"إن المسلمين صناع حضارة وأهل خير وعمران" بهذه الجملة استهل السيد هاني نسيره مقالته في موقع "إيلاف" عدد الاثنين 12 يوليو 2004. والمقال جيدٌ من ناحية الموضوع الذي ناقشه، ورصين في إسلوبه، غير أن به نقاطاً تستحق التعقيب. وربما يكون السيد نسيره قد اعتمد في بعض أجزاء المقال على مصدر واحد من كتب السيرة أو التاريخ الإسلامي. والإشكال في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي أنها كُتبت بعد ما يقرب من مائتي عامٍ بعد بدء الإسلام وما عاد لكتابها وسيلة للتحقيق مما سمعوا، فاعتمدوا على الإسناد الذي اعتمد كلياً على الذاكرة. والمؤرخون الأوائل لم يكن همهم التدقيق فيما سمعوا بل كان هدفهم جمع أكبر قدر من القصص والحكايات، مهما بعد احتمال حدوثها ومهما كثرت فيها المبالغات التي قد تستخف بالعقل في بعض الأحيان. ومن هذه الحكايات ما كُتب عن النجاشي، ملك الحبشة. فالسيد نسيره يقول: " كما تذكر كتب السيرة فى النجاشى ما قال، وقد كان لا يزال على غير دين الإسلام ". بينما نجد أن الطبري والقرطبي وابن العربي وغيرهم يقولون أنه كان مسلماً، وأضافوا بعض ما يتعارض مع العقل، مثل قول القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن" حيث قال: " مات النجاشي عام 9 هجرية وقال العلماء: إن الأرض دُحيت للنبي (ص) جنوباً وشمالاً حتى رأى نعش النجاشي " وقال ابن العربي: " والذي عندي في صلاة النبي على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثرٌ، فعلم أنهم سيدفنونه من غير صلاة فبادر بالصلاة علية. " ويصعب على قارئ كتب السيرة والتاريخ الإسلامي التأكد من عقيدة النجاشي عندما مات، غير أننا نعرف من كتب الغربيين أنه عاش ومات مسيحياً. وعليه عندما يبدأ السيد نسيره مقالته بجملة مؤكدة مثل " إن المسلمين صناع حضارة وأهل خير وعمران" قد يدفع القارئ المطلع على التاريخ الإسلامي إلى الحذر والحيطة وهو يتابع بقية المقال. فالمسلمون جمعوا واستفادوا من حضارات البلاد التي فتحوها، ولم يكونوا صنّاع حضارة.
واستعان السيد نسيره بكتاب الأستاذ جورج جبور عن حلف الفضول، فقال: " قد اعتبر أحد الباحثين المسيحيين حلف الفضول أول منظمة لحقوق الإنسان في العالم." وهنا يتشتت فكر القارئ، فعنوان المقال يوحي بأنه عن الإسلام والمسلمين، وحلف الفضول كان حلفاً في الجاهلية. فهل يقصد الكاتب أن العرب جميعاً ذوو حضارة ويهتمون بحقوق الإنسان، أم يقصد المسلمين، الذين يكوّن العرب أقليةً فيهم؟ وحلف الفضول هذا كونته قبائل من قريش اجتمعت في دار عبد الله بن جدعان – لشرفه ونسبه- فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا في مكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى تُرد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف " حلف الفضول" ( ابن أسحق). والظلم الذي دافع عنه حلفاء الفضول كان ظلماً مادياً مثل أخذ الأموال وغيره، ولم يدافع المحالفون عن ظلم العبيد والإماء ولا عن ظلم المرأة العربية. و عليه يصعب تصديق الإدعاء بأن حلف الفضول كان أول منظمة لحقوق الإنسان في العالم. فحقوق الإنسان بدأت في مدرسة الإغريق التي أنشأها " زينو" Zeno of Citium (263-335 ق.م) في جزيرة قبرص، ونادت بفكرة القانون الطبيعي، ثم أخذ عنها القانون الروماني في زمن المشرّع " أولبيان" Ulpian الذي قال إن القانون الطبيعي هو القانون الذي منحته الطبيعة وليس قانون الدولة، والذي يضمن لكل البشر سواء أكانوا مواطنين رومانيين أم لا، حقهم في الحياة. ويقول السيد نسيره: " كما أن أول مادة فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان صاغتها مسلمة إندونيسية من مقولة عمر- رضى الله عنه- منى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ً" وربما يستطيع السيد نسيره إثبات أن أول مادة في الإعلان العام لحقوق الإنسان قد صاغتها سيدة إندونيسية، غير