حكمت الحاج من لندن: عُرِفَ عن الكاتب المسرحي العظيم جورج برناردشو انه كان مُولعاً بالموسيقيّ والشاعر الألماني فاغنر. ولقد ترك لنا كتابا ممتعا جميلا في هذا الشأن قرأناه باللغة العربية تحت عنوان (مُولعٌ بفاغنر) مترجما من قبل الدكتور ثروت عكاشة قبل سنوات طويلة. أما شاعرنا العراقي وناقدنا، علي عبد الأمير، فلقد عُرفَ عنه أنّه كان مُولعاً بالجازمان اللبناني زياد الرحباني، وأظنه ترك لنا، بعد سلسلة مقالات متتابعة، وعديد المحاضرات المدعمة بالمواد السمعية البصرية، كتاباً عن تجربة سليل الرحابنة وابن سفيرتنا الى النجوم، الفنانة فيروز، تحت عنوان (مُولعٌ بزياد).
ولكن الشاعر التونسي المعروف خالد النجار، هو أكثر شخص من الممكن أن نقول عنه انه (مُولع بلوران غاسبار). فها هو بين يديّ ولو بشكل متأخر، كتاب أنيق جميل صغير بسيط، مثل أغنية لفيروز في صباحٍ مشرقيٍّ، يحمل عنوان (البيت قرب البحر) وهو كناية عن قصيدة طويلة للشاعر لوران غاسبار، من ترجمة خالد النجار ومراجعة عزوز
الجملي، بواقع ست وخمسين صفحة من القطع المتوسط، وحسبك بهذا الكم من متعة في الشعر لا تُفَوَّتُ.خالد النجار ولزران غاسبار
عكف خالد النجار، منذ سنوات، على مشروع عمره كما يسميه، ألا وهو تقديم أعمال كبار شعراء العالم، إلى اللغة العربية. لتصدر بعد ذلك، في سلسلة فاخرة طباعياً وإخراجياً، أعطاها اسم سلسلة القصيدة، ضمن منشورات (جبل التوباد) والتي هي ربما صنو شقيقتها (كتاب الأسئلة) أقصد تلك المجلة المهمة الطليعية التي يديرها شاعرنا خالد النجار حيث لا تصدر إلا عندما يشاء هو وتشاء ظروفه المالية، وما أكثر المشاريع الجنونية الشاعرية، وما أقل ما يتوفر لها من دعم وإسناد.
لقد استطاع خالد إذن، بعد معاناة، أن يصدر من هذه السلسلة الرائعة، حتى الآن، سبعة كتب شعرية، هي على التوالي:
لوران غاسبار في البيت قرب البحر.
إتيل عدنان في يوم 27 تشرين الأول 2003.
ميشال بوتور في دارة الأمير.
سان جون بيرس في نشيد الاعتدال.
هنري ميشو في قصائد مختارة.
جورج شحادة في أشعار السابح بحب وحيد.
موريس كيريم في صور ضائعة.
وكما يخبرنا الشاعر الفلسطيني الغزّاويّ باسم النبريص، في مقال كتبه من (لوديف) أين التأم مهرجان (أصوات المتوسط) فان ثمة مشاريع أخرى في جعبة النجار المليئة دائماً. يقول باسم: (أهداني خالد نسخةً من ديوان هنري ميشو، بترجمة رضا الكافي، فقرأتها عدة مرات، مستمتعاً برهافة وذوق وكيمياء الكافي في ترجمته المائزة. لكأنني أقرأ ميشو لأول مرة، رغم أنني قرأت له عدة ترجمات جيدة أيضاً، من بينها ترجمة الشاعر العراقي البارز سامي مهدي).
ونفهم من هذا الكلام، كما نأمل بشكل أكيد، أن يكون هذا المشروع الترجمي المميز في طور التقدم وإضافة أسماء شهيرة أخرى إلى خارطة طريق شعرنا العربي الحديث، حيث تعريب أشعار القوم الآخرين إحدى أهم ركائز بحثنا جميعا عن شعر عربي مبين.
