يبدو لي أن العراق قد تحول إلى مشاهد على شاشة تلفزيونية، الأرض والنخيل والجبال والفراتين وشط العرب، وأنا أتنقل فيه من موقع لآخر بدون سيارة أجرة ولا قطار ولا خوف من القتلة. إجتمع في مجلس الوزراء وفي المجلس الوطني وأحضر حتى الجلسات السرية التي ينقلها من التلفزيون الإعلام العراقي (الغبي) ليوقع نفسه في التناقضات ويلجأ للإعتذار والتخفيف. أزور المشبوهين من أيتام النظام الدكتاتوري في أعلى المواقع السلطوية للحكومة المؤقتة ويسربون المعلومات لإغتيال الموظفات اللواتي وجدن في فرصة العمل في أشد المواقع خطورة ما يؤمن لهن العيش الشريف عندما كان العمل في مثل هذه المواقع يعتبر إمتيازا وسلطة فيتم إغتيالهن في طريق العودة للبيت أو في طريق التوجه للعمل في ساعات الصباح الأولى. أرى دون أن أقع في مخاطرة السيارات المفخخة التي يتناثر بسببها أبناء وطني وتشتعل الحرائق في النخيل والأشجار والمقاهي ولم تصبني منها شظابا ولا بارود، لم أجرح ولم تتأخر سيارة الإسعاف لنقلي ولم يستعصي على الطبيب نقل كمية من الدم من نفس فصيلة دمي. يصعب علي وأنا المخرج السينمائي أن أنفذ مشهدا للتفجير بكل تقنيات العصر بنفس الطريقة التي أشاهدها في شوارع العاصمة العراقية. أقرأ في أسفل الشاشة أخبارا متفرقة كلها تتحدث عن كمين وألغام ثم يصطف على الأرض شباب بأعمار الورد مسجون على الأرض الترابية غارقون بدمهم لا ذنب لهم سوى أنهم لبسوا ثياب حراسة الشوارع وتنظيم حركة المرور أو لأنهم بحثوا عن فرصة عمل في وطنهم المستلب منذ عشرات السنين وحتى إشعار آخر. أشاهد دون أن أكون الشاهد لأنني أرى ما يجري على شاشة التلفزة ولم أكن شاهد عيان لأنني لست على أرض الوطن، ثم أنني أصبحت مواطنا غير مشمول بالمواطنة لأنني غير مشمول بحق الإنتخاب وستسقط مواطنيتي بالتقادم. لا أعرف من يقف معي ومن أقف معه، فإني لست من هؤلاء ولا من أولئك، وهؤلاء وأولئك تقاسموا الوطن ويعملون على تقسيمه لا سمح الله، ولا أدري فإني أستنبط معلوماتي من شاشات التلفزة لأني لست على أرض الوطن. ولعل أقسى ما أراه على هذه الشاشة إختفاء العلماء والأكاديميين الذين كنت أعول عليهم يوما أن يعيدوا للعراق ماءه الصافي وهواءه النقي ويخلصونه من الإشعاعات التي بثت في سمائه وزرعت في أرضه، وكنت أعول على الأدباء والفنانين أن يعزفوا الألحان ويغنوا الأغاني وينشدوا الأناشيد وينجزوا الملاحم على خشبات المسارح وشاشات السينما ويصبح العراق معرضا للرسم وللنحت وللجداريات التي تغرف من الماضي وتزهي الحاضر وتأخذ منه لتستشرف الغد الآتي لأطفال لم يولدوا بعد على أرض كربلاء.
يختفي من على شاشة التلفاز أعداد من الأطباء ويختفي الأطفال وهم في الطريق إلى مدارسهم. في الدراما نرى القاتل والمقتول ولكن في دراما العراق على شاشة التلفزيون نرى الضحية والقاتل مجهول الهوية! فهذه والله بنية درامية جديدة، فلقد حرم الأغريق في المسرحيات الأولى ظهور الجريمة على المسرح لأنهم لا يريدون مشاهدة الضحية. وفي دراما العراق اليوم صرنا نرى الضحية ولا نرى القاتل وحتى الذين يعلن عن إلقاء القبض عليهم لا نراهم ولا نعرف من هم وماذا قالوا وماذا يقولون ويروى أنهم من جنسيات مختلفة وفي سجون مختلفة فما هي جنسياتهم وفي أي سجون يقبعون.. نريد أن نرى وجه القاتل لا وجه الضحية فالبريء المسجى بالدم الطاهر ليس صورة تسر النظر. كل هذا الفيلم التلفزيوني الطويل المخرج بطريقة فاشلة والذي تتخلله مجنزرات وطائرات تدوي على أرض وفي سماء العراق يبدو لي خارج مجال الرؤية أحيانا فيضيع وضوح الصورة عندي لأن شاشات التلفزة تداخلت وأصبح ما يشبه المزج البصري على الصورة فتمتزج صورة الضحية في صورة القاتل وتمتزج صورة الوطني في صورة المتواطئ وأنا أحاول ترتيب الصور فلا أفلح حيث تزدحم الأحداث وتصبح أسرع من قدرتي على عملية التوليف البصري والصوتي.. وأخيرا أتوجه نحو برنامج عالم الصحافة لأستقي منه حقيقة الأخبار من المذيعة التلفزيونية لقاء عبد الرزاق، وقبل أن تكمل سرد الحقيقة يطلق عليها النار من يد تسمى مجازا يدا مجهولة الهوية وتبقى الحقيقة دونما مذيع تلفزيوني يرويها لنا ونحن في الغربة. تتهاوى لقاء عبد الرزاق مثل الحلم وتختفي من الكادر وتتناثر قطرات من دمها الطاهر على عدسة الكاميرا في وضوح الرؤية وتبقى روحها الصافية خارج مجال الرؤية مستقرة في جنان الله سبحانه وتعالى.. وتبقى الشاشة بيضاء ناصعة البياض سوى من قطرات دمها الطاهر وهذه هي الحقيقة التي ينبغي على العراقيين دونما إستثناء أن يقفوا أمامها معتذرين، لأن هنالك مثلا يقول (لا تضرب إمرأة حتى بوردة!)