-1-
'مانديلا سوريا'، هكذا أطلق الصديق لطفي حداد، الكاتب والباحث السوري المقيم في أمريكا على المعارض السوري العريق رياض الترك، رجل الحقيقة، والمعارضة الأنموذج.
ومن لا يعرف من القراء رياض الترك.. تلك القامة السياسية والفكرية الشاهقة، نودُّ أن نُذكِّر بأن رياض الترك السياسي السوري العريق المعارض، معارضة سياسية فكرية صلبة وشفافة، كان سابقاً الأمين العام للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ تأسيسه في 1973، كما يعتبر الأب الروحي لحركة المعارضة السورية منذ الثمانينات وإلى الآن. سُجن الترك لأول مرة عام 1952 باعتباره عضواً في الحزب الشيوعي. وأصبح فيما بعد مُنظَّر الحزب الرئيس. ثم سُجن مجدداً أثناء حملة الاعتقالات التي قام بها عبد الناصر ضد الشيوعيين أثناء الوحدة السورية - المصرية. وفي عام 1972 اختلف الترك مع خالد بكداش أمين الحزب الشيوعي السوري، عندما أراد الأخير انضمام الحزب إلى 'الجبهة الوطنية التقدمية'، وهي تحالف الأحزاب الذي شكّله حافظ الأسد بعد تسلمه مقاليد الحكم لابتلاع الأحزاب السياسية والإبقاء على الحزب الصنم.. حزب البعث.
وقام الترك مع بقية الأعضاء المعارضين بتشكيل الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، وبقي هذا الحزب معارضاً لنظام البعث خاصة، بعد انخراطه في الحرب اللبنانية. ووصلت معارضة الترك لنظام حافظ الأسد إلى أوجها بعد مذبحة الإخوان المسلمين في حماة وحلب عام 1982. وأمضى الترك 18 عاماً سجيناً في سجون البعث العلوي السورية (1980 ndash; 1998) في زنزانة انفرادية، وفي ظروف اعتقال مريعة ومعروفة في السجون العلوية السورية. وقد وصف الترك تلك السنوات الطويلة من الحبس الانفرادي على أنها كانت زمناً خاصاً بذاته. وأن سجّانيه الذين هدفوا إلى وضعه خارج الزمن، أو في الفراغ، غلبهم، وانتصر عليهم الترك في مقاومة الفراغ، عندما راح كل يوم يراقب حركة النمل الذي كان يعبُر زنزانته. وكيف كان دخول ذبابة إلى الزنزانة حدثاً مثيراً لاهتمامه. وكيف كانت حبّات الحصى الصغيرة المختلطة بالعدس كنزا له، لأنها كانت تتيح تشكيل رسوم تتطلّب صبراً ومثابرة وإبداعاً، وتقتل الفراغ، كما قالت الكاتبة السورية نهلة الشهّال. ثم أُطلق سراح الترك لعام واحد، فلم يحتمل النظام السوري الهش وجود الترك خارج السجن، فأُعيد اعتقاله مجدداً. وصدر عليه حكم بالسجن لسنتين ونصف في 2002. فأعيد اعتقاله مع مجموعة من السياسيين السوريين المعارضين كالنائبين مأمون حمصي ورياض سيف والاقتصادي عارف دليلة. ولكن أُفرج عنه في عام 2002 بعد أن تفاقم مرض السكري واعتلَّ قلب إلى حد الخطر، وخشي النظام السوري من موته أكثر من خشيته من حياته. وجرى بعد ذلك منعه من السفر عدة مرات. وسيخرج الترك من السجن ويدخل، وهكذا دوليك. ولكن الترك يبقى داخل الزمن وليس خارجه، أما سجّانوه فهم الذين سيبقون خارج الزمن وخارج التاريخ كذلك. وفي عام 2005 تخلّى الترك عن منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) (الذي أصبح اسمه 'حزب الشعب الديمقراطي السوري') لكبر سنِّه (77 سنة) وإفساح المجال أمام العناصر الجديدة، وبقي هو مجرد عضو في المكتب السياسي لهذا الحزب.

