المقدمة
لن يفهم أو بما هو أدق يتفهم القارئ هذا الكتاب إذا لم يعرف ملابسات كتابته ونشره. كتابته: في الأصل كان فصولاً من كتاب مرصود لنقد مناهج التعليم الديني في السعودية وخمسة بلدان عربية أخرى .. مقارنةً لها بالمناهج التونسية الحديثة. لكن الفصول التي نُشرت في "إيلاف" اكتست صيغة وسيطة بين البحث الأكاديمي والمقال الصحفي. مثلاً، لم أضع إلا المراجع الضرورية جداً وفي صلب المقال لأن التقليد الصحفي يأبى كتابة المراجع في آخر المقال، على أمل أن أثبت جميع المراجع عند نشر الفصول في الكتاب مع بعض التنقيحات الضرورية. لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه ... ففي أكتوبر 2003 داهمني مرض ُشخّص في البداية على أنه "إلتهاب الوتر" TENDINITE عطّل أصابعي عن الكتابة. أنا الذي، كنت أكتب بمعدل سبعة آلاف كلمة في الأسبوع أصبحت عاجزاً عن التوقيع على شيك، لكن بعد حوالي ستة شهور اتضح أن إلتهاب الوتر تحول إلى "الجو دي ستروفي" ALGODYSTROPHIE مستعص على العلاج أي عجز الجسد عن غلق الشرايين والأوردة والأوعية اللميفاوية في اليد اليمنى. ومن يدي اليمني بدأ ينتقل إلى يدي اليسرى. وفي سباق محموم مع احتمال شلل أصابعي اليسرى هي الأخرى مما يجعل يدي كلتيهما غير قابلتين للإستخدام قررت نشر هذه الفصول على علاتها ككتاب. إذن لن يندهش القارئ إذا التقى بأفكار مكررة من فصل إلى آخر _ تكراراً بيداغوجياً والحق يقال _ لأنني كنت أهدف إلى ترسيخ هذه الأفكار والمفاهيم الجديدة كلياً عن الوعي الإسلامي التقليدي المنغلق على نفسه تعريفاً. وكان في نيتي أن أقلل من هذا التكرار في حالة صدور الكتاب حسب مخططه الأول. فمعذرة إذا وجد القارئ النابه شيئاً من الضجر في هذا التكرار لكني أنبهه إلى أن التكرار ملازم لكل كاتب كما يقول جان فرنسوا دورتييه JEN FRANCOIS DORTIER في مقال له عن بيير يوردييه :"مثل جميع الأعمال الكبرى فإن أعمال بيير بوردييه تمحورت حول حدس واحد. حدس وحيد. فكرة مركزية واحدة، طورها، كررها، أعاد صياغتها، وعاد إليها في خمسة وعشرين كتاباً، حدس واحد سيربطه ببعض المفاهيم الكبرى". ( عدد خاص 2002، مجلة العلوم الاجتماعية) بالفرنسية.

فعلاً، بالإمكان اختزال فلسفة أي فيلسوف أو أبحاث أي سسيولوجي إلى فكرة أو فكرتين محوريتين أقام عليها كل عمارته الفلسفية أو السسيولوجية. المغزى، لا ضرر من التكرار ولا ضرار. المهم هو استيعاب هذه الأفكار المكررة وغير المكررة استيعاباً نقدياً.

سأكون سعيداً إذا فهم صناع القرار التربوي والقارئ مفاهيم مكررة مثل: رد الاعتبار للمرأة وغير المسلم والعقل وغرائز الحياة، والقراءة التأويلية والتاريخية للنص، والنرجسية الدينية، وعبادة الأسلاف.

