وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك أحيانًا.

رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟

قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد.

قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضًا ضد ظلم السلطة المفروضة - إقليميًا ودوليًا لا وطنيًا - بحق السوريين.

هذا الحوار حول معنى الوطنية في اللحظة الراهنة أعادني إلى التأكيد على أن مفهوم الوطنية غير ثابت، فمنذ تأسيس سوريا على خريطتها الحالية التي لم تكن بهذا الاتساع في يوم ما من التاريخ، استخدمت الأنظمة المتعاقبة المفهوم، كل منها على هواه، والوطني وفق ذلك يتدرج من: عثمانلي - إلى وطني فرنسي - إلى وطني أنتي فرنسي - إلى وطني ناصري - إلى وطني بعثي - وطني أسدي - وطني أنتي أسدي - وطني داعشي - وطني فصائلي.

وبهذا المعنى، فإن الوطنية لم تعد هوية ثابتة تُقاس بالانتماء إلى المكان وكائنه وثقافته وشروطه، بل باتت مرتبطة بالموقف من السلطة - أية سلطة - ومن كيفية إدارتها للصراع، ولو تبدلت في الأربع والعشرين ساعة ضمن مدار 360 درجة، من النقيض إلى النقيض. عندما وقفنا ضد الأسد - حسب أدوات كل مرحلة - كان الموقف يوصف بأنه وطني، من قبل المعارضين. اليوم يتكرر العنف تحت سلطة جديدة، وبحجم يفوق ما سبق في مراحل الحكم السابقة، من دون قراءة والتزام حقيقي بأطراف المعادلة، والمكوّنات السورية، وفي مقدمتها الكرد، باعتبارهم المكوّن الذي لا ينضوي قوميًا ضمن مجمع المكونات التي طالما انضوت تحت اسم: القومية الواحدة.

لقد بات معروفًا للعالم المتابع بأسره أنه خلال مجرد سبعة أشهر من وصول السلطة الجديدة، حجم اعتقالات وانتهاكات بات يتجاوز ما ارتكب خلال عشر سنوات من حكم حافظ الأسد وابنه، إذا وُضع جانبًا ما جرى تحت عنوان الحرب ضد الإخوان المسلمين. الوقائع تشير إلى أن البلد أعيد إلى مرحلة سابقة على مرحلة القومية، بل إلى حالة تفكك أعمق، لأن المجموعات التي تحيط بالسلطة لا تستند إلى مؤسسات، بل إلى مصالح ضيقة، وممارسات تُنسب إلى العشائر بالرغم من أن الغالبية من أبناء العشائر لا تقبل استخدامها في هذه المهمة المدنَّسة.

هذا المناخ سمح بظهور خطاب يتعامل مع الكرد باعتبارهم هدفًا مشروعًا، لا مكوّنًا أساسياً في الجزيرة. نظام البعث بمختلف مراحله اتخذ إجراءات قاسية ضد الكرد، مكرسًا الإحصاء الاستثنائي 1962 الذي تم قبل وصوله لدفة السلطة بسنة، من قبل بؤرة عنصرية سابقة عليه هي أحد روافدها، وراح يطبق مشروع مصادرة أملاك الكرد، ويمارس الضغط الأمني، لكنه لم يستخدم الإعلام لتأسيس خطاب عدائي معلن ضد الكرد.

وقد تبنّت السلطة الجديدة أسلوبًا مغايرًا، هو في جوهره حرب علنية على المكوّنات وفي مقدمتهم الكرد، إذ بات التحريض مادة يومية في منصات رسمية، ويجري تكراره بطريقة منظمة، بما يخلق تصوّرًا عامًا يتأسس على اتهام الكرد كجماعة، كضيوف، كلاجئين، لاسيما من قبل بعضهم ممن جاؤوا إلى المنطقة في مراحل زمنية لاحقة. هذا التحول يشير إلى سياسة لا تستهدف إدارة الدولة، بل تستهدف تشكيل اصطفاف اجتماعي يخدم السلطة ويستخدم الخلافات القومية كأداة.

