هل يصنع الشعب طاغيته؟ بمعنى هل يوفر الشعب من الشروط النفسية والاجتماعية مناخا ملائما لنمو وازدهار ظاهرة الطغيان؟ التي يتمثل أعلى تصعيد لها في شخصية الحاكم المتسلط، إضافة بالطبع إلى ما توفره ظروف البلد من شروط سياسية وتاريخية تفعل من هيمنة هذه الشخصية وتسلطها على رقاب الشعب الذي يحكمه. إن تساؤلنا هذا يقصي عن منطقة إجابته مجموعة من وجهات النظر التي ترى أن الطاغية هو شخصية تبنت البطش والقمع والاضطهاد وإراقة الدماء كمبادئ سلوكية تستولي من خلالها على الحكم وتثبته بواسطتها، أو تلك التي تنظر إليه بوصفه نتاجا طبيعيا لنوع من الحكومات الفاسدة التي تعتمد الاستبداد أصلا دستوريا لها، كما نظر إليها كلا من أفلاطون وار سطو، أو من الآراء الحديثة التي تعتبره إفرازا ثقافيا سلبيا لما سمي بخطاب التفحيل الذي نهض الشعر بصياغته وتصديره خارج مجاله الأدبي وتغذية الأنساق الثقافية الأخرى بصورته البلاغية (والحديث هنا عن دور الشعر العربي ولاسيما غرضي المديح والفخر في صناعة الفحل الشعري والمقصود به الممدوح أو المفتخر به الذي تسربت صورته المفخمة إلى المجال السياسي ليكون الطاغية مثيله المتفرد بله النموذج الأعلى المستحوذ على جميع الفضائل )..
إن المنظور الذي نود أن نتأمل من خلاله هذه الشخصية ينطلق من علاقة الشعب بالطاغية، وكيف تتحول من علاقة رفض ومقاومة إلى علامة تكيف وخضوع، ولا أقول إنها علامة قبول، والسياق هنا عن العلاقة بمجملها العام مع الأخذ بنظر الاعتبار تلك الجزئيات الضئيلة التي تمثل شرخا لهذه العلاقة متجسدة بأنواع من المقاومة المتواضعة بين فترة وأخرى، لكنها لم تصل إلى الحد الذي يؤثر فيه على الصورة العامة لعلاقة التكيف تلك، مما دفعنا إلى التساؤل في البدء، وقد تساءل قبلنا في القرن السادس عشر كاتب يدعى " لابويتي " قائلا : " أريد فقط أن افهم كيف يمكن لكل هذه الجماعات من الأمم أن تتحمل أحيانا طاغية ليس له من قوة إلا القوة التي تعطى له، وليس له من سلطة في إلحاق الضرر بهم إلا بقدر ما يريد الناس أنفسهم ضمان استمراريتها "، فهل بلغ الناس حدا من المازوخية يدفعهم ليس إلى تقبل القمع والاضطهاد بل الحرص على ديمومته لنمط معاشي لهم؟!، وهذا كان حال المجتمع الغربي أيام لابويتي الذي دفع تأمله في الأوضاع الاجتماعية والسياسية إلى التساؤل والاستغراب بعد أن سادت الروح الدكتاتورية وحكم الطغاة قبل عصر النهضة واثنائه، وبعد أن أعاد إنتاجها نظريا وتطبيقيا في كتابه الذائع الصيت " الأمير " الإيطالي ميكافيللي الذي اجمع الباحثون على أن الأمير الذي تحدث عنه في كتابه لا يزيد إلا قليلا عن الصورة المتخيلة للطاغية الإيطالي في بدايات القرن السادس عشر، لكنه في الحقيقة حاول أن يصوغ النموذج الأمثل لطاغية يصلح ويتناسب مع جميع الشعوب في كل زمان ومكان، لانه ينظر إلى الإنسان على انه نفسه في كل أوان يتأثر بنفس الدوافع، أناني بطبعه وحقود وخداع وجبان لاتحركه إلا مصالحه، وكأن هذه السمات البيولوجية والسيكولوجية تهيئ أرضا خصبة لتقبل بذور التكيف مع الطاغية وسلطته القمعية أو ما يسميه لابويتي بالعبودية الإرادية التي يمكن البحث عن جذورها ليس في هذه السمات التي استبعدها كأسباب مباشرة بل فيما تصور انه الجذر الحقيقي العميق لهذه الظاهرة، حيث يرى أن " الكل يتمحور حول لعبة الواحد الذي يضمن هوية الجماعة ويعطي للحياة الاجتماعية معنى "، ومن هنا تأتي الرغبة في التماهي مع الطاغية وليتحول كل بدوره إلى طاغية صغير وتتحول العلاقات الاجتماعية إلى علاقات طغيان بعد أن يستشري كداء اجتماعي... وعلى الرغم مما يمتلكه هذا التفسير من جنوح فلسفي في التأمل إلا انه يكتسب شرعية التوصيف ضمن شمولية المجتمع الغربي ومجتمعاتنا العربية العالم ثالثية أو الجنوبية بتصنيفها الحديث، لكنه لا يحدد بدقة خصوصية مجتمعاتنا المحلية ضمن إطار هذه الإشكالية، إشكالية الاستعداد الاجتماعي لقبول الطغيان بل والمساهمة في صناعة الطاغية.