-2-
كتاب الصديق لطفي حداد (رياض الترك ndash; مانديلا سوريا، 2005) هو أحدث وأوفى كتاب صدر حتى الآن عن حياة هذا الزعيم السياسي السوري المعارض. والباحث عرف الترك عن قُرب معرفةً وثيقة. لذا، فقد جاء كتابه كتاب العارف الواثق مما يقوله من آراء حول هذا الزعيم السياسي المعارض النادر. أما لماذا كتب لطفي حداد (وهو الأديب، والقاص، والروائي، والشاعر، والمترجم) كتابه هذا، فليس لأن الترك زعيم شيوعي عربي مرموق، ولكن لأن الترك شخصية وطنية ديمقراطية سلميّة، وسجين رأي عريق، وشاهد على حقوق الإنسان في بلد عربي. وحداد يدرس الترك كذلك كمفكر سوري من الطراز الأول، ورمز صادق للأجيال القادمة في الزمن الصعب. فالترك رغم سنونه التي اقتربت من الثمانين ما زال مقاوماً ومجاهداً مستمراً مقاومة حضارية وجهاداً مدنياً، ويعتبر وجدانُ المقاومة السورية الصادقة من أجل وطن أجمل، وهو حامل آمال عشاق الحرية في العالم العربي. والترك لا يدعونا إلى النبش عن أصله وفصله وسيرة حياته الذاتية، فهو يكره ذلك، ويريد منا أن نعرفه من مواقفه السياسية والفكرية. فالإنسان موقف كما قال المصلح التنويري خالد محمد خالد. ويقول لنا الترك: ' أنا وفكري السياسي واحد. فإذا أردت أن تُعرّف الناس عليّ، أخبرهم عن مواقفي السياسية. أما أنا نفسي فشخص زائل وواحد من ملايين'.

-3-
لماذا نكتب عن رياض الترك اليوم؟
كان يجب أن نكتب عن رياض الترك كل يوم، لأنه هو الذاكرة الباقية في سوريا. ذاكرة الحرية والديمقراطية والليبرالية والحداثة والعلمانية والمعارضة النظيفة الشفافة والواعية والمُصرِّة على حقوق الشعب.
ولكننا نكتب عنه اليوم بالذات، لأنه هو الذي رفع بالأمس الصوت النبيل العقلاني والواقعي عالياً ndash; وهذا كل ما يملكه ndash; وهو يقرأ السياسة السورية، طبقاً للمستجدات على الساحة الدولية والإقليمية، ليس بعقلية الإعلامي الرخيص، ولا بنظرة السياسي العربي الانتقامية الغرائزية المتشنجة المعتادة، وذلك عندما حذر من انزلاق سوريا في حلف ثنائي مع إيران، قد يكلف البلاد والمنطقة ثمناً غالياً، معتبراً أن السياسة الإيرانية في صراعها مع المجتمع الدولي تشكل عبئاً دولياً، لا تستطيع سوريا تحمّله. وأكد الترك على أن المعارضة السورية من أنصار أن تكون لسوريا علاقات مع إيران، ولكنه طلب من إيران أن 'تتفهم الواقع'. وقال الترك بنظره السياسي والفكري والتاريخي الثاقب: 'على سوريا أن ترفع يدها عن التدخل في الشأن العراقي، وتسعى إلى وحدته، وليس إلى تقسيمه على أسس طائفية'. أما عن لبنان، فقال الترك كلام العقلانيين العرب القلائل جداً في هذه الأيام:

رياض الترك بعد خروجه من سجن دام 18 عاماً
' أنا شخصياً أعتقد أن سوريا الآن تعيش أزمة حادة. حادة من مختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وأستطيع القول بكل بوضوح أن السلطة السورية الحالية أضحت معزولة من مجتمعها، وهذه العزلة عزلة قديمة. لكن الجديد في الأمر عزلتها العربية بسبب سياساتها الرعناء إزاء جوارها وخصوصاً إزاء الشعب اللبناني. أن لبنان أصبح دولة ذات سيادة، فعلى سورية أن تترك اللبنانيين وشأنهم، لكي يحلّوا تناقضاتهم بينهم بالحسنى، وأن لا ينجرّوا إلى حرب جديدة'.
والزعيم الترك سياسي متسامح ومتصالح مع الآخرين الشرفاء. فهو في الوقت الذي رفض فيه مقابلة عبد الحليم خدام في باريس باعتباره معارضاً مزيفاً، وتاب بعد جمع ثروة طائلة دون حساب أو عقاب، التفت إلى المعارض الشريف علي صدر البيانوني المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا وحيّاه تحية الحرية على موقفه وموقف الإخوان المسلمين من 'تجمع إعلان دمشق'. وبدون الحساسية السياسية والعقائدية بين الماركسيين والأخوان المسلمين، وصف الترك رسالة التهنئة التي وجهتها جماعة الإخوان إلى القوى المشاركة في 'تجمع إعلان دمشق' بـأنها 'أخوية تؤكد وحدة المعارضة ضد الاستبداد'، وقال: 'البيانوني يهنئ نفسه لأنه عضو أساسي ضمن تجمع إعلان دمشق، ولكنه مُبعد قسرياً بسبب الظروف غير الطبيعية التي تُحرم الإخوان من التواجد السياسي وفق القانون 49. وتمنّى الترك أن يلتقي قريباً على أرض سوريا الوطن في ظل الديمقراطية'.
فهذه هي المعارضة الواعية والعقلانية التي علينا أن نتعلم منها الكثير.
السلام عليكم.

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه