هل هنالك صفقة سوريّة إسرائيليّة؟
لا حاجة إلى الضّرب بالمندل، أو الذّهاب إلى بصّارات وبرّاجات لمعرفة الخطوط العريضة لصفقة سوريّة إسرائيليّة، فيما لو كُتب لها النّجاح. فالطّرفان، السّوري والإسرائيلي، يعرف كلّ منهما على حدة ما تستوجبه هذه الصّفقة منه. فالطرف الإسرائيلي يعرف أنّ خطوط هذه الصّفقة العريضة تتطلّب من جانبه انسحابًا كاملاً من الهضبة السّورية المحتلّة منذ العام 1967، مثلما حصل في سيناء بعيد عقد اتّفاق السّلام بين مصر وإسرائيل، حيث انسحبت إسرائيل من سيناء إلى الحدود الدّوليّة المعترف بها. والطرف السّوري يعرف من جهة أخرى أنّ صفقة كهذه تستوجب من جانبه اعترافًا دبلوماسيًّا كاملاً بإسرائيل وبالحدود المرسومة بين الدّولتين وتبادل التّمثيل الدّبلوماسي بين الجانبين ما يعني فتح سفارة سوريّة في تل-أبيب وسفارة إسرائيليّة في دمشق، بالإضافة إلى ترتيبات أمنيّة وأخرى على الحدود بين الجانبين.

هذه هي الخطوط العريضة
للصّفقة. كما يعرف الطّرفان بنودها التّفصيليّة، منذ أن بدأت الاتّصالات بين الجانبين قبل أكثر من عقد من الزّمان. غير أنّ السّؤال الّذي يطرح نفسه دائمًا هو هل القيادات في البلدين قادرة على الوفاء بما يتطلّبه اتّفاق سلام من هذا النّوع؟ والإجابة على سؤال كهذا ليست بالأمر السّهل إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار كلّ ما انبنت عليه استراتيجيّات الطّرفين طوال العقود الأخيرة بالإضافة إلى الأيديولوجيّات المتحكّمة في البلدين.
في الماضي كان ثمّة ما يشبه الارتباط بين الجبهة المصريّة والجبهة السّوريّة، وقد برز هذا الارتباط في حرب العام 1973. غير أنّ تلك الحرب قد كشفت منذ البداية عن تباين بين الطّرفين المصري والسّوري. لقد ظهر هذا التّباين جليًّا في الاسم الّذي أطلق على هذه الحرب. وللأسماء في هذا السّياق أهميّة كبرى لأنّها تكشف عن أعمدة ذهنيّة عميقة تتأسّس عليها المباني الّتي يعيش فيها المجتمعان وليس القيادات فحسب. ففي مصر أطلقوا على الحرب اسم quot;أكتوبرquot;، ما يشي بعمق التأثُّر المصري بالغرب، بينما في سورية أطلقوا عليها اسم quot;تشرينquot; الشّائع بين العرب ظنًّا منهم أنّ الاسم عربيّ وما هو بعربيّ. وللمقارنة فقط، ففي إسرائيل أطلقوا على الحرب اسم quot;يوم الغفرانquot; نسبة إلى اليوم اليهودي المقدّس. ولهذه التّسميات دلائل كبيرة في هذه المجتمعات، وإن لم تكن طافية على السّطح.

وهكذا، سرعان ما ظهر
التّباين بين quot;أكتوبرquot; المصري وquot;تشرينquot; السّوري من خلال شخصيّة الرئيس السّادات الّذي فهم أنّ خيوط اللّعبة يتمّ تحريكها في واشنطن، وليس في موسكو فقام بتعديل الاستراتيجيّة المصريّة رأسًا على عقب. بينما استمرّ الرئيس الأسد الأب في خندق ما يُطلقون عليه اليوم اسم quot;الممانعةquot; وما إلى ذلك من مسمّيات بلاغيّة لفظيّة ليس إلاّ. إذ أنّ هذه الممانعات البلاغيّة تعني، كما يعرف الجميع، أنّ جبهة الجولان ومنذ أكثر من ثلاثة عقود هي أكثر الحدود هدوءًا في العالم.
وبعد أن جنحت مصر السّادات إلى السّلم عاقدة اتّفاقيّة السّلام أدار العرب ظهورهم لمصر مغدقين عليها وعلى قياداتها أبشع الأوصاف متّهمينها بالخيانة وما إلى ذلك. وفي الحقيقة لم يأبه السّادات ومصر لذلك بل أصرّت على استراتيجيّتها الجديدة. وهكذا بعد زمن ليس بطويل عاد العرب أجمعين إلى مصر الّتي لم تغيّر سياستها، وها هم جميعًا الآن يتوسّلون ذات الغرب الّذي دأبوا على سبّه ليل نهار ويستجدون المعونات منه.
ومنذ ذلك الوقت اتّخذ النّظام السّوري من لبنان ساحة لتصريف كلّ تناقضاته الداخليّة والخارجيّة. لقد قرّر منذ ذلك الوقت اللّعب بالورقة اللّبنانيّة على جميع الأصعدة. فمن جهة تحوّل لبنان سوقًا للعمالة السّوريّة ما يشكّل تخفيفًا لحدّة الوضع الاقتصادي السّوري المتّسم بالرّكود إن لم يكن بالموات، ومن جهة أخرى أصبح لبنان ساحة وحيدة للتّذكير بالجولان المحتلّ، من خلال دفع عملائه اللّبنانيّين على جميع طوائفهم بالإبقاء على حرارة الصّراع مع إسرائيل. لهذا الغرض، كان ولا يزال هذا النّظام السّوري مستعدًّا أن يحارب إسرائيل حتّى آخر لبناني على وجه الأرض، وإن تطلّب الأمر، فأيضًا حتّى آخر فلسطيني.