أنه من المعلوم أن إندونيسيا كانت مستعمرة برتقالية حتى عام 1949 عندما نالت استقلالها، ولم تنضم إلى الأمم المتحدة إلا في عام 1950، وحقوق الإنسان تم إعلانها في عام 1948، والمعروف أن السيدة " إليناور روزوفلت" قرينة الرئيس الأمريكي هي التي تصدرت نقاشات حقوق الإنسان في اجتماعات اللجنة المختصة، وكانت السيدة روزوفلت مهتمة بحقوق الإنسان حتى قبل أن تقترن بزوجها الذي أصبح رئيساً للولايات المتحدة لاحقاً. ولكن ليس المهم أن تكون صاغت المادة الأولى السيدة الإندونيسية أو السيدة روزوفلت، وإنما المهم هو: هل عملت الدولة المسلمة، إندونيسيا، بهذه المادة من القانون؟ والمتتبع لما فعلته إندونيسيا في تيمور الشرقية يعرف أن إندونيسيا، مثلها مثل بقية الدول المسلمة، والمسلمين عامة، تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخراً معاكساً تماماً. وأفضل مثال على ما نقول هو ما أورده السيد نسيره من مقولة الخليفة عمر " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ " ورغم هذه المقولة فقد كان الخليفة عمر يطوف شوارع المدينة بحثاً عن الإماء لابسات الحجاب، وكان يضربهن بدرته الشهيرة حتى يسقط عنهن الحجاب، ويقول " فيم تتشبه الإماء بالحرائر ؟ " لأن الحجاب أصلاً فُرض على الحرائر حتى لا يتطاول عليهن الصعاليك، كما تقول كتب السيرة. والخليفة عمر نفسه كان له عدد من العبيد لم يعتقهم حتى مات، منهم مهجع وزيد بن أسلم وأبو صالح وعمرو بن رافع. فلمَاذا استعبدهم عمر وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
وأنا أوافق السيد نسيره في ما ذهب إليه من محاولة ترشيد المقاومة ومواجهة الأعمال الانتحارية في مجتمعاتنا لأنها ضد كل القيم الإنسانية التي يؤمن بها البوذي والنصراني واليهودي والمسلم واللاديني. ولكن السيد نسيره يقول: " لذا نرى أن الجهاد المدني داخل المجتمعات المسلمة من أجل إعادة بنائها على أسس الحكم الرشيد والأخلاق الإسلامية الفردية والحضارية السامية أمر له أهميته وضرورته القصوى الآن " ولكن المشكلة هنا أننا سوف نجد صعوبة بالغة في إيجاد مثال نحتذي به للحكم الرشيد والأخلاق الإسلامية السامية، إذ أن الحكم لم يكن رشيداً في يوم من الأيام منذ قيام أول دولة إسلامية ( دولة بني أمية)، والأخلاق الإسلامية لم تسمو أكثر من أخلاق الشعوب الأخرى، فقد اعتاد المسلمون على القتل والذبح منذ بداية الإسلام، فكان هناك القتل والاغتيالات في العصر النبوي، فقد قتل زيد بن ثابتة " أم قرفة " عندما لقي قبيلة بني فزارة بوادي القرى، وكان اسمها فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وكانت امرأةً مسنة ولم تحارب. والطريقة التي قتلها بها زيد كانت من أفظع وسائل القتل، فقد ربط رجليها إلى بعيرين وضرب البعيرين فشقا أم قرفة (تاريخ الطبري، ج2، ص 126). وقتل المسلمون خلسةً أبا رافع سلام بن الحقيق اليهودي وكعب بن الإشرف، وخالد بن سنان الهذلي، وأبا عفك والشاعرة أسماء بنت مروان. وفي العصر الراشدي، وخاصة في حروب الردة، فقد فعل خالد بن الوليد مع قبيلة خزيمة ما لم يفله أحد قبله، وقتل وحرق مالك بن نويرة من أجل امرأته وطارد أهل الشام وقتلهم بعد أن عقدوا الصلح وأعطاهم الأمان بالخروج من دمشق. ولما اشتكى بعض الصحابة للخليفة أبو بكر الصديق وطالبوا بعزل خالد، قال لهم أبو بكر: " ما كنت غامداً سيفاً سله الله ". ولما قتل عبد الرحمن بن ملجم الخليفة علي، انتقم ابنه من القاتل بأن قطع يديه ثم رجليه ثم أحمى مرواداً في النار وسمل به عينيه ثم حرق جثته. فأين هي الأخلاق الإسلامية السامية؟ وما مقتل الخليفة عثمان بأيدي صحابة الرسول (ص) ببعيد عن الأذهان. والأمثلة كثيرة للضحايا الذين ذُبحوا وطيف برؤوسهم في المدن ، كلها أمثلة لا داعي للخوض فيها. فقول السيد نسيرة عن الأخلاق الإسلامية والحضارية السامية ينم عن الاستعلاء على الغير بدون وجه حق.