وعلى ذكر محمد رضا الكافي وهو شاعر تونسي وكاتب قصة وروائي أيضاً، له من المطبوعات (مرايا مهشمة) و(القناع تحت الجلد) و(خط أريان) وغيرها من الإعمال المميزة، لكن على ما أذكر، فإنه كان أصدر أيضا في كتاب على نفقته الخاصة قصيدة لوران غاسبار الشهيرة بعنوان (أرض المطلق) في الثمانينات. ولربما من جهة أخرى، يعكف الشاعر السوري كمال فوزي الشرابي على ترجمة غاسبار بمذاق مختلف هذه المرة، خاصة وإننا كنا قرأنا له مؤخرا في إحدى أعداد مجلة الموقف الأدبي الدمشقية، ترجمة جميلة لإحدى قصائد لوران غاسبار أشفعها بمقال عن حياته وشعره ولا أرى ضيرا من نقلها في هذا المقام إتماما للفائدة:
ثلوج، يا أيتها الثلوج، أثلجي في جسدي
أثلجي على سواد الأجنحة التي فكرنا فيها
واغمري بهواء رقصاتك هذه العوالمَ كلهاrlm;
وقد كُسيت بكثافاتٍ راكدة لم يُعبَّر قطُّ عنهاrlm;
فجرِّي السعادة التي ظننا أنها
قد ابتعدت عن الزوال إلى الأبد rlm;
اغمري بالسلام، بالصمت الخفيف، rlm;
كلَّ الطرق والحقول والبيوت وخدود الأطفالrlm;
حيث لم يسبق أن قبَّل الحبَّ أحد rlm;
يا بساتينَ الطفولة أثلجي، أثلجيrlm;
على صحارى ذاكرة الحب
كوني النضارة لما لا يُحصى من الليالي البيضrlm;
أثلجي، أثلجي على خطانا في الليل...rlm;
(ت.كمال فوزي الشرابي)
أما لوران غاسبار فهو شاعر فرنسي من أصل هنغاري ولد عام 1925 في ترانسلفانيا الشرقية. درس الطب بتفوق ومارس مهنته كطبيب جراح لامع في عدة بلدان ومنها تونس. زاول تعليمه الثانوي في مدينته ماور شفادراشيلي. وفي 1943 التحق بمعهد البوليتكنيك في بودابست. بعد أشهر التحق بخدمة العلم. في أكتوبر 1944 تفشل محاولة عقد سلم منفصلة، أعقبها احتلال ألماني، ثم تنصيب حكومة نازية. أرسل إلى الخدمة في معسكر عمل، وفي 1945 يفر من المعسكر ويقدم نفسه إلى وحدة من الجيش الفرنسي قرب فولندلاف. درس الطب في باريس وعمل جراحاً في مستشفيات القدس وبيت لحم 1970. استقر في تونس بضاحية سيدي أبي سعيد الشمالية وعمل جراحاً في مستشفى شارل نيكول المركزي. يمارس الكتابة و التصوير الفوتوغرافي. من مؤلفاته :الحالة الرابعة للمادة. مناجم. أرض المطلق. أجساد ناهشة. البيت قرب البحر . أشجار زيتون. كتاباته النثرية: في الكلمة. يوميات السفر. دفاتر باثموس. تاريخ فلسطين. جزيرة العرب السعيدة. نقل للفرنسية كثيراً من الأعمال الشعرية: قسطنطين كفافيس. راينر ماريا ريلكه. د. هـ. لورانس. جورج سيفيريس. بيلنسكي.