خطّة الأسد للقضاء على حزب اللّه:
من المفيد أحيانًا الاستماع إلى ما يقوله المسؤولون الغربيّون. فهؤلاء في الغرب الديمقراطي يكشفون أحيانًا عن خبايا لا تصل أسماع القارئ العربي بأي شكل من الأشكال. القارئ العربي المسكين يظلّ في عزلة وفي ظلمة لأنّه يعيش في أنظمة إعلاميّة مأجورة للأنظمة بكلّ كبيرة وصغيرة. فها هو بروس رايدل الأميركي، وهو رجل السي آي إيه، الّذي كان مستشارًا للرئيس الأميركي كلينتون لشؤون الشّرق الأوسط وكان شريكًا نشطًا في الاتّصالات والمباحثات السّوريّة الإسرائيليّة على عهد الرئيس الرّاحل حافظ الأسد يكشف بعض ما يدور في ذهن النّظام السّوري. يروي بروس رايدل عن الخطّة الّتي كان سينتهجها النّظام السّوري للقضاء على حزب اللّه. يروي بروس برايدل أنّه وأثناء حديث في إحدى الغرف مع مندوب سوري كبير للمفاوضات بين الجانبين السّوري والإسرائيلي روى له المندوب السّوري عن الطّريقة الّتي ينوي بها النّظام معالجة أمر حزب اللّه فيما لو تمّ الاتّفاق بين الجانبين. يروي برايدل أنّ المندوب السّوري قال له: quot;سندعوهم إلى وليمة في حماة، وهناك سنقول لهم: مبروك، لقد تحوّلتم منذ الآن إلى حزب سياسي. ألقوا سلاحكم. الّذين سيوافقون على الاقتراح منهم سيُسمَح لهم بالعودة إلى لبنان، أمّا الّذين لا يوافقون فسيبقون في حماة للأبدquot;. والإشارة واضحة إلى طريقة التّعامُل مع هؤلاء، إذ أنّ النّظام السّوري سيُبقي هؤلاء في تراب حماة إلى يوم يبعثون. الدّعوة إلى حماة لها أكثر من دلالة إذ أنّ الجميع يعرف ماذا جرى هناك في الثّمانينات. طبعًا لن يُنشر مثل هذا الكلام في صحافة الأنظمة، وسيظلّ القارئ العربي جاهلاً بما يجري حوله.

مهما يكن من أمر،
فإنّ الإعلان عن بدء مفاوضات بين سورية وإسرائيل بوساطة تركيّة قد يعيد إلى الأذهان الحديث عن صفقات قد تتمّ من وراء الكواليس على حساب لبنان أو غير لبنان بعد أن ينتهي دور هؤلاء من خدمة مصالح هذا النّظام. هكذا كان دائمًا وهكذا يكون إلى يوم يبعثون لأنّ غاية هذا النّظام في نهاية المطاف هي الحفاظ على نفسه وسلطته بكلّ الوسائل المتاحة، أمّا لغة الممانعة والمقاومة البلاغيّة فهي كانت دائمًا لعبة الأنظمة العربيّة الفاسدة بهدف التّستُّر على طبيعتها الدّكتاتوريّة الظّالمة.
على كلّ حال، هل سيعترف نظام quot;الممانعة البلاغيّةquot; بإسرائيل ويعقد اتّفاقيّة سلام معها ويفتح سفارة سوريّة في تل-أبيب قبل الاعتراف بلبنان وفتح سفارة سورريّة في بيروت؟ أم أنّ كلّ ما في الأمر هو مجرّد لعبة تودّد للولايات المتّحدة ابتغاء الإفلات من المحكمة الدّوليّة المزمعة؟
والسؤال الّذي يطرح نفسه، بعد هذا النّشر عن المفاوضات السّوريّة الإسرائيليّة، هو: هل يحقّ للنّظام السّوري إجراء مفاوضات سلام مع إسرائيل، بينما لا يحقّ الأمر ذاته للّبنانيّين؟
لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا. أليس كذلك؟