العرض المسرحي العربي وتأثير برتولد برشت (2/2)

ثانيا: العرب وأهمية المسرح البرشتي

وقد تاثر الكثير من المؤلفين والمخرجين العرب بوظيفة الراوي ( الحكواتي) في مسرحياتهم وعروضهم المسرحية لخلق المسافة بين الممثل والشخصية وكذلك لكسر الجواجز بينه وبين الجمهور كما في عروض نجيب سرور وسعد اردش وكرم مطاوع من مصر. وكاتب ياسين وعبد القادر علولة ومصطفى كاتب وكاكي عبد الرحمن من الجزائر وانطوان ملتقي ويعقوب شدراوي من لبنان والمنصف السويسي وفاضل الجعايبي من تونس، وغيرهم من المخرجين في سوريه والمغرب العربي والعراق.

لقد اهتم الفنان قاسم محمد منذ بداياته التأليفية والاخراجية بالتراث والملاحم والاساطير العربية القديمة وحكايات ألف ليلة وليلة، و ربطها بمفهوم برشت الملحمي وكذلك المسرح المفتوح، وعلى هذا الاساس فانه كتب واخرج الكثير من المسرحيات اهمها: بغداد الازل. شخوص واحداث من مجالس التراث. كان ياما كان، رسالة الطير. مقامات الحريري. الممسوسون، سوق الحكايات. الحلاج وغيرها.
ففي مسرحية كان ياما كان حاول استغلال التراث من اجل خلق تفرد للمسرح العربي وتأكيد العلاقة بين التراث والمشكلة المعاصرة. وقد استخدم المؤلف "جو " المقهى البغدادي القديم " كشكل للعرض وفي هذا الجو يتحرك الحكواتي الذي يقص علينا الحكاية غنائيا ، يصاحبه الممثلون ككورس للاغنية والحكاية بمجملها التي يتداخل فيها الحدث والفعل الذي يمثل او يعرض امام جمهور المقهى الذي هو جمهور المسرح ذاته.

ان الحكواتي يلعب دورا اساسيا في مسرحيات قاسم محمد، ولهذا فان الممثل لديه هو حكواتي يسرد ويعلق على الاحداث،والبطل يحمل دائما سمات البطل الشعبي المعروف في الذاكرة الاجتماعية.وعادة يستخدم في تجاربه الفنية عددا من المبادئ البرختية، منها استفادته من اسلوب الرواية او الحدوثة.
ان هذا المخرج والمؤلف العراقي يحاول دائما استخدام جوا دراميا وشعبيا خاصا حتى يصبح المسرح ظاهرة شعبية. ولاجل هذا فانه استخدم السوق العربي القديم كوسيلة جديدة لاغناء المسرح المعاصر، فالسوق بفضاءه الديناميكي الغريب وصخبه الشرقي المتميز يغني العرض المسرحي.
وقد حقق فكرته هذه من خلال كتابته لمسرحية بغداد الازل التي استخدم فيها حكايات ونوادر وقصائد من التراث وا شخاصها تتصارع في السوق البغدادي الشرقي المثير، وقد خلق المخرج من كل هذا شكلا مسرحيا دراميا مشوقا يخدم العرض المسرحي الشعبي الذي يؤثر في وعي الجمهور حيث ان استخدام جو السوق الشرقي الذي يكشف لنا عن مختلف الصراعات بين الناس بمختلف انتماءاتهم الطبيقية، محولا المسرح الى كرنفال درامي حقيقي ومشوق سواء بالنسبة للممثلين او الجمهور، وحينما يتمثل الجمهور هذا الجو فانه لاإراديا يشترك في الفعل والاحداث والعرض المسرحي وبذلك يصبح جزءا من اللعبة المسرحية التي تثير الغرابة والتفرد الفني. ولذلك فان قاسم محمد يتعامل مع الجمهور ليس كمشاهدين وانما كمشاركين في اللعبة المسرحية التي يمكن ان يساهموا في مناقشتها والتفكير بها مع نفسه لحظة العرض وبهذا فان المخرج هنا يحقق مبدأ اساسيا من مسرح برخت ألا وهو مخاطبة عقل ووعي المتفرج.
وبمسؤلية تاريخية يمكن القول بان المخرج العراقي ابراهيم جلال يعد من الذين ساهموا في تحرير المسرح العراقي والعربي من الكثير من اوهام الواقع ، و يعد أيضا من المخرجين العرب القلائل الذين حاولوا أن يكيفوا المفاهيم البرختية لمتطلبات العرض و ربطها بحياة ومشاكل الجمهور العربي المعاصر. حيث اعتمد ملكة الجدل في المسرح، بمعنى التحاور والجدل مع النص والممثل والجمهور والواقع، لانه يفهم التاريخ الإنساني على أنه حلقات مترابطة لايمكن الفصل بينهما. فيعطي أهمية ومكانة للفلسفة في العرض المسرحي. ولقد ساعدته دراسة نظرية برشت الى امتلاك مفهوم جديد للمسرح، فهو يعتمد على مخيلته الجدلية الغنية المشاكسة التي تخلق السؤال وتمزج الجمالية البرختية بديناميكية جمالية الفن والحياة الشرقية او العربية بدون ان يعتمد الكليشهات الاخراجية ونقلها من الاخراج البرشتي او الالماني المعاصر.

