سامح كعوش:أن يبدأ ماهر شرف الدين كتابه الأخير quot;العروسquot; الصادر عن منشورات الجمل، بهجومٍ اعتدناه منه في كثير مما كتبه سابقاً في الصفحة الثقافية لجريدة النهار اللبنانية، وملحقها الثقافي، فهذا أمرٌ لا يخرج عن طبيعة هذا الصحافي الذي quot;لبط أباهquot; في كتابه ما قبل الأخير quot;أبي البعثيquot; الصادر عن دار الجديد. لكن، أن يخرج عن عادته في جلد الذات، واستئصال ذاكرته الطفلة وتمزيق صورة الأب الرمز لكل ما هو قمعي وسلطوي في ذاكرة ماهر شرف الدين، إلى عادةٍ جديدةٍ تحتم عليه أن يتلبس صورة الحداثوي المريض بوهم العبث بكل قيمة تراثية أصيلة أو إنسانية نبيلة، فهذا ما يثير الرغبة عندي في تفكيك الخطاب الذي يمثله ماهر شرف الدين، وإحالته إلى مرجعياته الفكرية الخاصة به وحده، حرصاً على المشهد الثقافي العربي من التعميم والتعمية على حد سواء.صورة الحداثوي اللامنتمي فرضت على ماهر شرف الدين شروطاً ملزمة يدخل عبر تطبيقها فقط إلى عالم الضوء في مساحة الكتابة الصادمة في المشهد الثقافي صورة الكاتب المتمرد الرافض لكل قيمة دينية وإنسانية، الساخر من اعتبارات الهوية والانتماء والتراث والأصالة، ولا نقصد المحافظة والأدلجة هنا، فالفرق بينهما شاسعٌوبيّنٌ، قد لا يدركه هذا الصُّحُفي الذي قفز من موقفٍ إديولوجي إلى آخر تبعاً لمصلحته المراعية لعواملالنقص في الذات المأزومة في نموذج القروي الساذج أمام مشاهداته المدينية، أو الكاتب الهلامي الذي لا يجد ذاته إلا في طفيلية الاعتياش على نقض المفاهيم والقيم ونقد الكتابة الحقيقية المبدعة، وصولاً إلى ما صار إليه من خَلْقٍ مسخيٍّ لا مُنتمٍ.quot;ماهر شرف الدينquot; في كتابه الأخير quot;العروسquot; يسخر من تراثٍ دينيٍّ صوفي، وينقض شرطاً من شروط قصيدة النثر العربية التي يدّعي الانتماء إلى جيل التسعينات من شعرائها، فالصوفية كانت سبيلها إلى المصالحة مع التراث العربي في شِقّهِ الديني، وبخاصةٍ بعد أن نضجت تجارب شعراء كبار كأدونيس وأنسي الحاج، كتبوا قصيدة النثر كما كتبها في النثر الصوفي متصوفةٌ أمثال ابن عربي والنفري
والسهروردي، وغيرهم.
بدأ كتابه quot;العروسquot; بنص بعنوان quot;مددquot; في وصف سُرّة quot;عروسهquot; يحيلها حلقة ذِكرٍ أو بيتاً يطوف حوله المؤمنون، يقول:quot;وكانت سرّتها حلقةَ ذِكرٍفندوخوكان المتصوفةُ يدورون فيدوخون
وكان الأنبياءُ
وكان الصالحون
ودارت سرّتهامدد، مددquot; (صفحة 10).
quot;ماهر شرف الدينquot; يحيل سرة عروسه رمزاً جنسياً وثنياً تُمارس عندهُ طقوس عبادة quot;شيطان الجسدquot; بشبقية تنبع من كمٍّ هائلٍ من الكبت النفسي المتجذر في شخصية quot;صُحفيquot; ولد في جبل العرب بسوريا، وعاش شبابه في الحسكة، في بيئة محافظة لم تسمح لعبقر شاعريته بأن يتفلت في التعبير عن quot;النشوةquot; التي أفرد لها فصلاً في
كتابه quot;العروسquot;، قبل أن يدرك أن بوصلحة شهواته ترشده إلى بيروت حيث يحتاجُ أحدُ منابرها الثقافية إلى من يشتم ويسخر، ويمارس شتّى أشكال الاستلاب الفكري والا انتماء العبثي المُسخّر حُكماً لمبدأ quot;الفوضى الخلاّقةquot; حتّى في الشعر والأدب.
يقول quot;ماهر شرف الدينquot; في كتابه quot;العروسquot;:
quot;دعيني أتنصّل من قصائدي كشاعرٍ جبان
دعيني أغرف الدمع بخوذ الجنود
وحسرة الجنودquot; (صفحة 62).
وعن أي جنودٍ يتحدث quot;ماهر شرف الدينquot; وهو يتماهى في الصورة النمطية لشعراء المنفى العراقيين الذين عرفناهم معارضين بالدم والحبر، يبكون الجنود المنهزمين و قتلى الحروب ومعتقلي الزنازين المعتمة وأقبية النظام؟.
عن أي تجربةٍ في النفي والاغتراب لم يخضها أصلاً ليكتب عنها، وهو الذي اختار أن يأتي إلى بيروت سائحاً وزائراً، انتهز فرصة الانتماء إلى موقف اللا انتماء، ليدخل عبره إلى منبر ثقافي لم يشترط عليه أن يبيع تاريخ أبيه، وتراثاً انتمى الحروف في قصيدةٍ لم يكتبها quot;ماهر شرف الدينquot;، وتجربةٍ لم يعشها، وإن غنّى وطبّل في كلاسيكياته الأولى، قبل أن يصير quot;رساماً فاشلاًquot;، أو يسخر من حمورابي في ملحقه السّري.