لقد غذت غاسبار التجربةُ التي يضرع عطر حضارتها من أجواء البحر الأبيض المتوسط وإن كان ما زال يحمل في أعماقه ذكريات طفولة تقضت أيامها في أوروبا الوسطى، كما يكتب معلقا على ذلك كمال الشرابي.rlm;
بدأ لوران غاسبار ينشر منذ العام 1966. وتتضمن أعماله الشعرية سبعة دواوين، من أهمها (باثموس وقصائد أخرى) وباثموس هي جزيرة يونانية يقال إن القديس يوحنا كتب فيها سفر الرؤيا أو سفر القيامة، وسرعان ما فرض نفسه كمرجع هام من مراجع الشعر في عصرنا. ثم أصدرت له دار النشر ذاتها، وهي غاليمار، ديواناً جديداً عام 2001 عنوانه (مختارات جديدة). أضف إلى ذلك كتاباً جديداً عنوانه (متحرك بالكلمات والألوان) ويتضمن صوراً للشاعر غاسبار التقطها في عدة مناسبات وعدة أمكنة، ونصوصاً لزميله الشاعر المحدث أيضاً جيمس ساكريه. وهو كتاب يزخر بالطرافة والمتعة والجمال على حد زعم الأستاذ كمال فوزي الشرابي، الذي يقول انه لا يمكننا أن نبحث في قصائد لوران غاسبار عن إيحاء آخر غير إيحاء النظر وما ينتج عنه من تعبير، هذا الإيحاء الذي كان ريلكه ـ وغاسبار مترجم أعماله إلى الفرنسية ـ يضعه بالنسبة إلى إلهام الشاعر وتأثيره في قلب شعريته فلا مجال إذن لأن نفاجأ بأن في إهاب غاسبار مصوراً ضوئياً عشق بخاصة هو وزميله ساكريه بلدان المغرب وما في طبيعتها من تنوع وتناقض وسحر.rlm;
على أن لوران غاسبار، في بعض كتبه وبخاصة منها (دفاتره) و(يوميات رحلاته)، يبدو لنا أيضاً كاتباً مفكراً لا يتوقف عن مساءلة الحياة واللغة والشعر بالصبر ذاته الذي يسائل به، في مهنته الدقيقة كطبيب جراح، خفايا الجسد البشري. وهاهي منشورات غاليمار والكلام دائما للاستاذ كمال الشرابي، تعيد نشر كتابه (اقتراب الكلمة) حيث تجربة العالم تتحاور مع تجربة الشاعر في كل صفحة من صفحاته. ونلتقي في هذا الكتاب المشوِّق بكل من الشعراء الفرنسيين ميشو وآرتو والصيني لاو تسو في الطريق التي خطها لوران غاسبار، ونجد فيها دوماً ما نتأمله وما نشعر به. لا يرى شاعرنا في الجمال ظاهرة من ظواهر الحياة العادية، بل يرى فيه quot;الحياة حاضرة في كل شيءquot; كما يرى أن الشعر هو quot;لغة الحياةquot;، ومن محاسنه إنه يجدِّد كلام الإنسان ويجمِّله، ويسقي من ينظمه ويحبه من مائه النمير، ويغير تفكيره quot;فيما يتعلق بالأنظمة والعقائد وشؤون الحياةquot;.
قلت سابقا إن خالد النجار مولع بغاسبار. هذا لا يشير فقط إلى هذه الترجمة في كتاب (البيت قرب البحر)، ولا إلى عديد الترجمات المتفرقة الأخرى والمقالات والتعليقات والتذكيرات والتنويهات والمقابلات الصحافية التي أجراها خالد النجار مع لوران غاسبار، بل إلى عمق صداقة قامت بين الشاعرين لسنوات طويلة أمضاها الأخير مقيما في تونس وصارت له مع نخبة من مبدعيها حكايات مليئة بالشفافية، فلندع مثلا خالد النجار يحكي لنا قصة اللقاء الأول مع شاعر الضوء والرمال: (لا أدري الآن إن كان ذلك لأول مرّة.... التقينا في قيلولة تونس بعيادة جاكلين داوود.. يومها 15 جويلية/ تموز 1976 رأيت كتابه الشعري أرض المطلق لأوّل مرّة. أذكر المشهد جيّداً: كان يجلس أمامي على أريكة ورديّة مزهرة، في الظلمة الخافتة لمكتب جاكلين؛ في تلك الشقّة ذات المعمار الإيطالي ملمح لتونس الكولونياليّة المتوسطية، الستائر مسدلة على النوافذ تصدّ شمساً وحشيّة في الخارج، وبحركة ناعمة أهداني ديوانه هذا لأقرأ في الإهداء: أنّ اللغة والشعر ليسا سوى شيء واحد..)