هدفي من مشروع كتاب نقد المناهج التعليمية المذكورة الذي لم يكتمل، وقد لا يكتمل إذا تدهورت حالة يدي أكثر، هو تحقيق المرامي التالية: قام التعليم الديني حتى الآن على عبادة الأسلاف التي أعاقت، وما تزال، الوعي الإسلامي عن الانفتاح على الحداثة بما هي قطيعة مع عبادة الأسلاف، فبات وعياً مشدوداً إلى الماضي، إلى الخلافة الراشدة، التي كانت تاريخياً حرباً أهلية من أول يوم إلى آخر يوم فيها، لكن التعليم السائد يقدمها كعصر ذهبي لم تخالطه شوائب ولا انحرافات التاريخ التي لوثت فيما بعد تاريخ الإسلام الذي ُصنع تحت قيادة الخلفاء غير الراشدين. نبتت أسطورة الخلافة الراشدة كعصر ذهبي في أرضية التاريخ المؤمثل IDIALISEE الذي ارتفع بالخلفاء الراشدين إلى مرتبة المثال الذي لم يوجد في الواقع قط، حتى وصفُ الراشدين أضافه السنّة إليهم متأخراً كرد على الفرق، خاصة الشيعة والخوارج التي تكفر بعضهم. تفكيك أسطورة العصر الذهبي، الشائعة في كثير من الثقافات، ضروري لكي يتوقف الوعي الإسلامي عن الالتفات إلى الوراء بدل عيش الحاضر وتحضير المستقبل. تفكيك هذه الأسطورة ينبغي أن يتم على الأرضية التي نبت فيها، أي أن المطلوب من التعليم الديني المنشود أن يقدم الخلافة الراشدة كما تحققت في التاريخ فعلاً .مثلاً التعليم الديني السائد يعلم الناشئة، فيما يعلمها من أساطير، أن عمر بن الخطاب كان له ثوب واحد يرقعه بنفسه كلما تمزق، وأن عمر كان ينهي عن المغالاة في المهور، والحال أن التاريخ الحقيقي يقول أن عمر ابن الخطاب دفع في أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب أربعين ألف دينار ذهباً مهراً [ خليل عبد الكريم: شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة،جـ2 ، صـ137، دار سنا للنشر ـ القاهرة]. تفكيك أسطورة العصر الراشد الذهبي ضروري للقطع مع عبادة الأسلاف التي شلت الوعي الإسلامي حتى الآن عن التفكير التاريخي في تاريخه وفهم نص أسلافه بعقول الأحياء، أي بمصالحهم وحاجاتهم ومتطلبات وعلوم عصرهم.

قام التعليم الديني حتى الآن على إخفاء الصفحات السوداء في تاريخ الإسلام و_ في المناهج الأكثر صفاقة كالسعودية والأزهرية_ قدمها كنموذج يحتذى اليوم أيضاً. وعلى التعليم الديني المنشود أن يميط اللثام عن هذه الصفحات مقدماً الجلادين بما هم، لا كـ"حماة الإسلام". صلاح الدين "قاهر الصليبيين" هو عينه الذي أمر بقتل المتصوف والفيلسوف الإشراقي السهروردي سلخاً حتى الموت ... وقتل السهروردي غيض من فيض. توعية الناشئة بهذه الصفحات السوداء ليست وظيفته رد الاعتبار لضحاياها الأبرياء _ كما فعل الفاتيكان مؤخراً عندما نشر "الملف الأسود لمحاكم التفتيش 783 صفحة _ بل أيضاً وخصوصاً لتحصين المسلمين الصغار ضد إضافة صفحات أخرى إليها أكثر سواداً: الإمام الخميني أمر بإعدام عشرات آلاف المعارضين دون محاكمة قائلاً للصحفية الإيطالية فلنشي: "هم مذنبون ولا داعي لإضاعة الوقت في محاكمتهم". الشيخ عبد السلام ياسين رئيس أكبر جماعة سياسية - دينية في المغرب (العدل والإحسان) يهدد ديمقراطيي المغرب بـ"التجويع والتعطيش" ثم القتل ويتهم الأحزاب المغربية الحديثة بأنها "رائدة الفسوق والعصيان والكذب على الله وعلى الناس" (سعيد لكحل:الشيخ عبد السلام ياسين من القومة نحو الدولة ص 201، منشورات الأحداث المغربية 2003). راشد الغنوشي يدعو في برنامج دولته الإسلامية الموعودة إلى "منع الزواج من الفسقة والملحدين وأعداء الإسلام ... " (راشد الغنوشي :الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص 54 بيروت 1993).

قام التعليم الديني السائد حتى الآن بالتبشير بالدولة الإسلامية التي ستملأ أرض الإسلام عدلاً بعدما امتلأت جوراً. وعلى التعليم الديني المنشود أن يعلمهم أن هذه الدولة لن تكون إلا على صورة الدولة الإسلامية الإيرانية التي قالت عنها النائبة الإيرانية السابقة فاطمة حاجيغماتجو :" أهم درس تعلمته من سنواتي في البرلمان هو أن الدولة الإسلامية لا تستطيع أن تستجيب لطموحات الشعب الإيراني. ولكي تتقدم بلادنا فلا مفر من فصل الدين عن السياسة".(شفاف الشرق الأوسط www.metransparent.com الذي يرأس تحريره الكاتب اللبناني الصديق بيير عقل 15 / 6 / 2004).