أحزاب الحركة الكردية التاريخية جرى استبعادها كاملة من أية مشاركة سياسية. هذه الأحزاب كانت الطرف الأكثر تواصلاً مع المجتمع الكردي، وكانت أول من عارض الأنظمة الدكتاتورية العنصرية - في زمن البعث وما قبله - لاسيما في زمني الأسدين الأب والابن، وكانوا دائمًا الأقدر على تقديم قراءة دقيقة للتغييرات داخل المناطق الكردية: الجزيرة وكوباني وعفرين وخريطة توزعهم في خريطة سوريا المستجدة بعد "سايكس بيكو". إبعاد أحزاب الحركة الكردية التاريخية يكشف رغبة السلطة في التعامل مع الملف الكردي عبر شرط واحد يرتبط بالجانب العسكري.

وكلنا نرى كيف يتم استغلال توقيع السيد مظلوم عبدي، من قبل السلطة المؤقتة، باعتباره تفويضًا لتمثيل شعب كامل، لم يدّعه الرجل أصلاً. هذه المقاربة غير دقيقة، لأن العلاقة العسكرية لا تحل محل التمثيل السياسي، ولا يمكن تحميل قائد عسكري مسؤولية المسألة الكردية برمّتها.

وليس بخافٍ على أحد أن الحركة الكردية تملك تجربة طويلة في مجال العمل السياسي والاجتماعي، وأن استبعادها قد أدّى إلى فراغ خطير استغلته السلطة لتقديم الصورة التي ترغب بها، وفق مخططها، لا الصورة التي يعكسها الواقع. إن غياب الأحزاب صاحبته حملة إعلامية واسعة، يجري خلالها تكليف كتّاب وإعلاميين - دائمي التقلب والتحول الزئبقي في مواقفهم - بتصنيع خطاب يهاجم الكرد بصورة مباشرة. وإن التمحيص والتفحّيص في هذا الخطاب يبيّنان أنه لا يستند إلى معلومات أو دراسات، بل يُبنى على رغبة السلطة في صناعة رأي يعزل الكرد ويضعهم في خانة الخصومة. استمرار هذا المزاج العنصري - المركب قوميًا وطائفيًا - يعمّق الاحتقان ويمنح شرعية لمن لا يمتلك معرفة بالمجتمع السوري.

ومن يتابع الفيديوهات التي خرجت خلال ما سُمّي "بيوم النصر" يجد كيف أنها أظهرت مستوى التحريض الجاهلي الذي بلغته المجموعات القريبة من السلطة، من خلال شعارات واضحة مدروسة هددت الكرد، ورددها مشاركون بوقاحة وداعشية أمام كاميرات إعلامية رسمية. وبديهي أن عدم محاسبة مطلقي هذه التهديدات يعني أن السلطة تتعامل معها باعتبارها جزءًا من سياستها الجديدة، لا تجاوزًا فرديًا. هذا الوضع يفتح الباب أمام عنف أكبر وينقل التحريض من مرحلة الحديث المجاني إلى مرحلة إشعال فتيل الحرب، لأن الحرب تبدأ عادة بمثل هذا المناخ، وتنتقل سريعًا إلى مستويات يصعب ضبطها.

أية حرب تُشن ضد الكرد ستكون إعلانًا مبكرًا عن فشل النظام الجديد. السلطة التي تبني قوتها على إعلاميين مارقين مرتزقة، وجدوا لديها ملاذهم من أجل الحظوة والمكاسب وممارسة شكل آخر من الداعشية، انتقامًا من الكرد الذين دحروا الإرهاب، وكان بعضهم وبطاناتهم جزءًا من تلك المنظومة، رؤية أو تجنيدًا جهاديًا، وعلى مجموعات تتحرك وفق مصالح مالية أو ولاءات ضيقة، سلطة بلا قاعدة اجتماعية. التحريض يفكك المجتمع ولا يعطي أي سلطة فرصة للاستمرار. النظام الذي يترك الكراهية تتحول إلى سياسة يفقد شرعيته من اللحظة الأولى. الكرد ليسوا طرفًا طارئًا في الجزيرة، بل هم مكوّن أصيل راسخ، والضغط عليهم يحوّل الأزمة السورية إلى أزمة مفتوحة لا أفق لها.