وتأكيد المخرج ابراهيم جلال دائما على هذه المفاهيم يوضح فهمه للجدلية في الابداع الفني، من هنا جاء حرصه على طرح السؤال الصعب في الفن: ماهو الفن؟ وماهي المشكلة؟ ومن هو المتلقي؟
ان مواجهته لهذه الاسئلة دفعته الى عدم الفصل بين مفهومه للفن ومعايشته للواقع والحياة وفهم متناقضاتها. فالمسرح بالنسبة له لايقدم اجوبة جاهزة بل أسئلة متواصلة تثير القلق لكنها تمنح سعادة الاكتشاف. واعتماد المخرج المسرحي البرشتي على هذا المبدأ يمنحه القدرة على ان يكون مفكرا في داخل عمله. وهذا مقام به ابراهيم جلال في مجمل هدفية مسرحياته.
وتمايز الاسلوب الاخراجي لابراهيم جلال كان نتيجة للمزاوجة بين نظرية برشت الملحمية وبين واقعية ستانسلافسكيي العاطفية.ان ابراهيم جلال اخذ من برخت الجدل العقلي واسلوب الاخراج الملحمي ،ومن ستانسلافسكي الاسلوب الواقعي والحس الشعبي وشجن الروح. وهو لم يفهم برخت على انه قاموس لمقولات الفلسفية والعقلية الجامدة، وانما استوعبه ايضا من حيث ان هذه المقولات لايمكن ان تصل الى الجمهور في العاطفة وشفافية الروح والرؤى والاحلام فحسب، وحتى لايكون المسرح متحفا للشمع وألا يكون الممثل تمثالا من الصخر، أكد دائما على المزاوجة بين الفكر، والعقل وجذوة الروح.
لقد كان ابراهيم جلال في بداية عمله الفني مولعا بضخامة الديكورات مما يساعده على تشكيل ميزانتسين لحركة الممثل. ولكن في عروضه المسرحية الاخيرة وخاصة مسرحيات برشت استغنى عن كل شئ تقريبا معتمدا على الفضاء كخلفية للحدث والممثل ويستغل اجساد الممثلين كجزء من سينوغرافيا العرض المسرحي. واصبح واضحا بان ابراهيم يتعامل مع الجوقة والمجموعات وكانها شخص واحد يحركها بما يتناسب مع منطق العمل المسرحي. وبالرغم من انه كان يسمع موسيقى جسد الممثل ويحاول ان يعبر عنها بصورة فنية متكاملة إلا انه يحاول دائما وبعناد إلغاء عناصر الايهام في عروضه المسرحية لانها لاتتناسب مع عقله المسرحي الجدلي.
لقد اخرج ابراهيم جلال مسرحية السيد بونتلا فتحولت لديه الى عرض شعبي، خاضعا النص للبيئة العراقية او العربية والراوية او الجوقة البرختية تحولت الى حكواتي عراقي يروي لمستمعيه غناءا وشعرا ماحدث من غرائب في قلعة بونتلا الذي تحول في اخراج ابراهيم جلال الى شبيه بإقطاعي عراقي، كذلك فان مشكلة ماتي اصبحت مشكلة أي عامل عراقي فقير. وحاول المخرج استغلال الاغنية الشعبية العراقية للربط بين المشاهد والتعليق على الاحداث فيها.
ان المنهج الذي اتبعه جلال في تقريب مسرح برخت من وعي وتقاليد الانسان والبئة العراقية إعتمده ايضا في اخراجه لمسرحية دائرة الفحم البغدادية ( اعداد عادل كاظم عن مسرحية برشت دائرة الطباشير القوقازية، وعرضت ليوم واحد فقط بسبب منع وزارة الثقافة لهذه المسرحية التي كشفت عن مجانية استلام السلطة بطريقة غير شرعية )، والميزة الاساسية لهذا العرض هي اعتماد المخرج على تطبيق منهج برخت في مجادلة عقل وعواطف الجمهور العراقي. (في دراسة قادمة ساتناول المخرجين المتأثرين ببرخت من الاجيا ل الاخرى).