لم يكتب quot;ماهر شرف الدينquot; الشعر، بل استكتبه مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي وظّفهُ قلماً شاتماً لكل قيمةٍ دينيةٍ وإنسانيةٍ، شامتاً بكل قيم الوطنية وحق الإنسان في الاعتراض حتى.
يقول في quot;عروسهquot;:quot;الأطفال الشهداء صاروا خبراً بائتاً في نشرات الأخباروموضع جدلٍ وخلافٍ وفتاوى دينيةٍ لكنهم تجاهلوا ذلك كلّهِوأعلنوا أنهم غير معنيين بالموضوع
شغلتهم مقبرتهم الجماعية وشغلهم تناثر أجسادهمquot; (صفحة 38).
هو يعترض لا على الموت المجانيّ في بلدٍ احتُلّت أرضهُ و ذُبحَ أطفاله، بل على موتِ أطفالٍ تجمّعوا عند نقطة تفتيشٍ لأنَ جنوداً محتلّين أغروهم بالشوكولا ليتخذوا منهم دروعاً بشريةً في بلدٍ يرفضهم فيه الشجر والحجر.
يقف واحدنا مع quot;ماهر شرف الدينquot; لو أنه لم يستغلّ معاناة الشعب العراقي من قهرٍ استمر لأكثر من ثلاثين عاماً، لو أنه لم يُشرْ بتعميةٍ غبيةٍ إلى القاتل كضحيةٍ والمقتول كجلادٍ. فجنود المارينز في كتابة quot;ماهر شرف الدينquot; يوزعون هدايا الميلاد لأطفال العراق على نقاط التفتيش، وفي مداهماتهم الليلية لبيوت
العراقيين الآمنين، ويهدونهم شوكولا الأعياد، ولا يزرعون طلقات بنادقهم في صدور الأمهات. والملثم هو الإرهابي والمتطرف، فلا يوجد في قاموسه مُسمّى quot;المقاومquot; الذي حقّ له الدفاع عن أرضه، والاستشهاد في سبيل تحريرها، يقول:quot; كان الاستشهادي يقف لهم بالمرصادوكانوا يخافون لحيته الداكنةويحسبون أنه أخرسquot; (صفحة 36).
أن يعترض quot;ماهر شرف الدينquot; على الموت المجاني حقٌّ، لكنه الحق الباطل، حين يعبّر عن انتماء هذا الكاتب إلى مشروع عبثٍ بالقيم، وتعمية عن الحقائق إلى أنصافها، فكل استشهادي هو قاتل، وكل صاحب لحية هو متطرف، وكل ملثّم هو إرهابي.هذا التعميم يتلطى خلف ستارة الدفاع عن حق الإنسان في الحياة، كما في نص quot;
شهداء الشوكولاquot; الذي كتبه لضحايا تفجير انتحاري من الأطفال العراقيين اعتادوا التوقف في طريقهم إلى المدرسة لدى جنود المارينز للحصول على بعض قطع الشوكولا، أو حق الشاعر في التعبير عن رأيه، كما في نص quot;الزهرة القرمزيةquot; الذي كتبه متأثراً بمقتل الشاعرة الأفغانية ناديا أوجمان على يد زوجها الذي أقدم على
ضربها بالبلطة حتى الموت، ونص quot;المفتاحquot; الذي كتبه إثر مقتل الصحافي سمير قصير بتفجير سيارته في محلة quot;الأشرفيةquot; ببيروت.
هو تعميم فاضحٌ يضع الشريعة ضد الشعر، ويجعل من الديانة إدانة، والأطفال شهداء شوكولا لا احتلال. فالملثم هو المحتل وقاتل الأطفال، يقول quot;ماهر شرف الدينquot; في العروس:
quot;حلموا حلماً مزعجاً صرخوا في نومهم رأوا الملثمين يقطعون رأس الشوكولاquot; (صفحة 33).
هو يدّعي انتماءً للحداثة، ولقصيدة النثر، ولكنه في الواقع يكتب انتماءه لنظريةٍ أو فرضية تحكم على الشعوب العربية كافةً بالتخلف والانحطاط عن اللحاق بركب الحضارة، والحاجة الماسة إلى ديمقراطيةٍ على الطراز الأمريكي، ويحكم على الشعرية العربية بالقصور عن فعل إبداعها في إحالتها إلى مرجعية الرفض للقيم،
وبيع البلاد والأعراض للغريب الأشقر.
تلك إحالةٌ إلى أغراض مشبوهة تستبيح قيماً دينيةً تختزل موروثنا المعرفي العريق، الموروث الذي نشاكسه حيناً، ونجادل فيه أحياناً، إلا أننا لا نسمح لأنفسنا بإلغائه أو إباحته للآخر باسم انفتاحنا عليه، وتقبّلنا له، أدباً
وفكراً وحضوراً.
هي التبعية المطلقة التي تكمل سلسلة انهيار حلقات ما تبقى لهذه الأمة من قيم تحفز على البقاء، أو على الأقل، تدفع إلى تأصيل فعل إبداع ينتمي إلى حداثةٍ متصالحةٍ مع التراث، تستمد منه ضرورة بقائها عبر مشروع الممانعة الثقافية في حدّها الأدنى، وأضعف إيمانها.