حتى الثالثة صباحاً، وعندما هم بالنهوض توقفت سيارة عسكرية بجواره. هكذا وصفها جارنا أبو أحمد الأعرج. توقفت و اشرأب من خلف شباكها وجه مدقع بالسواد. تحدث مع والدك بكلمات قلائل ثم بعدها حدث ما لم يكن بالحسبان. اقتادوه معهم. و في الصباح بحثنا عنه في كل مكان، توجهنا إلى مراكز الشرطة، المستشفيات. لم نجد له أي أثر. لكن المفاجأة كانت عصر الأمس. وقتما جاءنا أخي الأصغر سمير يصرخ. هتف بأن أبي يقبع تحت ظل شجرة الزيتون في حقلنا. انطلقنا نتعثر في ملابسنا. أسرعنا وهناك وجدناه مضجراً بالدماء. صرخنا. طلبنا الإسعاف. لكن بصيص النور ظهر من عينيه قبل أن يموت. ظل يردد اسمك. كان متوسداً حجارة الأرض الصماء يهذي باسمك. أنت لم تعرف كيف هم المستعربون الآن؟ يدلفون مخيماتنا ويقتلون من يشاءون ثم يفرون. سألناه عن حاله. لم يجب. رجوته أن يتحدث قبل أن ينقطع حبل الروح. بانت أسنانه البيضاء. تفوه بكلمتين ثقيلتين ثم غادرنا. قال أعيدوا لي سالم. ازرعوا أرضكم من جديد. حينها تشققت أوداجه و لفظ كلمة (الله) كما كان يرددها في زاويته. تنهد، و مات. اليوم واريناه التراب في مقبرة المخيم. جاءني المعزون. كان بينهم (كمال) صديق أبيك الحميم. رفيقه في معركة القسطل. أخبرني بما كان يراودني. ما الذي أتى بأبي تحت شجرتنا السامقة؟ أهو تهديد منهم أم؟ أم ماذا؟ أخبرني (كمال) بأن أباك كان في أسبوعه الأخير يتنشق رائحة الموت. يهذي في مناماته. يرى فيما يرى النائم جسد أخيه الحاج (محمود) الذي استشهد معه في المعركة، يدعوه للذهاب إلى الحقل و التمدد منصهراً على سفوح الأرض ليلقاه كما كانوا يتواعدون في سابق عهدهم. ليلتها أدرك والدي الحلم و نهض. ذهب إلى هناك. و مات. ثم أمي الآن أدركتها إرهاصات الانفجار. أصابتها لوثة الجنون. كأنها تصارع الموت. تدعوك في أحلامها. تنوح باسمك. كأنك أنت الذي مت. إنها تريدك. و هذا ما دعاني لأكتب إليك. أبعث في طلبك. أريدك أن تحضر. أن تترك ما بيديك و تعود. احضر زوجتك الفرنسية معك إن شئت. المهم أن تحضر. الأرض تنتظر أصحابها يا سالم. هذه وصية أبوك قبل أن يموت. أنا لم أبع الأرض رغم القحط المحدق بنا. و لن أفكر باللجوء لأي مكان. إنني هنا عند قبر أبي في انتظارك. أعلم أنك ستأتي و تحقق حلم أمك الذي يراودها الآن. أنا في انتظارك في أي بقعة تريد من هذه الأرض. قبل أن أختم حديثي لا تنس قراءة الفاتحة على أرواح والدك و أجدادك الذين في التراب
و السلام ختام
أخوك
حمدان
الرسالة الثالثة
الأربعاء. أغسطس 2003
عزيزتي ماريا.
معذرة من أجل رسالتي القصيرة. لا أظن أنه كان من الممكن لي أن أرسل لك من هناك. و لا أظن أننا سنلتقي أبداً فقد سئمت حياتكم. الروتين. الملل. أنا لا أريد الموت الطبيعي. أخبرتك بذلك آلاف المرات. أشعر الآن بأن نهايتي قد اقتربت. بالأمس عدت إلى غزة مسقط رأسي. انتظرت اسبوعاً على الحدود. تم استدعائي للتحقيق. لكنني ولجت حصار الوطن، ذقته. تركت دياركم.
غريب أنا أليس كذلك؟! أعرف أنك الآن تتساءلين كيف فعلت ذلك؟ انتِ لا تفهميننا نحن اللاجئين. المشاهد على شاشات التلفاز أثارتني، طوحت بجسد الراحة داخلي. أنا الآن أموت، أتفهمين معنى الموت؟ عدت إلى غزة لأموت بين جوانح راحتي. عرفت كيف سأنتهي. تعلمت الدرس الأخير من غسان. غسان كنفاني الذي أخبرتك عن قصصه الرائعة عندما كان يقول " ليس مهماً أن تموت، لكن المهم أن تعرف كيف تموت "
أنا الآن مرتاح جداً. أشعر بأن روحي تحلق في عالم غريب لكنني قطعت أشواط الطوفان من أجلك، كي لا تقولي عني إنني سيئ لتركي إياكِ دون وداع. ها أنا أودعك الآن. إلى اللقاء. أي لقاء. سلاماً. وداعاً فلقد عرفت معنى الوطن هنا. بين أمثالي.
سأتطوع بعد أيام في مستشفى المخيم لمعالجة المرضى. أما عندكم. فهناك كثير من الأطباء و أنت معهم. هنا أنا. أنا هنا، المرضى، المصابون، الجرحى، الحرب، السلم.
وداعاً أيها السلم. وداعاً …….
هاني
نهاية لهذا الاختصار، ليس إلا...
قولوا ما يحلوا لكم، أو ما يجول بخواطركم. أعلم أنكم ستركبون برؤوسكم بحر الأسئلة. ثم تنفجرون بشتائمكم. إن أخبرتكم لن تصدقوني. أنا لا أعلم شيئاً عنها. و أقسم على ذلك. إنني ساعي بريد غريب عن هذه المنطقة. استلمت عملي حديثاً و لا أعرف هذه العناوين الضيقة.
يا لحظي العاثر. يبدوا أنها منذ البداية ستكون مهمتي صعبة. لست أدري. هل علم أحد بأنني أعمل في البريد فألقاها في الطريق عمداً؟ الحقيقة، لا أعلم. لكن أرجوكم ساعدوني لنؤدي تلك الأمانة و أنتهي من أمرها.
لحظة.. أرجو المعذرة
إن أصابكم إرهاق البحث. اتركوها. لا تشغلوا أنفسكم بها فأصحاب الحق لا يتيهون في أزمان التعثر الوئيد. هذا ارثهم و سيأتون. أظن أنني أدركت ذلك أخيراً. فهمت كل شيء. فاسمحوا لي الآن بترككم. يبدو أن هناك رسائل أخريات في الطريق الآخر. وداعاً. إلى اللقاء.
التعليقات