اذن هل هنالك ضرورة لبرشت الان؟
لقد حدثت الكثير من المتغيرات في الألفية الماضية، متغيرات مخيبة للآمال، بل وتدعو إلى التشاؤم،لكنها كانت ضرورية ،متغيرات ليس في جوهر المفاهيم الفلسفية التي كانت تعد سفينة انقاذ للعالم ،او الانظمة السياسية كالاشتراكية مثلا التي انكفأت على نفسها لانها لم تتطور مع الثور ة التكنولوجية الهائلةفي القرن العشرين ، والتي كانت أحد أهداف مسرح برخت ، وانما حدثت تغيرات في تركيبة المجتمع العالمي أيضا، كذلك في الذات البشرية التي شهدت التطورات التكنولوجية الهائلة والتي ستقود الى تطورات جديدة لا يمكن للانسان التنبؤ بها الان وهو الذي دخل متوجسا في الالفية الجديدة.
فمطامع العولمة باهدافها السياسية ( اذا لم تعمد البلدان المتفوقة ثقافيا واقتصاديا على خلق حالة من التوازن والتناسب مع البلدان الفقيرة والنامية ) تسمح لتجار المصارف والبنوك لتزيف كل شئ، الثقافة والفكر والفن الخ، وتحويلها الى سلعة، بحيث تصبح ارقى نتاجات الفكر والفن الانساني وكأنها نقود مزيفة تتوسط صالات معابد المال فالتغيرات الانتكاسات التي حدثت في أوربا الشرقية أعطت شراسة أكبر إلى الرأسمال العالمي، الذي حول الإنسان إلى آلة وجعله يعيش حالة من التشيؤ مما أدى الى فقدان الكثير من القيم الانسانية. ونسبة الامية في البلدان النامية كبيرة جدا اضافة الى الفقر.
بعد كل هذا هل يمكن استيعاب المفاهيم الفكرية والفنية البرشتية التي نادى بها بحيث تتناسب مع مجتمع معين في فترة زمنية محددة بعد هذه المتغيرات الجوهرية؟ أو بقسوة غير مسؤوله .. هل يمكن إلغاء برشت من الوجود المسرحي و الثقافي المعاصر؟ وإذا مازال برشت حيا ويتماشى مع روح المعاصرة ، إذن كيف يمكن أن نكيف إنجازا ته الفكرية بحيث تتناسب مع التطورات الانقلابية في عصرنا؟


