أعلن أكثر من قطب فاعل، وشخصية مركزية، وجهة حزبية في quot;إعلان دمشقquot;، إما عن الانسحاب، أو تجميد العضوية، في هذا المشروع السياسي مما يضع عشرات علامات الاستفهام والتساؤل حول كنه ومستقبل هذا الإعلان الذي كانت انطلاقته، وبالمجمل، وليدة حسابات سياسية، واعتبارات إقليمية، لم يكتب لها النجاح. فبعد أن أعلن، بداية، حزب الاتحاد الاشتراكي العربي عن انسحابه من عضوية إعلان دمشق، ها هو حزب العمل الشيوعي يعلن بالأمس عن تجميد عضويته في الإعلان المذكور ويصرح على لسان زعيمه القيادي الشيوعي فاتح جاموس بأن:quot; الهيئة المركزية لحزب العمل الشيوعي اجتمعت واتخذت قراراً بتجميد عضوية حزبنا في إعلان دمشق لعدة أسبابquot;. فيما أتت تصريحات ومواقف أخرى مشابهة كرصاصة الرحمة على هذا المشروع برمته، حين اعتبر السيد مصطفى قلعه جي الأمين العام للحزب الديمقراطي السوري المعارض: quot;أن القراءات السياسية لبعض التيارات السورية المعارضة خاطئة، رافضاً المراهنة على الخارج في التغيير والإصلاح في سورية، وقال:quot; لقد جاءت الأحداث الأخيرة لتكشف صحة مواقفنا وفهمنا للحدث في عينه. ورأى إن التداعيات الحالية التي رافقت وتلت انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق تؤكد استناد الإعلان لقراءات سياسية خاطئة تستند إلى أوهام باعتبار أننا أشرنا أن موضوع المعارضة الوطنية السورية هو مشروع وطني ديمقراطي بأدوات وطنية ولغايات وطنية وهو سلمي فعلاً وحداثي ومتدرج غايته الدولة المدنية وحق المواطنة ركنه الأساسي ويرفض رفضاً قاطعاً الاستقواء بالأجنبي كائناً من كان، لأن ذلك يخرج مشروع التغيير الوطني الديمقراطي عن غايته الأساسية، وهي تحصين الوطن السوري وزيادة منعته وتوفير الحرية التامة للسوريين لينطلقوا إلى المستقبل بعقول مفتوحة وبكامل طاقتهم الكامنة.....وأكد قلعه جي أن مشروع التغيير الديمقراطي هو مشروع من أجل الداخل وتحسين حياة السوريين وليس قطعياً للاستخدام الخارجي وإلا فقد شرعيته. من جانب آخر استغرب قلعه جي أن ينجر بعض السياسيين السوريين المعارضين إلى مواقف هزيلة تعبـّر عن سطحية شديدة في التعامل مع الشأن الوطني، وتساءل: هل هناك في العالم من يعتقد أن الإدارة الأمريكية تريد الخير لشعبنا السوري فعلاً؟ هذا محض هراء، وذلك في إشارة منه إلى تصريحات القيادي الشيوعي المعارض رياض الترك الذي أشاد بتصريحات الرئيس الأمريكي جورج حول تحيته للمعارضة السورية، واعتبار الترك أن ما قام به بوش هو عمل إنساني ونبيلquot;. (انتهى الاقتباس إيلاف 5/1/2008).

هذا الكلام، وغيره، إضافة لجملة من المواقف المشابهة لم تخرج طبعاً عن ناطقين رسميين باسم الحكومة السورية التي تجاهلت وتفادت حتى اللحظة أية إشارة أو موقف علني رسمي بشأن الإعلان، وهو يكشف عن خلل بنيوي داخلي وكامن في صلب الإعلان، وإيديولوجي وسلوكي ناهيك عن المستقبل الغامض لجماعة الإخوان المسلمين الذين نسفوا الإعلان، مسبقاً، حين وضعواً quot;رجـْلاً في داخل الإعلان، ورجـْلاً أخرى في داخل جبهة خدامquot;، وهذه الازدواجية السياسية، ولن ندخل في تقييمها الأخلاقي، هي ما يتجاهلها، ولا يشير إليها معظم quot;المولولينquot; الندابين لسوء مصير الإعلان المسكين. ولم تنجح محاولات الإعلانيين في الدفع بشخصية الدكتورة فداء الحوراني، ولإسباب بروتوكولية وترويجية بحتة، إلى الواجهة، في بعث الحياة، وضخ الروح في هذا الإعلان الذي كان ينازع زفرات الموت، وفي نزعه الأخير قبل أن تكمل عليه التصريحات المثيرة لـquot;شيخquot; المناضلين السوريين رياض الترك.