وقد اندهشت عندما قرأت قول السيد نسيره: " وقد بذل علماؤنا الجهد المشكور في تعرية هذا الزيف الفعلي أو الخطابي لدى التفجيريين أو مستثمري هذا الزبف، فأن تتم مثل هذه الشنائع والأخطاء باسم الإسلام أوتحت شعار حماية بيضته وحرمه أو الدفاع عن قضاياه رغم أنها لا يربطها بشرع ولا عقل سبب ؛لأن منطقها مخالف لأصول الشرع في تحريم قتل النفس." وليت السيد نسيره أعطانا أمثلة للعلماء الذين حرّموا التفجيرات، لأني لم أقرأ لأحد بتحريمها إلا مؤخراً ومن العلماء السعوديين فقط، أما بقية العلماء من أمثال القرضاوي وشيوخ الإفتاء على القنوات الفضائية الأخرى فقد وجدوا لها المبررات ودافعوا عنها، ومجدوا الجهاد والمجاهدين، وبشروهم بالجنة.
والإسلام لا شك يحرّم قتل النفس المؤمنة بدون وجه حق، لكنه لا يحرّم قتل المشركين والكافرين: " وأقتلوهم حيث ثقفتموهم " (البقرة 191) و " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" (محمد 4). وقد اتخذ علماؤنا هذه الآيات ذريعة لتأييد تفجيرات " بالي" بإندونيسيا، وتفجير السفارات الأمريكية في شرق إفريقيا، إذ أن المقتول هنا ليس مؤمناً. ويبدو أن السيد نسيره يحب أن يكون جازماً وقاطعاً حينما يتحدث عن الإسلام، فهو يقول: " ولكن قانون الحرب والمقاومة في الإسلام له مرونته العملية التي تراعي الإمكانيات والنتائج، كما تلتزم آدابه وأخلاقياته دائما." وأنا شخصياً لا علم لي بآداب الحرب الإسلامية وأخلاقياتها التي ذكرها الكاتب، فالحرب في تلك الأيام لم يكن لها أخلاقيات، ولم يخترع الإسلام أخلاقيات للحرب، عدا نصيحة الرسول لأصحابه بألا يقتلوا النساء والأطفال إلا إذا كانوا محاربين. ولكن حتى هذه النصيحة لم يلتزم بها المحاربون الإسلاميون. ففي غزوة بني غريزة عندما أحضروا الذكور للخنادق لقطع رؤوسهم، كشفوا عن عورات الأطفال الذكور ليروا من منهم قد بدأ شعر عانته ينمو، ليقتلوه مع الرجال، فقتلوا أطفالاً لم يحاربوا، وكل ذنبهم أنهم كانوا يهوداً وقد بدأ شعر عاناتهم بالنمو. وإن كانت هناك أي آداب للحروب، فهذه الآداب تمنع قتل الأسير، ولكن القرآن يقول: " وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" (الأنفال 67)
ولا شك كل مسلم يحب أن يمدح الإسلام ويُعلي من شأنه، ولكن يجب إلا نكون كشعراء الجاهلية نفتخر بأشياء نتخيل أو نحب أن تكون فينا، مثلما قال شاعر القبيلة:
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابرة ساجدينا