المسرح مابعد برشت
ان المسرح الاكثر طليعية وفهما لمشاكل الانسان المعاصر هو المسرح الذي يجعل عالمنا اكثر شاعرية وتحملا، وأقل عنفا وقساوة. ان هذه الهدفية تفرض أهمية المفاهيم البرشية في الوقت الحاضر، لان جوهر أزماتنا وطبيعة التطور الذي حدث في عالمنا وفي الذات البشرية، وما تفرضه اهمية إحياء برشت وإشاعة مفاهيمه وأنظومته المسرحية من جديد ، يحتم قراءة مسرحه بشكل مختلف ومن منظور آخر بعيدا عن عبادة الشخصية التي ترى العالم بأديولوجيا ذات بعد سياسي متحزب شمولي لها القدرة على تجاوز حساسيتنا الذاتية عندما تفرض علينا ان نضع على أعيننا عصّابة الوهم.
وقد كانت خسارة فن الاخراج في المسرح العالمي والاخراج المسرحي العربي كبيرة عندما كف الفنان عن التجريب في الفكر البرشتي نتيجة لمتحفيته. فالمخرج قام بنقل التجربة والمفاهيم البرشتية بفوتغرافيتها او بكليشاتها الالمانية استنادا الى قدسية الفكر البرشتي، وتنفيذا للقرارات الفكرية والإخراجية البرشتيةاو الشروط التي وضعتها هيلينا فايغل ( زوجة برشت باعتبارها الوريثة الشرعية) في كيفية التعامل مع هذه المفاهيم بدون قرائتها بشكل مختلف، وبهذا فانهم حولوا ها الى وصايا وتابوات مقدسة، وهنا يقع المخرج العربي في إحبولة الآديولوجيا والنقل الحرفي لمفاهيم بعيدة عن انساننا.
لكن التطورات التي حدثت في المفاهيم الجمالية المسرحية تفترض تعاملا جديدا مع برشت والمسرح الملحمي بالذات ، بمعنى الابتعاد عن السياسة بمعناها الدعائي والتعليمية المباشرة التي تدعوا لها بعض مسرحياته والتي تدخل ضمن اساليب السياسة وليس الفن، وكبديل لهذا يتم التركيز على الجانب الفكري والفلسفي الذي يعالج مشكل الانسان المعاصر و يستند عليه مسرح برشت، وكذلك الجانب الفني والجمالي بهدف خلق وتعميق البعد الجمالي في " الروح الانسانية ". وبالتأكيد فان هذا هو أحد الهواجس الاساسية لمسرح المستقبل. لذلك فان القراءة الابداعية و النموذجية المختلفة ، وضمن مشكلات وآفاق جمالية مختلفة، يمنح ديمومة للفكر البرشتي ولديناميكية المسرح الملحمي وإنظومة التغريب.
لقد اغنى برشت المسرح العالمي عندما لجأ الى اشكال غير درامية واعني استخدام بعض اشكال المسرح الاسيوي، وحقق بذلك وبدون قصدية التواصل مع جمهور المسرح في الشرق.ولهذا السبب فان المخرج العربي يحاول تقديم برشت بحيث يتناسب مع الجمهور العربي من خلال تكيف العمل البرشتي إبتداءا من اللغة واعداد النص بحيث يصبح مفهوما وقريبا من وعي المشاهد وممتزجا بالعلاقات والمشاكل الاجتماعية وتكيف الوسائل الفنية للمفاهيم البرشتية لتحقيق العرض المسرحي الشعبي. ان ربط مفاهيم برشت المسرحية وبالخصوص تكنبك المسرح الملحمي مع جماليات الثقافة العربية وتنوع الاشكال التراثية المسرحية سيؤدي الى خلق مسرحا شعبيا متطورا.


من هذا المنطلق فان تكيف المفاهيم البرشتية لوعي الجمهور العربي وربطها مع تراثه الفني تعطينا تقبلا جديدا لمسرح برشت، فالاشكال التراثية ـ الدرامية كالراوي ( الحكواتي = الكوال ) والاغنية الدرامية كشكل مسرحي والسرد الروائي كانت قريبة من المفاهيم الملحمية البرشتية. وكذلك فان الجمهور العربي وكل جمهور آخر في مجتمع يعيش حالة من التناقضات و الصراع الاجتماعي من اجل حريته وديمقراطيته، فانه يجد افكار برشت قريبة منه.
لذلك يمكن القول بان المسرح والثقافة العالمية ألان ( وخاصة في البلدان النامية التي لم تتحرر بعد من اميتها وكسلها ) بحاجة ماسة إلى مفاهيم برشت الفكرية والفنية ذات البعد الانساني (خارج دائرة الاديولوجيا الضيقة الافق ) فهو ناقش مشاكل المجتمع الانساني وأزمة الفرد كذات وكذلك ازمة استلاب وغربة الانسان بشكل عام.وطرح أسئلة كثيرة لها علاقة بكينونة الوجود وتناقش الصراع الاجتماعي. وركز على أزمة الإنسان في المجتمع وأزمة التواصل والتفاهم و الوعي والحاجة لتغيير الواقع.وكتب عن أزمة المثقف في المجتمع ، فبحث في أزمة العلم الذي يستخدم ضد الإنسان، وتوعية الإنسان بالأزمات العالمية.واستطاع ان يجعل من الفكر الماركسي كفلسفة واديولوجيا في متناول فهم الكثير من الناس. وبما ان هذه المشاكل مازالت مستمرة ويعاني منها عالمنا حتى هذه اللحظة، فان أهمية برشت تبقى ضرورية في عالمنا وبالذات في المسرح العالمي المسرح العربي.

مخرج وباحث مسرحي/ كوبنهاكن شمال الكوكب