منذ عقودٍ والجدل لا يهدأ حول الفرق بين نجد واليمامة، غير أنّ ما تغيّر مع الزمن هو زاوية النظر لا الموضوع نفسه. ويظلّ السؤال اليوم أوسع من حدود الجغرافيا: كيف غلب الاسم على المكان؟ وكيف تحوّلت «نجد» من وصفٍ لأي مرتفع إلى عنوانٍ للداخل كله، بينما انحسر اسم اليمامة مع انتقال الثقل السياسي شرقًا؟ وما الذي تكشفه الجيولوجيا ومسارات الاستقرار عن الفارق بين الهضبة والواحة؟ وما العوامل التي عمّقت التداخل الثقافي بين الإقليمين؟ وكيف انتقل الجدل من توصيف تضاريسي إلى توتّر هويّاتي؟
ومن هنا يبدأ تتبّع اليمامة التي ذابت في نجد: من اللغة إلى السياسة، ومن الطبيعة إلى الهوية.
يُعدّ حضور اليمامة في السرد العربي المبكر أوسع من أن يُحصر في رقعة جغرافية ضيّقة. فقد ذُكر اسمها في الروايات والأساطير قبل الإسلام بقرون، وتُروى عن أهلها أخبار طسم وجديس وقصة زرقاء اليمامة التي امتدت مواضعها من حجر اليمامة إلى الأفلاج. وفي صدر الإسلام برزت اليمامة إقليمًا مستقلًا له وزنه في المراسلات والأحداث، خاصة مع حروب الردّة وظهور مسيلمة الحنفي وحليفته سجاح التميمية، ما يدلّ على أنّ الاسم كان يحمل دلالة سياسية وجغرافية واضحة. وقد وصفها ياقوت الحموي في القرن السادس الهجري بأنها إقليم واسع يشمل بلداتٍ مثل حجر والخرج والوشم وفلج (الأفلاج).
الالتباس
يعود أصل الالتباس إلى أنّ نجد في العربية القديمة لم تكن اسمَ إقليمٍ محدّد، بل توصيفًا طبوغرافيًا (تضاريسيًا) لكل ما ارتفع من الأرض، في مقابل السهل الساحلي المنخفض المعروف بتهامة أو الغور. ويظهر هذا التقابل في الاستعمال المبكر؛ إذ يرد في الخبر: «كلا فإنكم أهل نجد… وإنا أهل تهامة…»، بما يدلّ على أن نجد وتهامة استُعملتا للدلالة على بيئتين مختلفتين: مرتفعة ومنخفضة، لا على حدود جغرافية ثابتة.
وعند ياقوت الحموي تُنقل القاعدة التي تداولها أهل اللغة والجغرافيون قبله: «كل ما ارتفع عن تهامة فهو نجد». وهو تعريف يقوم على معيار تضاريسي يقارن بين المرتفع والمنخفض، من دون أن يعيّن نطاقًا مكانيًا محدّدًا. ومن هنا اتّسع استعمال «نجد الكبير» توصيفًا للمرتفعات الداخلية، فغلب في التداول اللاحق على «نجد» بوصفها اسمًا لإقليم الهضبة. على أن هذه القاعدة تبقى عاجزة عن الضبط المكاني الدقيق، لأنها تصف الارتفاع حيثما وُجد في شبه الجزيرة العربيّة، لا مجالًا تضاريسيًا متجانسًا.
ولم يكن هذا الاتّساع في معنى نجد لغويًا فحسب، بل تزامن مع تحوّلات سياسية أضعفت حضور اسم اليمامة في التداول الإداري. فمنذ القرن الخامس الهجري تقريبًا تآكلت السلطة المحلية فيها، وانتقل الثقل السياسي شرقًا نحو الأحساء. ومع تعاقب العهود: القرمطية فالعيونية فالعصفورية فالجبرية، ثم لاحقًا إمارة بني خالد (آل عريعر)، ترسّخ مركز الأحساء بوصفه موضع القرار والقوة العسكرية، فيما بقي نطاق اليمامة خارج إدارة مركزية مباشرة. وفي المقابل تقدّم اسم نجد بوصفه المسمّى الأوسع للمرتفعات الداخلية.
الجيولوجيا
جيولوجيًا، تكشف خرائط هيئة المساحة الجيولوجية السعودية أنّ وسط شبه الجزيرة العربية لا يقوم على كتلة واحدة، بل يمرّ بتدرّج واضح من الغرب إلى الشرق. ففي الحجاز يبرز الدرع العربي بصخوره النارية والمتحوّلة القديمة. ومع التوجّه شرقًا يتراجع نطاق الدرع تدريجيًا، وتظهر هضبة نجد بوصفها منطقة انتقال بين الدرع والرسوبيات؛ إذ تقوم على أساس ناريّ ومتحوّل تعلوه طبقات رسوبية متفاوتة السماكة. ثم يكتمل هذا التدرّج في اليمامة، حيث يبدأ النطاق الرسوبي العميق.