ولا يخفي على أحد أن هذا القول افتخار لا يمت إلى أرض الواقع بشئ. وانتابني نفس الشعور عندما قرأت قول السيد نسيره عن آداب الحرب في الإسلام: " حيث النهي عن قتل المدنيين وغير المقاتلين حتى قلع الشجر والزرع، ولعل أخلاق وآداب الحرب في الإسلام كانت حامل دعوته ودافع اعتناقه لدى شعوب البلاد المفتوحة حربا، لأنها التي فرقتهم عن أي غزاة يستحقون المقاومة أبدا " والكل يعرف أن المسلمين عندما حاصروا بني قينقاع وطال الحصار، أمرهم النبي (ص) بحرق نخيل اليهود. ولما حرقوا جزءاً منه وتنبه المسلمون إلى أن هذا النخيل سوف يكون ملكهم، منعوا الآخرين عن الاستمرار في الحرق واحتكموا للنبي، فنزلت الآية: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله " ( الحشر، 5). وسياسة " الأرض المحروقة " قد مارسها العثمانيون في عدة بلاد أجتاحوحا، ومارسها التتار المسلمون في غزواتهم في العراق وسوريا، ومارستها حكومة إندونيسيا المسلمة في تيمور الشرقية، ومارستها حكومة حسن الترابي المسلمة في حربه الجهادية ضد جنوب السودان. أما البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، فقد استباحوها ثلاثة أيام أو أكثر. ويكفي أن نقرأ ما فعلت جيوش الحجاج بن يوسف في السند، وما فعلت جيوش موسى بن نصير في شمال أفريقيا ورجوعه بثلاثمائة ألف عذراء. وكما قال المرحوم الدكتور على الوردي: " لا أخال أن جيوش المسلمين طرقوا على الأبواب وقالوا لساكني البيوت: أعطونا عذراء لوجه الله. لا بد أنهم قتلوا الرجال قبل أن يسبوا العذارى". ويقول الكاتب إن جارودي تنبه للإسلام عندما رأى جندياً جزائرياً مسلماً يعصي أمر قائده ويحافظ على حياة أحد الجنود الفرنسيين. فإن صحت هذه الرواية فأنها تؤكد عكس ما ذهب إليه الكاتب، إذ أن هذا الجندي كان من الشواذ، وهذا ما جعل جارودي يلاحظه، وإلا لو كان هذا هو سلوك الجنود المسلمين المعتاد، لما لاحظ جارودي هذا الجندي الفريد. ويكفي أن نتذكر ما فعلت الحركة الإسلامية في الجزائر مؤخراً. وهذه الحركة تمثل غالبية سكان الجزائر حسب نتائج آخر انتخابات حرة في الجزائر، قبل أن ينقض الجيش على السلطة لمنع الجبهة الإسلامية من تولي زمام الحكم.
ويناقش السيد نسيرة قصة المقاومة والتفجيرات من ثلاثة محاور: فيقول:
أولها: " ومن أهم ملامح الخطاب التفجيري اعتماده على الشبهة، لا على الأدلة اليقينية، رغم خطورة هذه المسألة، فضلا عن تجاهل النتائج والاتكاء فقط على مبرراته الرد فعلية." ورغم أن الحصول على الأدلة مهم قبل اتخاذ القرارات، يجب ألا ننسى أن القرآن أباح للرسول (ص) الهجوم على قومٍ إذا خاف منهم خيانة: " وإما تخافن من قومٍ خيانة فانبذ إليهم على سواءٍ إن الله لا يحب الخائنين " ( الأنفال 58). فخوف الخيانة هنا يكفي لبدء الهجوم، ولم يقل الله سبحانه وتعالى للرسول (ص): أجمع الأدلة أولاً. فقياساً بهذه الآية يجوز للمجاهدين الهجوم على العدو إن خافوا منهم خيانة، وليس بالضرورة أن ينتظروا حتى تظهر الخيانة.
