الاعتدال هو فضيلة الفضائل، يقول أرسطو: الفضيلة وسط بين رذيلتين أحدهما إفراط والثاني تفريط. وقد أكد على هذه الحقيقة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حين قال: (خير الأمور أوسطها) ، و الوسطية من فضائل أمة محمد كما ورد في الذكر الحكيم: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).
الاعتدال مطلوب في كل شيء، هكذا يؤكد منطق الأشياء، وليس الدين باستثناء عن هذه القاعدة، يقول رسول الله (الدين متين فأوغلوا فيه برفق) ، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه )، وقال بأبي هو وأمي: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).
الشدة بالدين تؤدي إلى التطرف والغلو، والتضييق على النفس أولاً وعلى الآخرين ثانياً ، وقد يتوج الإنسان تطرفه بأن يسلك طريق الخوارج والمتطرفين، كما أثبتت الأحداث الأخيرة، وكما دل استقراء تاريخ الخوارج منذ ظهورهم وإلى اليوم.
الخوارج لم يكونوا مقلين في قراءتهم للقرآن، بل كان لهم دوي كدوي النحل من قراءتهم له، غير أن هذا لم يغنهم عن الله شيئا، وقد بين رسول الله أنهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فالمسألة ليست بكثرة قراءة القرآن، ولو كانت كذلك لكان الخوارج خير أمة محمد من سابقين ولاحقين وإلى يوم الدين.
إذن، فعلاقة المسلم بدينه، لابد من أن تكون علاقة متوازنة، لا يشوبها إفراط ولا تفريط، وفي الواقع فنحن لانشكو من التفريط، أو على الأقل، فالتفريط لايشكل ظاهرة، والسبب في هذا، أننا في بلد إسلامي، دستوره كتاب الله وسنة نبيه، مما جعل تدين الإنسان في بلادنا تديناً فطرياً، وذلك على عكس الإفراط، الذي تحول إلى ظاهرة ومشكلة اجتماعية في آن واحد، ويرجع ذلك إلى عدم الالتزام بالهدي النبوي الناهي عن مشادة الدين ومغالبته. وهذا مالا يفهمه الوعاظ للأسف الشديد.
إن الإنسان الذي يحاصر من الوعظ في كل اتجاه، سيشكو في المستقبل من الصراع النفسي، بين متطلبات الآخرة، ولوازم الدنيا، أو كما يقول الدكتور علي الوردي في توصيفه لحالة هذا الإنسان بأنه: ( واقع بين حجري الرحى، لايستطيع أن يترك الدنيا ولا يستطيع أن يترك الجنة التي وعد بها المتقون). إن نتيجة هذا الصراع ستكون في الغالب حسب توصيف الدكتور أن يصاب الإنسان بحالة من حالات ازدواج الشخصية، ونضيف على هذا بأن هناك احتمالين آخرين أولهما: أن يتساهل الإنسان في دينه وذلك نتيجة لردة الفعل المعاكسة للفعل، أو على الأقل بأن يمل الإنسان من هذه المواعظ ويسأم منها، ويشهد لهذا قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (إن رسول الله كان يتخولنا بالموعظة بين الأيام مخافة السآمة علينا) ، مما يدل -كما ورد في تحفة الأحوذي- على وجوب: (الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها )، وقد استشهد في هذا الحديث الدكتور حمزة المزيني في مقال له كان عنوانه ( فقه الوعظ) ثم علق بالقول: (وقد أدت كثرة الوعظ الآن إلى هذا؛ فكثير من الناس ينصرفون عن هذه النشاطات المتتابعة ليلا ونهارا، في المساجد والمدارس والمذياع والقنوات التلفازية والمحاضرات والأشرطة وغير ذلك)، كان هذا أول الاحتمالين، وأما ثانيهما فهو بأن النتيجة قد تكون بأن يغالي المرء في انسياقه وراء هذه المواعظ إلى درجة الغلو والتشدد.
هذا الصراع المفتعل بين الدنيا والآخرة، لانجد له أساس في جوهر الدين ، فالله سبحانه وتعالى يقول: ( ولا تنس نصيبك من الدنيا). هذا هو الهدي القرآني ، ولكن أين المتدبرون ؟
إن الدارس للفكر الذي يطرحه الوعاظ حالياً سيخلص في دراسته أنهم ينقسمون إلى قسمين رئيسيين: أولهما ( الوعاظ التخديريون) ، وثانيهما ( الوعاظ التحريضيون).
في القسم الأول ، يركز الواعظ في مواعظه على الآخرة في تطرف لا ينسجم مع الهدي الرباني، وبشكل يؤدي بالإنسان إلى نسيان الدنيا تماماً في سبيل البحث عن راحة الآخرة، وبهذا ينتج جيل مخدر، يعيش على فتات الحضارة ولايساهم في بناءها.
وفي القسم الثاني، يركز الواعظ على تحريض السامعين في أن يغيروا واقع الدنيا لصالح الآخرة، و بشكل ينطبق عليه واقع المقولة: كلمة حق يراد بها باطل، فهو لايحرضهم على بناء الحضارة، ولكنه يحثهم على هدمها، ويصور لهم بأن طريق الجنة لا يكون إلا بافتراش جماجم أبناء الملل الأخرى، كما أن لابد من تزيين الطريق بجماجم المنافقين المندسين من أبناء ملتنا ، حتى يضمن الإنسان مقعده في الفردوس الأعلى.