الفرد في مجتمعنا يتعرض لشتى أنواع العنف المادي والرمزي منذ نعومة أظفاره في العائلة والمدرسة والشارع وحتى بعد أن يكبر في مؤسسات الدولة التي يعيش في كنفها، حتى يشيع جو من التراتبية والمرؤوسية يسلب منه الإحساس بالقيمة الشخصية والمكانة الاجتماعية، فيعيد صياغة سلوكه وتصرفاته في اتجاه الاستفادة من أوضاع المرحلة التي تضغط عليه، فنلاحظ انتشار مظاهر سلوكية سلبية كالتزلف والاستزلام والمبالغة والتهويل في تعظيم المتسلط إما اتقاء لشره أو طمعا في رضاه، مما يؤثر على شخصية المتسلط الذي تتضخم اناه بشكل مفرط فيسعى إلى الاستحواذ على الآخر وتحويله تابعا له وأداة لخدمته، وهذا ما يجعل المتسلط فاقدا " للتعاطف مع الآخر والإحساس بمعاناته وآلامه ومخاوفه وحاجاته، ومن هنا استمرار العنف والتعسف " وإدامة القمع والاضطهاد المتواصل، فالعلاقة فقدت تكافؤها وتغير نمط تبادل منفعتها، أي تبدلت شروط تعاقد مصالحها المتبادلة، وهذا التمثيل المتشظي أو المتوزع للعلاقات الاجتماعية بين الناس ينعكس في علاقتهم السياسية ككل مع فرد حاكم قد تحول إلى النموذج الأعلى والأوحد للمتسلط الذي انتشرت صورته في الأوساط الاجتماعية وتسربت إلى اللاوعي الجمعي الذي أعاد إنتاجها بأقنعة مختلفة قننها الوعي طبقا للظرف الذي يناسبها، وهذا ما يهيئ المناخ السلبي للاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته، والدخول في نمط من العلاقة تضع المجتمع ضد نفسه، أي تفقده الوعي بمصلحته الحقيقية، إلا أن هذه العلاقة لا تظل جامدة الحال، ثابتة تاريخيا بل يغلب عليها " التذبذب بين التبعية والرضوخ وبين الرفض والعدوانية الفاترة "، حيث أن الشعب المقهور يحاول الانتقام بأساليب خفية كالكسل والتخريب أو بأساليب رمزية كالنكات والتشنيعات واعمال أخرى مقاربة، وهذا ما يعطي صفة الازدواجية لطبيعة هذه العلاقة، ( رضوخ ظاهري وعدوانية خفية )، حيث تدخل هذه العلاقة فيما بعد في مرحلة غليان داخلي متبادل، فالطاغية يخاف الشعب مثلما إن الشعب يخاف الطاغية فيزداد قمع الطاغية لأدنى مقاومة من قبل الشعب له مما يولد ردود أفعال داخلية تتفاقم في مارد إرادة الشعب المكبوتة التي ستحقق خلاصها بيدها أو بيد غيرها، لكن الخطورة تكمن فيما بعد الخلاص، فهل سيحن الشعب إلى جلاد جديد؟! لأنه يتصور بأنه قاصر عن حكم نفسه، وانه بحاجة إلى حاكم ذي قبضة حديدية يسيطر على شؤون حياته، فيسقط في نفس الدوامة التي مر بها آنفا، ويعيد دورة العلاقة الشاذة مرة أخرى، أم انه سيبدأ مرحلة جديدة يعيد فيها صياغة العلاقة بينه وبين الحاكم؟! قاطعا جذور الاستعداد النفسي والاجتماعي للطغيان، بإزاحته لروح الاستبداد والدكتاتورية وتدمير وسائل إنتاجها وتوزيعها في بناه وانساقه الثقافية، وتوفير مناخ صحي للحرية المسؤولة والديمقراطية، يقول رو سو " لأي شيء يتنازل شعب بأسره لملك أو سلطان؟ إن الملك ابعد من أن يمد رعاياه بالقوت والعيش، لأنه هو نفسه يستمد عيشه منهم "