قام التعليم الديني حتى الآن على استبطان النرجسية الدينية، نحن خير أمة أخرجت للناس وديننا هو الوحيد الصحيح ... جاعلاً المسلم الصغيركمن يعيش في بيت من المرايا لا يرى حيثُ نظر إلا نفسه أو كما يقول د. سيد القمني عن العقل الإسلامي: "إنه عقل لا يري سوى نفسه وسوى مفاهيمه داخل كهفه" (د.سيد القمني: الدين أداة يصوغه الناس وفق أغراضهم، حوار مع سامح سامي، شفاف الشرق الأوسط، 15/6/2004). المطلوب من التعليم الديني المنشود أن يقيم على أنقاض هذه النرجسية الدينية إسلاماً مسكونياً انطلاقاً من الآية الأممية التي تكررت ثلاث مرات : "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"[69 المائدة]، ليغدو إسلاماً مندمجاً في عصره وأيضاً في المجتمعات الغربية العلمانية التي تعيش فيها. هذه الآية أقرت بنسبية الحقيقة الدينية باعترافها بالأديان الأخرى المعروفة في عهدها على قدم المساواة مع الإسلام. هذه النرجسية جعلت ضحاياها مثل العُصابي الذي يبدي مقاومة ضارية لكي لا يواجه حقيقة ذاته مستخدماً جميع إسقاطات عقدة الاضطهاد ضد الحداثة الخارجية المنشأ للتشكيك في جدواها أو في نوايا المطالبين بها. الفجوة بين صورتنا عن أنفسنا كخير أمة أخرجت للناس وواقعنا في التاريخ كآخر أمة بين الناس يملؤه الهذيان الديني والسياسي الذي أجّج الإسلامفوبيا في العالم وجعلنا كل يوم نتقدم إلى الوراء أكثر.

قام التعليم الديني حتى الآن على ترسيخ الجمود الذهني في شعور ولا شعور الناشئة بتلقينهم رفض الحوار مع الآخر لأنهم دائماً على حق و"هُم" [= اليهود والنصارى] دائماً على ضلال: ديننا هو الدين الحق وأديانهم باطلة، نحن الأخيار وهم الأشرار، والحرب بيننا وبينهم سجال والجهاد فيهم ماض إلى قيام الساعة ... وعلى التعليم الديني المنشود أن يقطع بحسم مع هذا الهذيان النرجسي الديني بتعليم صغار المسلمين ضرورة وضع أنفسهم موضع الآخر لفهمه وتفهم حاجاته ومطالبه التي ليست بالضرورة باطلة، وهكذا يفتح الوعي الإسلامي التقليدي المنغلق على ذاته على الآخر لمساواة الذات بالآخر.

قام التعليم الديني السائد على تنمية غريزة الموت أي على الجهاد والاستشهاد. أما التعليم الديني المنشود فينبغي أن يكون تعليماً من أجل السلام والتعلق بغرائز الحياة بزرع قيم السلام في وعي الناشئ الإسلامي. سيقرأ القارئ في أحد فصول هذا الكتاب نصاً من التعليم الديني السعودي يبرر ذبح خالد القسري للفقيه المعتزلي الجعد بن درهم قائلاً في نهاية صلاة عيد الأضحى للمصلين: اذهبوا وضحوا ... أما أنا فسأتقرب إلى الله بالتضحية بالجعد بن درهم. وهذا ما نجد له صدى لدي الجماعات الإسلامية في المغرب. فهذا يوسف فكري أحد زعماء السلفية الجهادية المغربية يصرح: "بعد شهرين رجعنا إلى المدينة اليوسفية لكي نترك للسلطة رسالة عملية أنكم بسبب اعتقالكم لأولئك الأخوة فإننا سنلجأ إلى عمل من نوع خاص(..) فكان المدعو عمر الفراق أول عدو أتقرب به إلى الله عز وجل" (الأسبوعية الصحيفة 18/4/2003).