فماذا تعني كل هذه المواقف، وغيرها، والتي خرجت على هامش إعلان دمشق الأخير، ومن تيارات معارضة بالذات لها الباع الطولى، وتاريخها المشهود والمعروف في صياغة المسودات الأولى لهذا الإعلان؟ هل هي محض ارتجالية أم انبنت على رؤى لن نقول إلا فيها الكثير من التوجس والريبة حيال quot;ولدناتquot; شيوخها. ولن نتكلم هنا، عن مواقف الكثير من الوطنيين المستقلين الذين تحفظوا على الإعلان، وفضلوا الصمت على إعلان أية مواقف مشابهة وربما ستكون أكثر quot;تطرفاًquot; مما ظهر حتى الآن، إن هي رأت النور. فلقد ارتأى الإعلانيون، وبعد الإدراك الضمني لحجم المخاطرة السياسية التي يقومون بها، بالدفع باسم الدكتورة فداء حوراني إلى واجهة الحدث ما أدى إلى إحراق أوراقها والمتاجرة باسم عائلتها عبر quot;توريطهاquot;، بمشروع يعول على جورج بوش ويستجديه ويتوسله التدخل بإعلان سياسي داخلي بحت لا يعني ولا يهم إلا السوريين بالذات. فإن مجرد إيراد اسم بوش في هذا الإعلان، وبأية طريقة كانت، وعلى لسان أحد بلاشفة سوريا المزمنين، كفيل بإفراغه من أي محتوى نضالي ووطني أو وديمقراطي، كما أفقدته تصريحات السيد الترك من أية quot;قوة زخمquot; معنوي مأمول impetus كان الإعلانيون يعولون عليها لاستقطاب نخب سورية أخرى حوله، وفرملت قدرته على الاندفاع باتجاه تيارات شتى مستقلة وحزبية. بل أدى، ونتيجة لقصور الرؤية الوطنية والسياسية، إلى تنفير الكثيرين منه، والعد للألف قبل الإقدام على أية مواقف تصب في طواحينه. وربما صار في مراحل تالية، في ضوء تصريحات الترك بالذات، quot;تهمةquot; أخلاقية، وجنحة وطنية، وجناية سياسية، يتبرأ منها، وينبذها الكثيرون من الأحرار والوطنيون ولا يريدونها لأنفسهم.

الترك الذي عمل، هذه المرة، على قاعدة عدو صديقي صديقي، يبدو أنه لم يتنبه إلى ماهية ونوعية ومدى حساسية هذا quot;الصديقquot; المستجد في العقل الباطن لدى كل وطني سوري. وهنا يصبح التساؤل التالي مشروعاً، إذا كان quot;شيخ المناضلينquot; السوريين، على تلك السوية المتواضعة من الرؤية اللا وطنية، والحسابات السياسية، والرؤية القاصرة التي ظهر عليها بالتعويل على، ووضع يده بيد واحد من أكبر مجرمي العصر ومدحه إياه متجاهلاً مشاعر ملايين الوطنيين السوريين وأطفالهم الذين يهددهم جورج بوش، يومياً، بالمصير الأسود، فماذا عن بقية رؤى quot;عوامquot; المعارضة، وquot;دهمائها ورعاعهاquot;، وعذراً للتعبير، بل ماذا سننتظر من تلك quot;المافياتquot; الرابضة في صفوف المعارضة والتي لا تتمتع بأي حس وبعد وطني، أو quot;تاريخ نضاليquot;، هذا إذا سلمنا بأن ما خرج به البعض من مواقف قد يترك لديه أي إرث أو تاريخ نضالي حق؟