ثانياً: ازدواجية المعايير في الموقف الفقهي. وضرب الكاتب هنا مثالاً بموقف الشيخ القرضاوي الذي حلل التفجيرات الاستشهادية في إسرائيل لأن الفلسطينيين يدافعون عن أرضهم المحتلة وليس في نيتهم قتل الأطفال الأبرياء، ولكن موت الأطفال يأتي تبعاً. وعندما سُئل عن تفجيرات نيويورك تحدث الشيخ عن فقه الموازنات الذي يوازن بين المصالح والمفاسد.
وليس لدينا اختلاف مع الكاتب هنا، فقد أصاب عين الحقيقة عندما تحدث عن ازدواجية المعايير عند الفقهاء الإسلاميين، فإن أغلبهم يعاني من هذه الإزدواجية التي عانى منها من سبقوهم من العلماء في الدولتين الأموية والعباسية، وكذلك في الخلافة العثمانية. ولكن الكاتب يدخلنا في متاهات يصعب الخروج منها عندما يقول: " كما نؤكد على ضرورة المقاومة المسلحة في فلسطين والعراق ماظل الاحتلال جاثما فوق الحقوق المغتصبة ولا تنجز معه شرعة دولية أو قرارات مجلس الأمن، ولكن مع التزام الآداب الإسلامية في القتال، فلا يقتل إلا المقاتل والمعين على الاحتلال، ولا يقتل المدني وغير المقاتل قتلا عدميا فوضويا فقد أمرنا الإسلام بالتمييز بينهم دائما." فلو أخذنا إسرائيل أولاً، فإن جميع المستوطنين في الضفة الغربية وفي غزة مدنيين ولكنهم يحملون السلاح لحماية أنفسهم. فهل هم مقاتلون أم لا؟ وإن اعتبرنا الرجال منهم مقاتلين، كيف نقاتلهم داخل مستوطناتهم دون أن نصيب النساء والأطفال؟ وهل نعتبرهم معينين على الاحتلال أم لا؟ فلولا وجود هذه المستوطنات لانسحب الجيش الإسرائيلي من الضفة وغزة. فإذاً هؤلاء المستوطنون يعينون الاحتلال، وفي هذه الحالة يجوز قتلهم حتى وإن لم يكونوا مسلحين، وحتى إن كانوا أطفالاً ونساءً، لأنهم يعينون الاحتلال. وأمريكا هي أكبر معين للاحتلال، ولذا يجوز قتالهم وبأي وسيلة ممكنة لأن الفلسطينيين ليس في مقدورهم مجابهة أمريكا عسكرياً. وتطول قائمة الذين يُباح لنا أن نقاتلهم ويصعب التفريق بينهم وبين من لا يجوز قتلهم.
ويبدو أن السيد نسيره مصر على الإتيان بالشواذ وجعلها قاعدة عامة للمسلمين، فهو يقول: " وقد أمرنا باحترام معتقداتهم ومعابدهم، يذكر الشيخ أبوزهرة في كتابه المعروف " العلاقات الدولية في الإسلام "أن عمر رضي الله عنه أثناء سفره لاستلام مفاتيح بيت المقدس شاهد هيكلا يهوديا قد علاه التراب فأخذ يزيله عنه فتعجب الصحابة، فقال لهم هكذا أمرنا باحترام أديان الآخرين ." فالخليفة عمر لا يعطي مثالاً صادقاً للمسلمين لأنه كان فريداً في نوعه ولم ينجب العالم الإسلامي مثله طوال هذه القرون. والدليل على ذلك أن كل من كتب عن عدالة الإسلام يستشهد بعمر أو بحفيده عمر بن عبد العزيز، ولا أحد سواهما. ولو أمرنا الإسلام باحترام هياكل الأديان الأخرى ومقدساتهم، لماذا طلب الرسول (ص) خرقة مبللة بالماء ومحا بنفسه صورة مريم العذراء وعيسى وصور بقية الأنبياء من جدران الكعبة عندما فتح مكة؟ وإذا كان عمر قد حاول إزالة التراب عن الهيكل اليهودي بالقدس، فماذا حدث لهيكل سليمان الذي يقف فوقه المسجد الأقصى؟ وماذا حدث لجميع الهياكل اليهودية من حوله؟ والتاريخ الإسلامي ملئ بالكنائس التي حولها المسلمون الغازون إلى مساجد، ابتداءً بكنيسة آيا صوفيا ومروراً بكنائس الأندلس.