قام التعليم الديني السائد حتى الآن على أخذ الثأر من الغرب وإسرائيل ... وهكذا أجّج في الوعي الإسلامي المطالبة بأخذ الثأر بدلاً من المطالبة بأخذ الحق. ليس مصادفة أن حماس تستهل بياناتها عن عملياتها الانتحارية بـ:"لنشفي به صدور قوم مؤمنين" معترفة بأن غاية عملياتها ليست تحقيق مشروعها المستحيل: "تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب" بل أخذ ثأرها من اليهود لشفاء جرحها النرجسي من تأسيس دولتهم في فلسطين. المطلوب من التعليم الديني المنشود هو أن يعلّم أجيال المسلمين الطالعة المطالبة بأخذ الحق المشروع أي المعترَف به دولياً لا بأخذ الثأر العشائري البشع أخلاقياً والكارثي سياسياً.
قام التعليم الديني السائد على تلقين ضحاياه غريزة القطيع بالإلحاح على قدسية الإجماع، وعلى التعليم الديني المنشود أن يزرع في وعي الناشئة الغض الإعترافَ بالتعددية والاختلاف وحق الفرد في اختيار قيمه باستقلال عن مجموعته الدينية أو الاثنية .. وذلك يتطلب تطهير المناهج التعليمية من التباكي على التفسخ الأخلاقي والتخلي عن الدين الذي لا وظيفة له إلا تعبئة الناشئة ضد حرية التفكير والتعبير والسلوك.

قام التعليم الديني السائد حتى الآن على تلقين الناشئة ضرورة ممارسة الطقوس الدينية و"قتل تارك الصلاة كسلاً" كما توصي مناهج الثانويات الأزهرية، كما تعلمهم المطالبة بتطبيق العقوبات البدنية التي غدت متنافية مع روح العصر وحقوق الإنسان. وعلى التعليم الديني المنشود أن يعلمهم بدلاً من ذلك الإيمان، أي البحث الفردي على تمتين روابط الأخوة الإنسانية وعلى تهدئة القلق من الموت بالرغبة في الخلود في حياة ثانية.

قام التعليم الديني السائد على حث الناشئة على إعطاء حياتهم معنى بعد الموت يلبي رغبتهم النرجسية في الخلود، وعلى التعليم الديني المنشود أن يعلمهم أن إعطاء حياتهم معنى بعد الموت لا يتنافى مع إعطاء حياتهم معنى في الحياة، أي في حياة بهيجة وفاضلة. بهيجة: يستمتع فيها الإنسان بمباهج الحياة دونما شعور بالذنب ودونما عدوان على حق الآخرين في الاستمتاع بحياة بهيجة. فاضلة: تتطابق مع حياة فاضلة أي لا تنتهك حقوق الإنسان ولا تسكت عن انتهاكها .

قام التعليم الديني حتى الآن على أسطرة وعي الناشئة ، وعلى التعليم الديني المنشود أن يغرس في هذا الوعي المقاربة العلمية للظاهرة الدينية بما هي منتوج تاريخي ساهم في صنعها واستخدامها فاعلون اجتماعيون لهم دوافعهم الشعورية وخاصة اللاشعورية التي أسقطوها على الدين حتى يكاد يكون كل مذهب ديني مجرد إسقاط. سسيولوجيا الأديان تساعد بهذا الصدد الناشئة على اكتشاف ما هو ذاتي وما هو موضوعي في النص، وما هو واقع وما هو رغبة أي تأويل تخييلي للواقع. تفكيك النص تاريخياً لا يتنافى مع إعادة بنائه الرمزية. ترميز طقوس الإسلام هو ما ينقص الإسلام المعاصر الذي مازال إسلاماً حرفياً يعتمد النص وظاهر النص.

قام التعليم الديني السائد حتى الآن على تلقين الناشئة الحقيقة المطلقة التي هي الأرضية التي يترعرع عليها التعصب والإرهاب. وعلى التعليم الديني المنشود أن يعلمهم البحث عن الحقيقة بما هي دائماً جزء من حقيقة أكبر برسم الاكتشاف. طبعاً مكافحة الإرهاب لا تقتصر على إعادة هيكلة التعليم الديني بل تتطلب فضلاً عن ذلك مقاربة شاملة تشمل مكافحة الانفجار السكاني وعواقبه، من فقر وتهميش وبطالة، كما تتطلب حل النزاع العربي الإسرائيلي بالتوازي مع الانخراط في ثورة إصلاحية دائمة وهادئة تنقل المجتمعات العربية من التأخر إلى التنمية الشاملة كما تتطلب فيما يخص الخطاب الديني تفكيك رمزية الاستشهاد في الإسلام الذي خصصتُ له فصلاً كاملاً في هذا الكتاب.

