لا تتوهمن عزيزي القارئ بأني اعني في العنوان العزيمة التي تضمر الإصرار على فعل أمر ما،فيكون المعنى المُتوهم ان العراقيين الذين يعنيهم المقال،شدّوا العزم على فعل أمر جلّل،وبإرادة مؤكدة،خدمةً لفعل الخير، وهو أمر لا ينال أسمه في الهمّة إلا من كان من أولي العزم المقترنة أسمائهم بالأنبياء،ما دمنا قد أصبحنا في هالة دولة دينية تقتدي بالرسل حسب ما يفيض علينا- بركة ً- إعلام هذه الدولة ومنهاج عملها.
ما اعنيه هو المعنى الآخر للعزيمة/ الوليمة،والتي لا تفترق بالنتيجة العربية في وصف حال قوم يجتمعون للتآزر على فعل شيء يسبقه (زاد وملح)،رفعاً للعزائم والإصرار،وهو فعل عربي أصيل وجد له البعض في السنّة النبوية ملاذاً فقهياً حتى قيل ان النبي(ص) أراد ذات يوم أن يجمع القوم على شتات نواياهم، فقال له البعض quot;تجمعهم الوليمةquot;.


وفي الولائم ما يلائم كل زمان ومكان في أرض العرب،لكنها ستبدو غريبة ومستهجنة حين تنتقل إلى مستويات دبلوماسية تضج بها سفارات العراق في أوربا،وبوصية من وزارة الخارجية العراقية،في وقت يتضوّر فيه مئات الآلاف من الجوع وتنشر التقارير عمن يقتاتون حياةً على المزابل.وحاجات هذا البلد يستغني القارئ الكريم عن معرفتها مني،لكثرتها بعدما صار العراق على نشرات الأخبار بكل أوجاعه.وسيبدو خبر توصية وزارة الخارجية بالولائم الرمضانية في عموم أوربا خبراً مضحكاً الى جوار خبر زيادة بعض الغرامات من معجون الطماطة الى حصة الفرد العراقي، مكرمةً بمناسبة رمضان.

تحرُّجي من هذه العزايم قديم،فقبل سنتين،استبشرت خيراً مع المهللين لمَقدم أول سفير عراقي بعد تحرير البلد من الديكتاتور،وكان لي هذه الكلمات التي نشرتها في حينها، عن عزيمة سابقة،لعلّها تعلّل ما يعتريني الآن من سعادة الاستشراف لما جرى خلال السنتين وبعدها:

البارحة قُدر لي أن أرى -لأول مرة في حياتي- هيكلاً عظمياً لحوت هائل..
وبعدها بدقائق معدودات رزقتُ رؤية أول سفير عراقي في هولندا قادم من العراق الجديد!.

كيف اجتمع لي هذا الأمر وتلك الأمنية؟ لا ادري. كان الحفل في قاعة متحف طبيعي في مدينة لاهاي الهولندية،و كنت دعيتُ مصادفة لحضور حفل مَقدم السفير الجديد.دخلت القاعة الكبرى منشغلاً بهيكل الحوت وبعض حيتان أخرى كانت تسير بين الجمهور.. أكثر الوجوه التي شاهدتها،غريبا، بينها،وجدت نفسي.

اقتربت حيث أضخم عظم أشاهده في حياتي..قلت: أهو قدر أم مصادفة أيضا،أن يكون هذا الحدث اليوم؛ الخامس عشر من كانون الأول. فاللوحة أسفل الهيكل العظمي كانت تشير الى ذات التأريخ حيث اكتشف خفر سواحل مدينة لاهاي موت حوت يزن 1400 طن وبطول 15 مترا..هذا هيكله العظمي إذن وتلك ذكراه.

امتدت أعظم الكائن المهيب لتأخذ جانبا كبيرا من القاعة،حيث رصفت طاولات كثيرة لم تكف المحتشدين.مرّ السفير على بعض طاولات تزاحم عليها الحضور،وأخذني موج الواقفين- مثلي- دونما كرسي لأجدني في جمهرة شعراء وكتّاب ورسام وحيد، ارتكنوا قرب ذكرى الحوت.

سألتهم فيم وقوفكم؟. وقبل أن يجيب احد منهم، تهت عميقاً في نفسي الى بيت الشاعر:

وقوفا بها صحبي عليَّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد

ربما عيون بعيدة لإمرأة أحبها قالت تلك المواساة أيضا..

قلت كيف خيّر لكم جميعا الوقوف في زمن الكراسي والحيتان؟..

التفتُ إلى بياض هيكله وما بناه أهل الخبرة، لاحت بعض كسوره مجبسة ببياض أكثر إعلاناً وغير مكتوم..وقبل أن يجيب احد منهم عن سؤالي تذكرت المتنبي..