وقد أكد على هذه الحقيقة سمو ولي العهد في استقباله لخطباء المساجد ، حيث نبه إلى وجود خطباء يغرسون الأفكار الهدامة في عقول النشء، وأشار بأن الدولة تعرفهم وتتبعهم وقال: (إن بعضكم في الحقيقة لم يوفق أبداً ونحن نعرفهم كلهم، وهؤلاء ستأتيهم نقمة من ربهم، والله يمهل ولا يهمل، يأمر عليهم أحد عبيده، ونحن من عبيده، ليحكم شرع الإسلام فيهم لأنهم بادروا بكلام لا يليق للمسلم أبدا).
إن كثرة القسم الثاني من الوعاظ في بلادنا أمر مشاهد، ومحسوس، كثيرون منهم يرتقون على المنابر في الجمع، ويشكلون عقل التلاميذ في المدارس، ويشرفون على أبناءنا في المراكز.
من الأمثلة الواضحة على ذلك، ماثبت من كون عيسى العوشن - أحد المطلوبين الأمنيين الذين قتلوا في مواجهة حي الملك فهد – مشرفاً ولسنوات عديدة في المراكز الصيفية، لقد أقر بهذا في رسالة مفتوحة وجهها لشباب المراكز، حثهم فيها على الخروج على ولي الأمر، ومحاربة المجتمع، بحجة إعلاء راية الجهاد، ولقد أوضح في رسالته طبيعة الفكر الذي يدرس في هذه المراكز، فذكرهم بما درسوه فيها بخصوص أن من أطاع أولياء الأمور في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فإنه قد اتخذهم أربابا، ولاشك بأن مفهوم الحلال والحرام لدى العوشن ومن نهج نهجه هو مفهوم متطرف ومغالي ومجانب للصواب، ومن هنا كانت الطامة في حقيقة أن العوشن كان يدرس منهجه الفاسد لأبناءنا الذين أشرف عليهم في تلك المراكز، كما أوضح العوشن في رسالته هذه، طبيعة الخطاب التعبوي الذي ينتهج في هذه المراكز، فذكر من درس فيها على سبيل المثال بالأناشيد الحماسية التي كانوا ينشدونها، والتي فيها دعوة للعنف والمواجهة المسلحة.
لاشك إن القاريء لهذه الرسالة، وماحوته من طوام مبكية ، لايملك إلا أن يسلم ببعد بصيرة المثقفين السعوديين الذين حذروا من هذه المراكز، بوصفها بؤرة من بؤر نشر الفكر المتطرف، ومركزاً من مراكز تجنيد الشباب لصالح التنظيمات التكفيرية المشبوهة، والتي حولت هذه المراكز إلى معامل لغسيل مخ الشباب، وللقصة التي ذكرها الأمير خالد الفيصل في برنامج اضاءات، والذي يقدمه الأستاذ تركي الدخيل، دلالة في هذه الناحية، وملخص القصة، أن الأمير فوجيء بأن هناك معسكراً صيفياً قد أقيم في عسير دون أن يكون قد وافق على وجوده في المنطقة، وبعد أن أرسل الأمير مندوبين من طرفه للتقصي، فوجئوا بأن هؤلاء قد خرجوا من مكانهم وقضوا معسكرهم وسافروا لخارج المنطقة، بعد أن تسرب لهم خبر معرفة الأمير بالمركز، وقد فوجيء مندوبوا الأمارة بوجود أوراق تركها القائمون على المعسكر في المكان نتيجة للعجلة، كانت في مجملها تحتوي على رسومات لقنابل ورشاشات وخطط عسكرية ! مما يؤكد طبيعة الوعظ التحريضي الذي كان ينتهجه القائمون على هذا المعسكر.
من المحزن أن الوعاظ في غالبيتهم يتوزعون بين القسمين السابقين، ويندر جداً أن تجد في صفوف الوعاظ من ينتهج النهج الحضاري في وعظه، فيحث الناس على خلافة الأرض واعمارها ، و يبين لهم أن بناء الحضارة من كمال الدين.
حقيقة، نحن لسنا بحاجة للوعاظ المنتمين للقسمين السابقين، فما كانت نتيجة وجود الأول إلا تخدير الأمة وتخذيلها عن اللحاق في ركب الأمم المتقدمة، وبشكل يذكرنا تماماً بما كان في العصور الوسطى من فكر ظلامي، كان للإصلاح الديني مشاركة في هدمه، وبناء الحضارة الحديثة، كما طرح المفكر ماكس فيبر في كتابه (الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)، وأما الثاني فلم تكن نتيجته إلا ظهور الفكر المتطرف والمغالي، والذي شكى من وجوده العالم أجمع، ولم تسلم حتى بلادنا من شره، ومازالت تفجيرات الرياض حاضرة في أذهان الجميع.
إننا بحاجة لقلة من الوعاظ التنويريين، هم على قلتهم أفضل من كثيرين وجودهم كغثاء السيل، هؤلاء القلة، نريد منهم أن يسلكوا النهج الحضاري في وعظهم، ويركزوا في أذهان الناس: فضيلة بناء الحضارة الإنسانية، ورذيلة هدمها. واضعين نصب أعينهم قول الله تعالى: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) ، وماوجودهم على الله بعزيز.

[email protected]
كاتب سعودي