وثالثاً تحدث السيد نسيره عن مقولات الخطاب التفجيري، فقال: " قال النبى –ص- فى صفة الخوارج" يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" (رواه البخارى) "وقد قال الإمام البخارى: كان ابن عمر – رضى الله عنهما- يرى فى الخوارج شرار خلق الله قال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. وهذا سوء الفهم بعينه. فموضوع الاستعانة بالكفار خاضع لمنطق الضرورة، ولم يقيده النبى –ص- فى سيرته حين استعان بالكفار على حرب الكفار والمشركين، سواء حين استعان بـ"قرمان" يوم أحد، واشتراط كونهم أفراداً وليس جماعات تقييد لا محل لإثبات أصالته." ويخيل إليّ أن الحديث المذكور حديثٌ موضوع، إذ أن الخوارج ظهروا بعد خروجهم على الخليفة على بن أبي طالب يوم قبل بالتحكيم مع معاوية، ولم يكن الرسول موجوداً وقتها ليقول هذا الحديث. أما ابن عمر فيجوز أنه كان يرى في الخوارج شرار خلق الله. أما استعانة النبي بالكفار في قتال الكفار فمشكوك فيها. فقد روى البخاري وغيره أن النبي عندما كان في طريقة إلى المريسيع لغزو بني المصطلق لحق به جماعة من بني قينقاع وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول وطلبوا أن يساعدوا الرسول في غزوته، فقال لهم: ارجعوا، فإني لا استعين بمشرك على حرب مشرك. والنبي لم يستعن بقزمان وكان دائماً يقول: " إن قزمان من أهل النار " ولما كان يوم أُحُد قاتل قزمان قتالاً شديداً فأثبتته الجراحات، فحُمل إلى دار بني ظفر، فقال له رجال من المسلمين: أبشر يا قزمان فقد أبليت اليوم وقد أصابك ما ترى في الله. فقال لهم: بماذا أبشر، فوالله ما قاتلت إلا حميةً عن قومي. فلما اشتدت به جراحاته أخذ سهماً من كنانته فقطع به رواهش يده فقتل نفسه. (السيرة النبوية لابن هشام).
وأحياناً يقول السيد نسيره أقوالاً لم تذكرها كتب السيرة، فهو، مثلاً، يقول: " وقد سبق أن وقفت قبيلة خزاعة مع النبى –ص- ضد المشركين حين فتح مكة." وفي الحقيقة أن خزاعة لم تقف مع النبي حين فتح مكة وإنما استنجدت خزاعة بالنبي عندما هاجمتهم قبيلة بكر بمساعدة قريش، فاتخذ الرسول مساعدة قريش لبكر دليلاً على تخلي قريش عن صلح الحديبية، ولذلك قرر الهجوم على مكة، رغم أن صلح الحديبية كان قد وضع الحرب بينهم عشر سنوات.( الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) فكل ما أتى به السيد نسيره لا يبرر الاستعانة بالكفار حسب التعاليم الإسلامية. وقد يكون الشيخ بن باز قد أفتى بجواز الاستعانة بهم، غير أن غالبية فقهاء الإسلام يحرّمون ذلك.
وعلى العلماء المسلمين المعاصرين الخروج من القوقعة ودراسة التاريخ الإسلامي دراسة محايدة لتحديد الأخطاء التي ارتكبها المسلمون الأوائل، والاعتراف بهذه الأخطاء لتنقية الجو العام للإسلام وجعله ديناً حضارياً، بدل محاولة الافتخار بأشياء متخيلة ولم تحدث بتاتاً حتى وإن كان قد أوصى بها الرسول (ص) أو القرآن. وحتى يحدث ذلك سوف تظل صورة الإسلام في الذهن الغربي مصبوغة بدم الضحايا الأبرياء، سواء بعمليات التفجير أو بالسيوف.