منذ أن ظهر مصطلح الشرق الأوسط سياسياً في كتاب بيريز، والمنطقة في حالة تحول وتغير مستمرة لِارتباطها بتحولات القوة الإقليمية والدولية. فهي من أكثر المناطق في العالم أهمية من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية لكل الدول الطامحة للسيطرة على بناء القوة إقليمياً ودولياً. وكما يُقال: من يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على النظام الدولي ويتحكم في قراراته. تاريخياً، كانت المنطقة موضع صراع وحرب فعلية وباردة بين القوتين عالمياً: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، سيطرت الولايات المتحدة كقوة مهيمنة أحادية. واليوم، ومع تحولات القوة وصعود الصين و روسيا، بدأت تبرز ملامح مرحلة جديدة من الصراع على المنطقة.

ومن المتغيرات المهمة التي تشهدها المنطقة زيادة دور دول المنطقة وفاعليتها وتنامي قوتها كقوى قادرة على ملء فراغ القوة وبناء تحالفات إقليمية تراعى مصالحها. وهنا نرى دور مصر و السعودية و الإمارات وغيرها من دول المنطقة، ومحاولات استعادة دور دول مهمة كالعراق وسوريا.

ولعل من أهم التحولات والتغيرات التي شهدتها المنطقة حرب غزة، والتي تجاوزت في تداعياتها حدودها الجغرافية الضيقة، لتصل إلى تغييرات إقليمية ودولية وظهور فواعل جديدة كالحركات الشبابية والطلابية في دول مهمة كأميركا و أوروبا، وتراجع في الدور الإسرائيلي وبداية مرحلة الانتقاد لسياسات إسرائيل وحرب الإبادة التي مارستها وما زالت، واستعادة الحديث عن إحياء ملف القضية الفلسطينية وقيام الدولة الفلسطينية التي تعتبر أحد الأسس الجديدة للشرق الأوسط الجديد الذي تسعى إليه أميركا وغيرها من الدول الإقليمية.

الشرق الأوسط إقليم تتحكم فيه العديد من الدول. أولاً: أميركا. وكما دعا الباحثان في مجلة الفورين أفيرز، ولي نصر وماريا فانتا، إلى استراتيجية أميركية تقوم على ثلاثة أمور: معاهدة دفاع مشترك مع السعودية، ووقف الحرب في غزة وإقامة الدولة الفلسطينية، وترتيب إقليمي يسمح لأميركا بالتركيز على آسيا و أوروبا لمواجهة الصين وروسيا.

واليوم، أميركا أكثر نقاشاً في قضايا المنطقة وأزماتها في سوريا والعراق وإيران ولبنان، وسعيها لبناء سلام شامل بين دول المنطقة وإسرائيل. وتتبنى مقاربة تقوم، بالرغم من عدم التخلي عن المنطقة، على إعطاء دور أكبر للقوى الفاعلة وبناء تحالفات استراتيجية معها كالسعودية ومصر والإمارات وتوسيعها لتشمل إسرائيل. وكما أشار السيناتور الجمهوري جيم ريشي، مع تغير الشرق الأوسط بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية، ستكون السعودية قائداً مهماً في العديد من الملفات.

وعموماً، الموقف الأميركي تحكمه أمن وبقاء إسرائيل، فأي شرق أوسط جديد يُفترض أن يقوم على التطبيع الكامل وغلق ملف القضية الفلسطينية نهائياً، وأن يكون لإسرائيل دور محوري في أي تحالف إقليمي جديد.

وكما جاء في وثيقة الأمن القومي الأميركية الجديدة، أن الشرق الأوسط ظل على مدار نصف قرن في مقدمة أولويات الولايات المتحدةلأهميتها كمصدر للطاقة ومسرحاً للحرب الباردة، ومصدراً لصراعات كان يمكن أن تمتد دولياً. وكما أشارت الوثيقة، لم تعد المنطقة مصدراً للطاقة، وتحوّل المنافسة إلى منافسة بين القوى الكبرى، وهو ما يعني أن تحتفظ عن أفضل موقع ممكن آخر، وأن الصراع بات أقل تعقيداً الآن. وهناك توافق ملموس على مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهناك تحول إيجابي في سوريا، ووفقاً للوثيقة، سيتحول الشرق الأوسط لمنطقة جذب للاستثمار، وأن شركاء الشرق الأوسط يُبدون التزاماً أكبر ضد التطرف.