وإنه لمن نافلة القول اعتبار هذا الإعلان، وبما آل إليه جرّاء سوء تقدير البعض، في حالة موات وجمود وفي الثلاجة، وذلك بانتظار تعديل وتوضيح أو ربما التنصل، وهو الحد الأدنى المقبول أخلاقياً، من هذه التصريحات المؤذية لمشاعر عموم المواطنين السوريين المعنيين بأية عملية تغيير تطال مستقبلهم الحياتي والمعيشي، ناهيك عن المـُلـّح وطنياً بالإدانة الصريحة للموقف الاستفزازي الغريب لجهة التعويل والاستقواء بالخارج الأمريكي الذي يعتبر خطاً أحمراً لدى شرفاء المعارضة السورية تاريخياً. وما محاولة quot;محازبيquot; السيد الترك ورفاقه المحرجين لتزويق وتجميل أو توضيح تصريحاته إلاّ عبث لا طائل منه لـ quot;النفخ في صورquot; هذا الإعلان الذي يبدو أن كافة محاولات quot;النفخquot; فيه تلك لن تجدي ولن تعيد له الحياة، ولن تخرجه عن دائرة مشروع فاشل أضحت الغاية الأساسية منه إعطاء المبرر والذريعة لعدوان أمريكي صارخ، لا يفتأ صقور إدارة بوش بالتلويح به علناً، وعلى quot;الطالعة والنازلةquot;، ضد سوريا. فإذا كان الإعلان، في نظر البعض، يدخله ضمن دائرة العمل الوطني والنضال السياسي والتغيير الديمقراطي إلى آخر تلك المجترات اللفظية، فبئسه من نضال زنيم، وفعل معارض أثيم.

لقد قام جوهر الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية على العداء المعلن والشامل من قبل الماركسيين ومناهضتهم للامبريالية، واعتبارها العدو الأول والرئيسي لشعوب العالم وتقف في وجه تطلعاتهم الإنسانية والتحررية. وقد جسد الإمبريالية تاريخياً، ونمـّاها، ويعتبر رمزيتها المطلقة الكيان السياسي الأمريكي المتمثل بالإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي حافظت على الالتزام بجانب القوى الاحتكارية والتروستات الاحتكارية والشركات المتعددة الجنسية والدفاع عن مصالحها عبر العالم. وتحفل جميع أدبيات الخطاب الماركسي واليساري بهذا العداء، وتعتبر النضال ضده أولوية في سعيها الدائم والدؤوب لإحلال ديكتاتورية البروليتاريا التي تسلبها الأدوات الإمبريالية ( الإدارة الأمريكية) إنسانيتها وكامل حقوقها وتعتبرها مسؤولة كلية عن الوضع المتردي للطبقة العاملة في العالم أجمع، وليس في منطقة جغرافية محددة، ومن هنا أتت مقولة ماركس الشهيرة: quot;يا عمال العالم اتحدواquot;. وعلى النقيض من ذلك، وحتى السلفيات الدينية المعروفة، وتفرعاتها الأصولية المختلفة تعتبر بوش الشيطان الأكبر وتناصبه العداء المطلق وتعلن quot;الجهادquot; والحروب الدينية ضده، وتعتبره مسؤولاً عن أرواح مئات الملايين من العرب والمسلمين ف6يغير مكان من بؤر التوتر الملتهبة حول العالم. فأين الترك من أولئك وهؤلاء؟ ومن هنا، تأتي تصريحات الترك المحابية لجورج بوش والهائمة بديمقراطية الدم والحروب الاستباقية preemptive wars التي يشنها في منطقة رمادية، تماماً، ومبهمة إيديولوجياً. وتعتبر لذلك، طعنة نجلاء في ظهر جميع أدبيات المعارضات الوطنية، وتنكراً وتبرؤاً من كل ذاك الإرث والخطاب quot;النضاليquot; الماركسي التقليدي. وهي في النهاية، وبالمآل، وناهيكم عن كونها انحراف إيديولوجي خطير، فإنها سقوط أخلاقي مدوٍ، وكبير.

نضال نعيسة
[email protected]