لا تكتُمن داءك الطبيب ولا الصديق سرَّك المحجوبا

لم يجبني من احد، فالفوضى كانت تجيب عن سرّ جلوس البعض وبقاء الأخر واقفا في نسيانه..

القادم أولا،هو من ينال المكان، شعار ديكتاتوري لا حكمة في البوح به الساعة..

ضحكت من قلبي وأسررتها في نفسي وأنا اقرأ على لوحة التعريف إن سنة وصول الهيكل الذي أكاد ألامسه كانت ذاتها سنة الديكتاتور..quot;على ساحل مدينة لاهاي من عام 1979 وجد هذا الحوت ميتاquot;..

هل انتحر الحوت؟.. ليقام له نصباً؛هذا المبنى الهائل، قرب مبنى محكمة العدل الدولية..

لتهنأ قرب دار المظالم أيها الحوت..

القاعة تضج،وأنا لا اسمع إلا quot;موبي ديكquot;،حوت الكاتب الرائعquot;هنري ميلفلquot;..آه من الروح لك ياهنري ميلفل..قيل ان روايتك باعها ضمن ما باعه من كتبي أخ جائع أيام الحصار.. كانت صفراء كأن مسها قمح حقول مدينة الدغارة يوم كنت أجوب بها،مسترشدا صوب سنواتك العشر وأنت تكتبها..

فاجأني انتحار الحوت هنا أيها الكاتب الفذ..

وفاجأني السفير..

عشتَ فقيراً معدم المأوى وخلدتك المكتبات الفارهة..حالك هذا حال حوت ألقى حياته على الساحل لتبقى عظامه في المتحف الأنيق.. تدور عليه النادلات بصحون وأباريق لمتعة الرائي..

أيها الحوت..سخرية تلك اشد منها أن الساخر الكبير برناردشو اكتشف ذلك الكتاب المهمل بعد عشرين عاماً من موت ميلفل ليطبعه على نفقته الخاصة..

أيها الحوت.. هل أسمعك كل ما كتبه ميلفل في رسالة انتحاره: quot;موبي ديك..أنت لم تقتل الكابتن آيهام وحده،ها أنت تقتلني أيضاquot;..

كلاكما انتحر أذن..

ايها الحوت..ها عظامك قرب الزجاج وهاهو الدميري يعيد عليّ بداية خلقك،وخلقي.. كنتَ وحيداً وها أنا وحيد بين حيتان أخرى لا تشبهك.. اسمعه يقول في كتابه quot;حياة الحيوانquot; : روينا بالسند الصحيح عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أَهبطَ الله آدمَ إلى الأرض ما كان غير النسر في البر والحوت في البحر، وكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدمَ عليه السلام أتى الحوت وقال: يا حوت لقد أُهبطَ اليوم إلى الأرض من يمشي على رجليه ويبطش بيديه، فقال الحوت: لئن كنت صادقاً فما لي منه منجى في البحر، ومالك مخلص منه في البرquot;.

وهذا أنا أيها الحوت آتيك بخبر مقدم السفير..

سنرفع بين يديه مظالمنا جميعاً..

لِمَ طاردك ذلك البحّار طويلاً ؟..هل ظنّك ذئب يونس؟.

ماذا يظنّنك السفير الآن؟.

كدت أقول..

ولكن من لي أسأله فيجيبني:

بمن نحتفل الآن.. بحضور سفيرنا العراقي أم بمرور25 سنة على عام الحوت؟..

قلت أهي مصادفة ما ألقى وما أجد؟..ام ستلجئني الوقائع نحو جدوى تصديق العرّافين في بعض ما قالوه عن دخول العقرب في برج الحوت لهذا العام.

وحيدا كيونس في عراء الأعين ووحشة الناظرينquot; فنبذناه في العراء وهو سقيمquot;..لم يكن ثمة يقطين فأحتمي به لأن خرجتُ عارياً من الحشد الرسمي..المدينة كلّها خلف ندمي،قلت فلأحرق السفن الآن..ألعن الحفل ومن فيه..

لكني خفت أيها الحوت المنتحر..

ثمة حيتان غيرك أخشاها..

أوجعتُ أن أراكَ وحيدا وانتصر لصمتي..

أوجعتُ أن أرى النادلات في طوافهن،بالصحون على الموائد..والهدر القادم في قوائم المحاسب بعد حين.. أوجعتُ أن نحتفل ونفرح ولما يكتمل فرح أهلنا هناك..

أوجعت أن لي أشقاء بعدد أخوة يوسف، لم يعد في دارهم من مكتبة ليبيعها عاطل منهم عن العمل..وليس من يوسف يباع أو تلتقطه السيارة..

أيها الحوت.. سيقول شيخ حضر المأدبة تلك، عن حديث صحيح :إن أول طعام أهل الجنة زباد كبد الحوت..فأقول أول طعام عراقي لسلطة حضرنا مجلسها كان رؤية عظامك..

فلأخرج إذن..

علي شايع