هذا، وحددت الوثيقة مجموعة من المصالح أهمها: عدم وقوع إمدادات النفط في يد الخصوم، حماية حرية الملاحة في المنطقة، ضمان أمن إسرائيل، عدم تحول المنطقة إلى منصة تهديد، توسيع الاتفاقات الإبراهيمية. وأهم ما أشارت إليه أن الأيام التي كان الشرق الأوسط يهيمن فيها على السياسة الخارجية الأميركية قد ولّت، ليس لأن الشرق الأوسط لم يعد مهماً، بل لأنه لم يعد مصدراً للمنغصات أو سبباً محتملاً لكارثة.

وحسب قول إحسان الخطيب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مُراي ستيت، أن جوهر المقاربة الأميركية يقوم على تشابك اقتصادي أوسع يقوم على المنفعة المتبادلة، وأن الاستراتيجية تضمن اعترافاً أن الإدارات السابقة أخطأت حين لم تُبدِ احتراماً كافياً للثقافة المحلية، وأن المنطقة أصبحت أكثر استقراراً بعد حرب إيران.

والفاعل الثاني الذي يرى في المنطقة أهمية استراتيجية هي الصين، ببناء شراكات استراتيجية واقتصادية مع دول المنطقة وتقديم نفسها ليس بديلاً عن الولايات المتحدة، بقدر أنها قوة عالمية صاعدة وأنه لا غنى عنها في موازنة قوة ومصالح دول المنطقة في مواجهة أحادية القوة الأميركية. لا شك نجحت في بناء شراكات استراتيجية مهمة مع أكثر من دولة من دول المنطقة، وخصوصاً دول الخليج العربي، وبناء علاقات مع إيرانكقوة إقليمية منافسة وداعمة للدور الصيني.

وإلى جانب الصين هناك الدور الروسي وتثبيت مصالحه ووجوده بعلاقاته مع إيران وعلاقاته التقليدية مع أكثر من دولة من دول المنطقة، وبناء شبكة علاقات جديدة تقوم على أسس جديدة من المصالح المتبادلة. ورأينا نماذج من هذه العلاقات مع الإمارات والدور الذي قامت به الإماراتفي تبادل الأسرى بين روسيا و أوكرانيا.

ولعل الإشكالية الكبرى في عقدة الشرق الأوسط هي إسرائيل، التي تريد شرق أوسط جديداً أولاً بدون فلسطين، كما عبَّر عن ذلك نتنياهو في خرائطه التي عرضها من على منبر الأمم المتحدة؛ شرق أوسط تكون فيه إسرائيل الدولة الأحادية، والحيلولة دون وجود أي قوة من قلب المنطقة أو دولة إقليمية كإيران أو تركيا تملك سلاحاً نووياً أو سلاحاً يغير موازين القوة لغير صالحها؛ شرق أوسط تفرض فيه إسرائيل سلامها القائم على القوة والتفوق العسكري؛ شرق أوسط تحكم خريطته أمنها وبقاءها دونما أي اعتبار لأمن الدول الأخرى، وتكون فيه إسرائيل الدولة المتفوقة عسكرياً وتكنولوجياً.

وهذه الرؤية الأحادية تتعارض مع مصالح وأمن الدول الأخرى، وهي أقرب إلى الخيال السياسي منها لواقع القوة ولتحولاتها التي شهدتها المنطقة. فلم تعد دول المنطقة دولاً تابعة ولا فاقدة للقوة، فاليوم نجد تحولات في فاعلية وقوة دول المنطقة القادرة على تشكيل تحالف إقليمي منها، وقادرة على ملء أي فراغ للقوة. أضف إلى ذلك، اليوم الدول العربية لديها شراكات استراتيجية شاملة ومتنوعة وتمتد علاقاتها لتغطي كل الخارطة الكونية. والأهم في الفاعل العربي امتلاكه لعناصر القوة الشاملة، وخصوصاً القوة الناعمة كبروز دور أكبر لدول الخليج العربي، وتطورت علاقاتها التحالفية مع الولايات المتحدة ذاتها كما نرى مع الإمارات والسعودية وقطر ومصر.

ويبقى السؤال الرئيس هنا: بالنسبة إلى من يملك الحق في إعادة بناء خارطة المنطقة، هل هي دول المنطقة؟ أم الدول الإقليمية؟ أم الولايات المتحدة؟ وما دور الصين وروسيا وأوروبا؟ وهذا هو السؤال الذي يواجه الدول العربية وحفاظها على خارطتها وأمنها العربي.