أجل، إن محاسبة المحرّضين خطوة أساسية. هذا يشمل الإعلاميين الذين أطلقوا تهديدات علنية، والوجوه العشائرية التي غطّت أعمال المجموعات المنفلتة، وإن أي تأخير في المحاسبة يعني أن هؤلاء هم جزء من بنية السلطة العابرة. وإن كانت المحاسبة قد لا تعني الاستهداف المباشر، بل تعني وضع حد للفوضى وإعادة الاعتبار للقانون. لأن المجتمع السوري يحتاج إلى إجراءات واضحة، لا إلى خطابات عامة. ومن هنا، فإن المتهمين بالتحريض يجب أن يمثلوا أمام القضاء، لأن حماية الاستقرار لا تتم إلا بوقف الخطاب الذي يدعو إلى العنف.

فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته الأولى بعد توليه الخلافة: "أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم!"، واضعًا الطاعة في إطارها المشروط، ومقيدًا السلطة بسقوط الشرعية عند الانحراف.

في المقابل، قال السيد أحمد الشرع في ظهور يدعو للاستغراب على منبر الجامع الأموي: "في صلاة فجر يوم 6-12-25: أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم"، متوقفًا عند شطر الطاعة وحده، من دون ذكر شرط سقوطها أو حق الناس في نزعها، وهو اجتزاء لا يمكن اعتباره سهواً، بل يعد إسقاطًا متعمّدًا لجوهر المقولة، أو عفوياً انطلاقًا من قناعة راسخة لديه: لا سوري يصلح لرئاسة البلد أكثر منه، وكأنّه يرى نفسه غير معني بالمعيار - الأصل - الذي قيّد به أبو بكر سلطته، أو كأنّ سلطته أكبر من أن تُقاس به، إذ راح يواصل خطابه وعيدًا لكن ضد من، قائلاً: "فوالله لن يقف في وجهنا أي أحد مهما كبر أو عظم"، من دون تحديد من يعنيهم، هل هم مواطنو سوريا الذين لم يُؤخذ رأيهم في استرئاسه أم الخارج الذي جاء به إلى القصر الجمهوري، عبر عملية تسليم واستلام، في الوقت الذي تحتل فيه إسرائيل أراضٍ سورية، منتهكة الحدود السورية باستمرار.

أجل، لاسيما بعد ظهوره بلباسه الجهادي الذي خلعه وأقلع عنه مع اسمه الجهادي - أبي محمد الجولاني ليستبدله باسمه المقلع عنه أحمد الشرع - وهو لا يصلح أن يكون إمامًا بسبب وظيفته المغتصبة، ولا يستوي لباسه مع لباس الإمامة في مدينة حضارية، وبلد حضاري. إن الرسائل المشفرة التي أرادها السيد الشرع، أو فرضت عليه تحت حماية من اعتمدهم مواطنو بطانة درجة أولى، كطاقم لسلطة الطائفة الجديدة الحاكمة، فقد كان يجب أن تُوجّه جهارًا للخارج، لئلا يلتبس أمر توجهها للداخل، خاصة أنه تم النيل من مكونين سوريين: العلويين والدروز، وبقي مكوّن لا يزال ملفه مستعصياً على طاولة الانتظار. مكوّن يريد عودة سوريا كي تكون بلد كل السوريين، وأن تنبذ الطائفية التي كانت بكل أشكالها مدعاة إبادة ودمار وخراب لبلدنا.

إن استعادة الثقة بين المكوّنات تحتاج إلى خطوات محددة: إعادة فتح المجال السياسي أمام الحركة الكردية، وقف خطاب الكراهية، وإعلان موقف رسمي يرفض استهداف أي مكوّن سوري. ويقينًا، إن السلطة قادرة على ذلك إذا رغبت، لكنها حتى الآن لم تقدّم ما يشير إلى استعدادها لإدارة الدولة بوصفها مسؤولية مشتركة. وجميعنا يعلم أن استمرار التحريض سيعيد إنتاج الصراع، وسيؤدي إلى مزيد من التفكك.

ولا يمكن لسوريا أن تستقر فيما إذا كان جزء من شعبها مهدّدًا. وبديهي أن الكرد، سواء أراد المحرضون ومن وراءهم من عنصريين أم لا، جزء أساسي وتاريخي من البنية السورية، وأن استهدافهم يفتح الطريق لتهديد المكوّنات الأخرى. حماية الكرد هي حماية للاستقرار، لا مطلب فئوي. السلطة الجديدة في دمشق مطالبة بأن تتصرف وفق هذا المبدأ، لا وفق مبدأ التعبئة التي بدأت تخرج عن السيطرة.