لم تكن تلك جملة إهداء عابرة، بل هي كما يصفها لنا خالد النجار كانت التماعة، أو بارقة فتحت له بعد ذلك شيئاً فشيئاً، وعلى امتداد سنوات لاحقة آفاقاً رحبة في التّعرف على الفعل الشعري.. وعلى شعر غاسبار تحديدا. جملة بسيطة فتحت لخالد أفقاً في فهم الشعر.. هو القادم من مناخ شعري عربي طغى عليه في تلك الأيّام الغناء، والايديولوجيا، والتجريد، وخاصّة البلاغة الخاوية، كل هذا على خلفيّة سرياليّة غير واعية بسرياليتها، وهو الهول الأشدّ، والأمر التراجيدي الذي جعلنا نقول الغموض لأجل الغموض.
وبعد حوارات طويلة على امتداد سنوات قرب البحر في دارته بسيدي أبي سعيد، وقراءات، في أرض المطلق، وفي الحالة الرّابعة للمادة، وفي دفاتر باثموس، وفي أجساد ناهشة، وفي دفاتره ومذكراته.. ومن خلال مقارباته، وقراءاته، وترجماته للشعراء الآخرين: سان جون بيرس، كفافيس، د. هـ. لورانس، صديقه جورج سيفيريس، بيلنسكي، بدأ خالد النجار الشاعر يوغل في عالم لوران غاسبار الشعري.. عرف أن لوران غاسبار كان يدري حدساً، ومن البدء أن الشعر والحياة هما شيء واحد، أجل شيء واحد... ويدري أن الشعر يتأسّس هناك في الأعماق خارج اللغة؛ ومفارقته أنّه يقول شيئاً لالغوياً ولكن بواسطة اللغة... إنّه عبور الرّوح في الكلام.
ولكن كيف يقول لوران هذا؟ يجيب خالد على هذا التساؤل قائلا انه لعل الفرنسيّة التي أتقنها متأخراً ساعدته على أن يقول هذا العالمي اللاّلغوي بيسر، فالفرنسية ليست اللغة الأم لديه، ولم تنطبع فيه منذ الطفولة، مما جعله متحرراً من العادات اللغوية، من الذاكرة اللغوية؛ ولم يتعلمها داخل المجتمع الفرنسي، مما جعله بعيداً عن أساطيرها اليوميّة، ومتحرراً من بلاغة الاستعمال العام.. كلّ هذا ساعده على تطويع هذه اللغة لما يريد أن يقول، لغة ولدت على لسانه كما هي لغة أبينا آدم.
إذن لوران شاعر الكلمة المبتدعة، الكلمة المصفاة، الكلمة المعبّرة عن وحدة الداخل والخارج، المعبّرة عن حياته النوميديّة، الكلمة التي تحتفي بالعالم، الكلمة نشيد العالم، كما يحلو لخالد النجار أن يقول في هذا السياق.
يولد الإنسان عادة داخل بلد، وداخل لغة، أما لوران غاسبار فقد ابتدع بلده، وابتدع لغته، هكذا يجب أن نفهم ونقترب من عالم غاسبار الشعري، كما يريدنا خالد النجار أن نفعل. وغاسبار شاعر القطيعة الفيزيقية والميتافيزيقية. رجل الكلمة، ورجل الترحال، شعره من ديوانه الأول الحالة الرابعة للمادة (عام 1966) إلي آخر قصائده هو نشيد للعالم، وغور حدسي ومعرفي في الحياة. فالكلمة والشعر والحياة هي نسيج واحد لديه، نسيج متموج وسعيد، يتبدي في القصيدة، في الصورة الفوتوغرافية، وفي الأشياء، في مساحات الرمال، في الحجارة، في اللقاء الإنساني، فكل شئ يحيل إلى الشعريّ... أليس هو القائل إن المجهول باهر وساطع؟ ولوران غاسبار حمله أيضا تيهه من موطنه الأصلي إلى فرنسا، إلى فلسطين حيث عمل منذ 1955 جراحا في مستشفي القديس يوسف بالقدس وبين أهل القدس اهتم بالهم الفلسطيني، ووضع كتابين حول هذه القضية هما: تاريخ فلسطين، وفلسطين السنة الصفر .حمله تيهه إلي الصحراء العربية التي كتب عنها أجمل الصحائف، إلى سيدي أبي سعيد على مرمي حجر من قرطاجنة، إلى صحارى نيفادا وأريزونا، والمكسيك الجديدة، إلى آسيا الوسطى، إلى جنوب الهند.
لوران غاسبار كان أصدر إلى جانب أعماله الشعرية والنثرية، مجلة بعنوان (ألف) أول السبعينات، وكانت أول مساحة أدبية وفكرية للحوار الشرقي الغربي، وهو أول من انتبه إلى إسماع الصوت العربي الجديد في الغرب. إذ عمل على نقل أعمال شعرية ونثرية عربية كثيرة للفرنسية.
وفي حوار صحافي مميز جدا، نشرته جريدة أخبار الأدب في إحدى أعدادها، يتحدث غاسبار لخالد النجار عن قصيدة (البيت قرب البحر) موضوع مقالنا هذا وكتابنا ذاك، إذ شكلت أبجدية شعرية جديدة له نحى فيها إلى نوع من الاقتصاد اللغوي التام حيث لا تجد فيها ذاك الفيض اللغوي الذي تلقاه في (أرض المطلق). إنها جزء من دفاتره، وهي أشياء يدونها الشاعر يوميا، أشياء نهارية جدا لقاءات، أحداث وملاحظات يسجلها في دفاتره: ما يقع كل يوم. ويمضي غاسبار في هذا الحوار الشيق واصفا عملية الكتابة لديه (تنبثق القصيدة في الأول من صورة، من حدث، من علاقة مع الأشياء أو مع الطبيعة، مثلا تشكلت لديٌ منذ جئت تونس علاقة مع البحر، وهنا ينشأ حوار مع الأشياء، خاصة مع البحر الليلي، لقد كان كشفا في قصيدة البيت قرب البحر كنت أسمع البحر في الليل وهذا شيء جديد، هنا أجد نفسي وقد غادرت الصحراء، وإن كنا لا نغادر الصحراء أبدا، و لقد كانت قصيدة 'البيت قرب البحر' كلمة أخرى في هذا الخصوص.
يسأله خالد النجار أيضا عن سر اهتمامه بترجمة أشعار غيره فيقول مفاجئا وكأنه يشرع لكينونة ما (إذا لم يكن الإنسان مترجما محترفا، فإن الترجمة كما هو الشأن في حالتي هي كما كان يقول صديقي سيفريس في تعبير ساخر: أنا أترجم لأسرق القصائد). والبحر؟ يلج خالد النجار بالسؤال، فيجيب لوران غاسبار فيما يشبه الشعر المطلق: (البحر مثل الصحراء، إنهما من أرومة واحدة)
هنا مقتطفات من كتاب البيت قرب البحر للشاعر الهنغاري الفرنسي لوران غاسبار وهي من ترجمة خالد النجار ومراجعة عزوز الجملي.
***
ذهبٌ باهتٌ، ضباب، عبارات في البرد
رويداً، رويداً، أيّام وأيقونات تسوّدها الأصابع
على تخوم معرفة جامحة
***
هنا شاهدتُ نضارةً
أسلوبَ حياةٍ يتحلل
كم يلزم الآن من رعب
لطمس القليل من الجمال
الذي ما يزال حيّا في الكلس
وفي قشر الدّهان الأزرق لقارب
في الروح داخل الفجر الذي يشهد
ارتفاع المياه في الغرف
***
حدثت هذه التبادلات البسيطة
بين صمت يسكننا وبعض الأصوات
هذه الشآبيب العابرة في الروح
ألوان وصيحات في الأشياء
يكفي أن نصغي وأن نرى
الشتاء يتطاول والبحرُ
يخيط مرّة أخرى شباكه داخل الليل
***
صباحات ينبهر فيها العالم
تهزّه يد رضيع
بين شعاع مضئ وبين الفم
وكل انعكاس لهذا الضوء هو صيحة
جديدة لاندهاش بالوجود
***
صمت الجدران حياء اسم الوردة
الذي تهمسه الروائح في أعماق السنين
والبحر حافي الأقدام في الغرف المقفرة
***
عيناي ما تزالان مأخوذتين بالليل
بيد أنّي أصغي للنهار في الهواء المجبول
في حنجرة الطائر الذي يغنّي
***
منذ زمن طويل وأنا أحاول
والآن أيقنت أنّ المسافة إلى الخارج
غير قابلة للعبور
***
لا أستطيع أن أكون إلاّ هنا، مبهوراً
أخلط حركاتي، فكري
بأشياء مرعبة، ووديعة
***
وبعدها في عمق الظلمة
ثمة أرقام وكلمات لا تقرأ مثل كيس
من أعواد وزجاجات مكسورة
لفظها البحر
مرة أخرى الضوء الشديد يقترب
***
لم يترك سوى تبنه
الذي يَسَّاقَطُ بهدوء
في ليل الجسد
***
أجل، أجل، كم روح في الأنامل
في الهوة الخرساء للمس
الأشياء والأجساد.
***
مشرط الصباح يعرّي العظام
فهي صافية مثل حدقات الرّوح
السماء عارية ورَجلٌ يصغي لنبضها
***
الحجارة ترتعش
الحجارة تضحك
تلتئم في الانحسار
تتآكل وتلتئم ثانية
***
ترنّ في جيبي
وتتوضح في أناملي
خاطرة أكاد
أسمعها وألمسها
***
في النهار عيناي
مياه تتكسر
شيء من فضاء
يتكسر إلى ما لا نهاية
***
وفي بعض الأيام
الحجارة تحشد
ثقلها الإسمنتي في الليل
***
الكلمات تتحلّل
العين واليد مأخوذتان
في جموح كافر
***
ضياء جسد
في معنى الظلمات
***
سماء في الماء
جبال متفحّمة
ضحك طفل
يتشذّر إلى ما لا نهاية
***
عينان وفم مغلق
سرعة جناح لوتها
في سكون ريح لا تكسر
***
بعض النظرات
فتات يتساقط من أية مائدة
بلا نكهة
***
أيستطيع الفكر
عبر الثلوج التي فينا
أن يسع الصمت
***
والليل، أيستطيع
أن يطلي البيت بالكلمات؟
***
صفحتي ناصعة والكلمات داكنة
كسيقان حشرات تجدف في برد
الجسد الذي ما يزال مدفوناً في رعبه
***
وأنا لا أدري كم لزم من الحفر
مراراً في نفس الموضع
حتى ينبجس المجهول من الوجه
***
أتطلع إلى صورة عائلية قديمة
هذه السعادة البسيطة
التي تنشد النسيان في تواضع
***
(انتهى)
[email protected]
لندن
يونيو / حزيران 2007
التعليقات