كامل الشيرازي من الجزائر: صغيرة في حجمها.. كبيرة في تاريخها، إنها مدينة المدن لكنها متواضعة، هكذا لخص جمهور الباحثين والرواة مدينة quot;ميلةquot; الجزائرية (450 كلم شرق العاصمة)، وخلف الطلائع الأولى لطيور اللقلق التي تسجل حضورها باحتشام هذه الأيام فوق الأشجار المعمرة الشاهقة العلو لحدائق ميلة، يمكن للزائر أن يتملى جمالات المدينة القديمة بمعالمها و بناياتها الأثرية وممراتها الحجرية التي لم تنل منها السنون.
وبين الحيين القديم والحديث لميلة، ثمة بساتين غنية بالأشجار والورود المتنوعة ما تزال صورتها الماضية حاضرة في ذاكرة بعض مسني المدينة، حيث تضم حديقتها أنواعا كثيرة من الورود والأزهار وأصنافا من الطيور وبعض الغزالات التي بقي بعضها لغاية بداية الثمانينات قبل أن تختفي فجأة عن الأنظار، وما زالت بعض أصناف الطيور والورود والنباتات تعانق حدائق ميلة إلى الآن مثلما يبقى تمثال المرأة التي تعانق عجلها قابعا في ركن من الحديقة ولو أن رأس العجل قد تضررنوعا ما، في صورة عاكسة للوضع الحالي الذي آلت إليه ميلة التي تحتاج إلى قليل من العناية لكي تبقى بمثابة الرئة التي يتنفس منها السكان المحليون

لأرض المسقية

يقول الرواة إنّ أصل تسمية quot;ميلةquot; أمازيغي ومعناه quot;الألف ساقيةquot; أو quot;الأرض المسقيةquot;، واسمها مشتق من موقعها الجغرافي حيث تتوسط أهم المدن القديمة، ويعود تاريخ ميلة إلى أوليات العصر الحجري الحديث، وما يدل على ذلك وجود معلم يخلد quot;مشتي العربيquot; أحد أعلام الحضارة الابيرومغربية في شمال إفريقيا خلال مرحلة ما قبل التاريخ، كما يحفل رصيد المدينة المتحفية بأدوات صوانية استعملها الانسان القديم زمن العهد النوميدي.

وبقلب ميلة، تؤخذ شغاف الزائر في المدينة التاريخية quot;زغايةquot; التي يعود تاريخ انشائها إلى سنة 74 للميلاد، ويحكي أبناء ميلة، أنّ مدينتهم كانت تابعة لحكم الملك ماسينيسا النوميدي موحد القبائل الأمازيغية، ومنذ القديم أطلقت تسميات عديدة على ميلة، حيث كانت تسمى ميلو ثمّ ميلاف أيام يوليوس قيصر، ثم quot;ميليومquot;، quot;مولييمquot;، quot;ميديوسquot;، quot;ميلاحquot; قبل أن تستقر عند quot;ميلةquot;، وبرزت منذ تشكّل الكونفدرالية السيرتية تحت حكم سيتيوس نيكرينوس وحملت لقب quot;كولونياquot; آنذاك.

قلاع الرومان والوندال

اشتهرت ميلة بما كانت توفره من قلاع حربية كانت تساعد على حماية امبراطورية سيرتا العتيقة في عهد الإمبراطور تراحان (98 ـ117م)، وفي سنة (360 م) اشتهرت المدينة من خلال القديس أوبتا الذي كان حليفا للقديس أوغسطين ضد القديس دوناتوس أو المذهب الدوناتي المناهض للكنيسة الكاثوليكية.

وعلى غرار مدائن جزائرية أخرى، شهدت ميلة بعد زوال النفوذ الروماني، حضورا ونداليا قويا، حيث جعلها القائد الوندالي بيليزار مركزا لمراقبة باقي الأقاليم المجاورة، قبل أن يسيطر عليها البيزنطيون سنة( 539ـ540 م)، هؤلاء زادوا من تحصينات المدينة، بتشييدهم 14 برجا للرقابة، ما حوّلها إلى حصن منيع، لكن ذاك لم يحل دون تمكّن الصحابي الجليل أبو المهاجر دينار من فتحها سنة( 674 م/55 هـ)، وبنى فيها أول مسجد في الجزائر، والثاني من نوعه في منطقة المغرب العربي بعد مسجد عقبة بن نافع بالقيروان.

من حاضرة إلى محضن للثوار

سرعان ما تحولت ميلة إلى حاضرة كبرى حفلت بحياة سياسية وثقافية أنتجت حراكا فكريا وتيارات منّوعة، إلى أن حكمها الاغالبة الذين أفقدوا المدينة بحسب الباحثين، أهميتها وبريقها، لتصبح سنة (298هـ/908م) أول مدينة أغلبية تسقط في يد الفاطميين، لكنّه وبعد انتقال الخليفة المعز لدين الله الفاطمي (352ـ365هـ /953ـ975م) إلى مصر سنة (361هـ/971م)، ثار سكان ميلة ضد الحاكم الزيري المنصور ابن أبي الفتوح، كما كان ولاء سكان ميلة ضعيفا للعثمانيين لاحقا، ووجهوا ببسالة الاحتلال الفرنسي بعد سقوط ميلة العام 1837م، حيث تموقعت ميلة كمحضن لمختلف الثورات الشعبية ضدّ المحتل، وكانت مركزا استراتيجيا للثورة الجزائرية (1954- 1962م)، ومن كبار شهدائها البطل quot;لخضر شايبيquot; المدعو بن غوالة، إضافة إلى الأولياء الصالحين:quot;سيدي بويحيى، سيدي عزوز، سيدي سعدون، سيدي محرز، سيدي بوخزر، سيدي علي العوادquot;.

ميلة اليوم بلسان أحد عشاقها quot; مدينة هلامية سريالية المظهرquot;، فلا نكاد نقبض على يومياتها الرتيبة حتى تفلت منا لنلاحقها في صباح جديد أشبه بالبارحة، تعيدنا في كل يوم إلى بدايتها الأولى، كما يرى أحد الهائمين بمسلة أنّه كلما مر الزمان عليها ابتعدت عنا ملامحها، وانزاحت رائحتها الترابية القديمة.
ومع ذلك تصرّ ميلة بتاريخها المتعب على تبديد الإحباط اليومي الذي يستولي على زواياها، وهي بنظر أبنائها الأصيلين quot;مدينة تكبر وتكبر ولا تلبث أن تراها قد آثرت الرجوع إلى طفولتها اليانعة، ليستوقفها التاريخ فيسألها عن أي الاتجاهات يسلكquot;.