وتبدو اليمامة نطاقًا رسوبيًا يغلب عليه الحجر الجيري الكربوناتي مع حضور رملي على أطرافه، وهو ما يميّزها عن النطاق الانتقالي في نجد. وفرضت بنيتها الرسوبية وفرةً مائية هيّأت نشوء القرى والبلدات، في مقابل غرب نجد ووسطها اللذين يقتربان من طبيعة الدرع العربي الصلب شحيح المياه السطحية. أمّا أطراف نجد الشرقية فتضم نطاقاتٍ مختلطة أكثر رسوبية، تحتوي خزانات جوفية عميقة لم تتضح خصائصها إلا مع الحفر الحديث، كما في القصيم وشرق حائل.
ومن هذا الاختلاف الجيولوجي تكوّنت الفوارق الكبرى بين الأقاليم: فالحجاز نطاق صخور نارية ومتحوّلة، ونجد نطاق انتقالي يختلط فيه القديم بالرسوبي، واليمامة نطاق رسوبي جيريّ في أساسه، تتوزّع الرمال على هوامشه.
اليمامة
في هذا الموضع الجغرافي تشكّلت اليمامة بوصفها استثناءً زراعيًا في قلب الجزيرة؛ إذ كانت نطاقًا مائيًا مستقرًا داخل محيط رعويّ غلب عليه التنقّل. فمنذ الجاهلية ارتبط اسمها بالماء والقرية، فيما غلب الرعي على هضبة نجد وصاغ إيقاع الحياة في معظم أطرافها. ومثّلت اليمامة نطاقًا عمرانيًا وزراعيًا متصلًا، توزّعت فيه الواحات والاستيطان المبكّر على امتدادٍ جغرافي واسع.
ورغم تشكّل اليمامة كإقليم زراعي مستقر، فإن الرعي وحضور البادية لم ينقطعا عنها، بل استمرّا نشاطًا موازيًا على الأطراف؛ وهو ما يعكس طبيعة المنطقة الانتقالية بين الواحة والهضبة.
وتتقدّم حَجَر اليمامة (الرياض حاليًا) بوصفها أقدم المراكز الحضرية التي لم ينقطع استيطانها في هذا الإقليم منذ الجاهلية، وهي عاصمته التاريخية، ومنها تفرّعت القرى الزراعية في نطاق العارض والخرج. واتّسع الاستقرار بتدرّج تحكمه المياه لا السياسة؛ فشمالًا ظهرت بلدات الوشم وسدير والمحمل، وعلى أطراف الرمال برزت الزلفي. ثم امتد جنوبًا إلى الأفلاج حيث بلدة العيون والبحيرات المائية، تلتها الحوطة والسليل، وصولًا إلى وادي الدواسر في أقصى جنوب الإقليم، وانتهاءً بقرية الفاو التاريخية. وبذلك لم يتشكّل عمران اليمامة مصادفة، بل كان ثمرة الماء والزراعة والاستقرار.
نجد
وفي نجد الهضبة يقوم أقدم مركز للاستقرار الحضري في نطاق جبل طيّء، حيث تقع حائل. وقد ارتبط عمرانها المبكّر باستقرار القبائل الطائية منذ الجاهلية، ثم تعاقبت عليها أدوار سياسية وتجارية جعلتها مركزًا محوريًا في شمال نجد، مع امتداد تاريخ الاستيطان البشري فيها إلى عصور سحيقة تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد.
أمّا في القصيم فتمثّل عنيزة أقدم بلداته الحضرية؛ إذ تأسست فعليًا في القرن السابع الهجري، ثم لحقت بها بريدة والرس في القرن العاشر. ونشأت هذه البلدات الثلاث في مسارٍ زراعي وتجاري متدرّج، مع انتعاش طرق القوافل واستثمار الموارد المائية المحلية.
وتحدّ نجد شمالًا النفود الكبير، وجنوبًا بيشة ووادي الدواسر، فيما تحفّها من الغرب حرات الحجاز. أمّا شرقًا فتفصلها نفود السر عن نطاق اليمامة، إذ يشكّل هذا الشريط الرملي الممتد من أطراف الزلفي شمالًا إلى وادي الدواسر جنوبًا حدًّا طبيعيًا يوضّح التدرّج بين الإقليمين في طبيعة الأرض. ويظهر هذا الفاصل التضاريسي بوضوح عند تتبّعه على خرائط جوجل ضمن طبقة التضاريس.
الثقافة والتاريخ
على امتداد نجد واليمامة تشكّل تداخل قبلي وثقافي بفعل حركة الاستيطان والتنقّل الطويلين، خصوصًا لدى القبائل ذات الامتداد التاريخي الراسخ قبل الإسلام وبعده، مثل طيّء وبني تميم وبني حنيفة، إضافة إلى عوائل وفدت من أصول قبلية أخرى في مراحل مختلفة لأسباب اقتصادية أو صراعات داخلية. وأسهم هذا التداخل في تشكيل البنية السكانية للهضبة والواحات معًا، فلم يبقَ أي نطاق منعزلًا عن الآخر، بل نشأ بينهما ترابط ثقافي وثيق بحكم توزّع القبائل المذكورة بين الإقليمين. وانعكس هذا التفاعل في تقارب اللهجات، وتشابه الفنون والمأكولات الشعبية، وتقاطع أنماط المعيشة.