قام التعليم الديني حتى الآن على تنمية الوعي الطائفي في الناشئة. وعلى التعليم الديني المنشود أن ينمي فيهم، على أنقاض هذا الوعي الطائفي الحامل للحروب الدينية، وعي المواطنة الحديثة التي تفصل بحسم بين المؤمن والمواطن. عسى أن ترتفع المجتمعات العربية الإسلامية إلى مستوى الأمة البولندية التي تقول في ديباجة دستورها الجديد: "نحن، الأمة البولندية، جميعاً مواطنو الجمهورية، الذين يؤمنون بالله مصدر الحقيقة والعدل والطيبة والجمال، والذين لا يشاطرون هذا الإيمان ويحترمون القيم الكونية الآتية من مصادر أخرى، متساوون في الحقوق والواجبات إزاء المصلحة العامة ...".

متى نرى تعليمنا الديني يقدم الله كـ"مصدر للحقيقة والعدل والطيبة والجمال" لا كمصدر للجهاد والاستشهاد والنحر والانتحار وقطع يد السارق ورجم الزاني والزانية وقطع أعناق المفكرين الأحرار باسم الردة؟ ومتى نرى تعليمنا يضفي الشرعية على القيم الكونية، العقلية والإنسانية، الآتية من مصادر أخرى غير الدين؟ متى؟

الحلقة المركزية في إدخال العالم العربي إلى الحداثة هي تنمية وتحديث وعي الطبقة الوسطي التي مازالت ضعيفة وتقليدية بسبب ضعف وتقليدية الاقتصاد والتعليم. الاستثمار في البنية التحتية والتجديد التكنولوجي وإعادة هيكلة مناهج التعليم والتعليم الديني وتشجيع الهيئات الحاملة لقيم الحداثة مثل جمعيات حقوق الإنسان وتشجيع الإعلام الحديث والمستقل وتجديد الخطاب الديني في المساجد بتنقيته من التحريض على عداء المرأة وغير المسلم والعقل والحداثة، كفيلة جميعاً بتدارك ضعف الطبقة الوسطي كمياً ونوعياً.

مأزق جُلّ النخب العربية السائدة أنها خاضعة لضغوط متناقضة: العالم يطالبها بأن تعيش اقتصادياً وسياسياً وقيمياً في القرن الحادي والعشرين أي بالتقدم إلى الحداثة لأن قَدامة مجتمعاتها باتت، خاصة بعد فاجعة 11 سبتمبر 2001، تشكل خطراً على الحداثة العالمية، والإسلام السياسي والقطاع الأكثر انغلاقاً في الإسلام التقليدي يطالبانها بالنكوص إلى القرن السابع. كان لهذه النخب قبل 11 سبتمبر هامش مناورة يسمح لها بتقديم تنازلات للعالم في سياستها الخارجية وتنازلات للإسلامَين، السياسي والتقليدي، في السياسة الداخلية. أما اليوم فإن كلاً من العالم والإسلامَين لم يعودا يقبلان منها هذه اللعبة المزدوجة.

لقد دقت ساعة الحسم في اتجاه واحد: معاصرة العصر انطلاقاً من تحديث التعليم والتعليم الديني. هذا الأخير يشكل المفتاح القادر على فتح الوعي الإسلامي على القرن الحادي والعشرين بمؤسساته وعلومه وقيمه خلال جيل (25 عاماً) أو جيلين على الأكثر.


اعتراف بالجميل
ما كان لهذا الكتاب أن ُيكتب ويُنشر ويرى النور لولا أشخاص أربعة: محمد عبد المطلب الهوني أمين مال المؤسسة العربية للتحديث الفكري الذي موّله، وعثمان العمير، وعبد القادر الجنابي اللذين نشراه في "إيلاف" دونما رقابة، وأشرف عبد الفتاح عبد القادر الذي طبعه لإيلاف وأرسله لها بالبريد الإلكتروني ، وأخيراً ساعدني على إخراجه في شكله الذي هو الآن بين أيديكم . فإلى هؤلاء الأخوة جميعاً امتناني واعترافي بالجميل وامتنان واعتراف أحبائي وقرائي أيضاً في العالم العربي والعالم. وإليهم جميعاً أهدي هذا الكتاب.