ومع أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العاشر الهجريين شهدت نجد واليمامة موجات انتقال من بادية الحجاز، وبدرجة أقل من شمال الجزيرة وجنوبها، طلبًا للماء والمراعي. ومثّلت سبيع والسهول إحدى أقدم موجات الانتقال المستقر إلى بلدات اليمامة بطابع غير صدامي. وجاء ذلك مع انحسار نفوذ بني لام الطائية تدريجيًا عن نجد الداخلية بفعل الصراعات والهجرات المتتابعة إلى خارج الجزيرة العربية. ومع هذه التحولات تهيّأت البيئة لظهور الحلف الطائي في حائل، المعروف بالحلف الشمري، بوصفه حصيلة تراكمات تاريخية لا نتيجة معركة واحدة فاصلة. ثم غدا هذا الحلف قوة إقليمية حالت دون تمدّد أمراء بني خالد وأشراف مكة نحو شمال هضبة نجد، ولم يتعرّض لاهتزاز حقيقي إلا مع الدعوة السلفية التي تبنتها الدولة السعودية الأولى، حيث انقسمت القبيلة داخليًا لأسباب مذهبية.
أما الدواسر فكان واديهم — جنوب اليمامة على حافة الربع الخالي — موطنًا مبكرًا لبطون تغلبية وأزدية منذ القرن السابع الهجري قبل تشكّل التحالف، وجاء انتقال كثير من العوائل إلى بلدات اليمامة الداخلية في القرنين العاشر والحادي عشر امتدادًا طبيعيًا لحركة الاستقرار. ولم تُسجَّل للبادية حروب انتقال كبرى، بل احتكاكات محدودة على الماء والموارد بدأت مع قبيلة بني لام ثم مع قحطان بعدها بقرن أو قرنين.
وتتابعت بعد ذلك موجات رعوية متحرّكة نحو وسط نجد وجنوبها، شملت قبائل حرب ومطير وعتيبة وقحطان، مع محاذاة البقوم لأطراف نجد عند حرتهم. أمّا بادية عنزة فكان دخولها مؤقتًا بطلب من ابن عريعر، قبل أن تعود مع ابن هذّال إلى الشمال، وبقيت بعض عوائلها التي اتجهت لاحقًا إلى الاستقرار الحضري. وكان وجود عوائل عنزية في بلدات القصيم سابقًا على زمن ابن هذّال بقرن أو قرنين، فاستقرّ بعضها وتنقّل بعضها الآخر بين حواضر نجد واليمامة. وقد رافقت تلك الموجات الرعوية، بجميع مراحلها وقبائلها، نزاعاتٌ على الموارد والنفوذ بين القرنين العاشر والثالث عشر الهجريين، تُجدّدها الثارات وتطيل عمر الخصومة.
وقد كانت القبائل المتنازعة في هذه الأقاليم ترتبط بمرجعيات سياسية، وتدفع الزكاة أو الإتاوة للجهة التي تندرج ضمن مجال نفوذها، سواء في مكة أو الأحساء أو حائل أو الدرعية، تبعًا لموازين القوى في كل مرحلة. ومع الاستقرار والتوطين في العهد السعودي اندمجت هذه الجماعات تدريجيًا في البنية النجدية العامة، مع احتفاظ بعضها بعاداتها وتقاليدها الثقافية القادمة من الحجاز أو الجنوب أو الشمال، وهو ما أضاف إلى ثقافة المملكة ثراءً وتعدّدًا في الروافد.
الخلاصة
لم يعد الجدل بين نجد واليمامة مسألةً جغرافية خالصة، بل تحوّل إلى توتّر هويّاتي تُستدعى فيه الأسماء بوصفها شارات انتماء لا توصيفات مكان. وبذلك جرى تفريغ الجغرافيا من معناها العلمي؛ وحين غلب الرمز على المكان تراجعت الخرائط أمام السرديات المتخيّلة التي تصوغها الذاكرة الجمعية. فلم يعد الخلاف خلاف تضاريس، بل خلافًا على الصورة الذهنية للإقليمين.
وتكشف نقاشات ممتدة عبر سنوات طويلة مع أهل نجد واليمامة مفارقة لافتة: إذ يبدو كثير من أهل نجد أقل انشغالًا بهذه الثنائية الاسمية، بينما يتمسّك بها عدد من أهل اليمامة بوصفها رمزًا للانتماء. والواقع أن اليمامة، بعد أن ذاب اسمها في نجد، أسهمت في إعادة تشكيل صورة الإقليم في الوعي الشعبي بدل أن تختفي منه؛ حتى صار بعض أهلها يحصرون معنى نجد في الوشم وسدير والعارض، فيما يتراجع حضور سكان الهضبة الفعليين في هذا التعريف.























التعليقات