بالرغم من كثرة المآسي والمحن التي حلت بالمسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، بفعل الحروب الطويلة بين الامبراطوريات المتنافسة على حكم هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم القديم والسيطرة عليها،حافظ مسيحيو المشرق على وجودهم وحضورهم المتميز. لكن مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، وفي ظل التحولات السياسية، الثقافية، الدينة، الاقتصادية، الاجتماعية، التي فرضها الاسلام على شعوب المنطقة، بدأ ينحسر الوجود المسيحي في الشرق شيئاً فشيئاً، حتى تلاشى من مناطق عديدة مثل(الشمال الأفريقي)، و(تركيا)، التي تضم مناطق واسعة من أرمينيا وبلاد ما بين النهرين وانطاكيا السريانية السورية، كانت تشكل هذه المناطق مركز الثقل المسيحي في الشرق، لكن بسبب ما ارتكبته السلطة العثمانية، من مجازر جماعية، و ممارسة أبشع سياسية تطهير عرقي عرفها التاريخ البشري بحق المسيحيين تكاد اليوم تخلو تركيا من المسيحيين. والخط البياني لعدد المسيحيين في الشرق العربي الإسلامي هو في هبوط مستمر بسبب هجرتهم أو تهجيرهم منه، ولم تعد تتجاوز نسبتهم 7% من نسبة السكان، معظمهم في مصر ودول بلاد الشام والعراق. وفي ظل استمرار توتر الأوضاع الأمنية في أكثر من دولة مشرقية، بات وضع مسيحيي الشرق مرشح لمزيد من التدهور والتردي.
أمام هذه التحولات الدراماتيكية في واقع وأحوال مسيحيي المنطقة، هل سيكون مصير (المسيحية) في الشرق،الذي منه انتشرت في كل أنحاء العالم، كمصير (اليهودية)، الانحسار ثم الانقراض...؟. طبعاً من الخطأ النظر الى وجود إسرائيل (الدولة العبرية) على أنها امتداد وتواصل تاريخي طبيعي، لأتباع (الديانة اليهودية) التي ظهرت في فلسطين، وإنما هو في حقيقته وجود سياسي لكيان قومي عبري مصطنع، نشأ بفعل قوى وعوامل خارجية، في ظروف كاد أن يتلاشى الوجود اليهودي من فلسطين.
لقد ايقظت تفجيرات (الكنائس) في كل من بغداد والموصل، يوم الأحد 1-8-2004 أثناء صلاة القداس الإلهي، والتي دفعت بالآلاف من المسيحيين العراقيين لمغادرة وطنهم العراق.الذاكرة التاريخية الحزينة والأليمة جداً لـ(مسيحيي) الشرق الأوسط عامة، ولمسيحيي العراق خاصة، حيث في شهر آب من عام 1933،قام الجيش العراقي بقتل آلاف المسيحيين العراقيين العزل اثناء سحق انتفاضة الآشوريين المطالبين بحقوقهم القومية والوطنية داخل الدولة العراقية.كما أن تفجير الكنائس العراقية، أعاد طرح قضية (الوجود المسيحي) في دول المشرق العربي الإسلامي، للبحث والنقاش من جديد، من قبل العديد من الكتاب والباحثين، ووسائل الإعلام العالمية والاقليمية، فقد نشرت جريدة (النهار) مقالاً للأستاذ:(جهاد الزين)، في ثلاث أجزاء 10و11و12آب، ألقت الضوء على ((الديمغرافية المسيحية)) المتأزمة في الشرق، وقد ربط الكاتب أزمة الأقليات المسيحية بالواقع المأزوم للأكثرية المسلمة والمخنوقة، كما أكد على أهمية تعزيز الوجود المسيحي في المنطقة وازدهاره، لحماية هذا الوجود من الانقراض، واعتبره واحدة من بين أهم ثلاث(قضايا فوق سياسية) يجب أن تتصدر استراتيجية الإصلاح في دول المنطقة. كذلك كتب: د. سيار الجميل، في جريدة (ايلاف) الالكترونية مقالاً بعنوان(( لنقرع الأجراس في الدفاع عن وجود المسيحيين العراقيين ومصيرهم))، وقد حذر في مقاله من المشاريع الدينية الإسلامية المرعبة التي تطرحها التنظيمات الأصولية الإسلامية، ونبه الى مخاطر هذه المشاريع على مسيحيي العراق الذين هم مكون أساسي واصيل من مكونات المجتمع العراقي.
من دون شك أن قضية معاناة واضطهاد (مسيحيي المشرق)، لم تعد (قضية سياسية) بالمعنى التقليدي للكلمة، لأنها لا ترتبط بشكل مباشر بطبيعة الأنظمة الحاكمة، وهم(المسيحيون) لا يشكلون تهديداً أمنياً أو سياسياً لأوطانهم،كما هو الحال بالنسبة للمجموعات الإثنية والقومية، فليس للمسيحيين مشروعاً سياسياً معيناً،لا على المستوى الإقليمي ولا المحلي، ككيان (قومي مسيحي)، طبعاً لا يعني وجود مثل هذا المشروع انه ممكن التحقيق.لكن مع هذا تبقى، قضية(مسيحي المشرق)،من أكثر قضايا المنطقة تعقيداً وإشكالية، ، لأنها ترتبط بشكل أكثر بتركيبة وبنية مجتمعات المنطقة وبالموروث الثقافي والاجتماعي والديني لشعوبها، أنها ملتصقة بالأيديولوجيات (اللا مساواة)، (الدينية والسياسية والقومية) السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية وهي ايديولوجيات تستند بمعظمها الى، نظاماً سياسياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً، أقامه الإسلام وكرسه في هذه المجتمعات، هذا النظام يقلل من شأن غير المسلمين وينتقص من حقوقهم المدنية والوطنية.أن قضية (مسيحيي الشرق)، هي قضية أخلاقية ثقافية، أكثر مما هي (سياسية)، فهي تطرح اشكالية(التعايش) بين (الدين الإسلامي) و الأديان الأخرى، فهناك خشية حقيقة من أن يكون مصير مسيحيي المنطقة، تحت ذريعة التواطؤ والتعاطف مع الغرب، كمصير اليهود، الذين تهموا بالتواطؤ مع الحركة الصهيونية ، حيث كان يترجم غضب الجماهير الإسلامية اثناء الحروب العربية الإسرائيلية الى احتجاجات شعبية معادية لليهود، وقد تسبب،النزاع العربي الإسرائيلي، في اخلاء المنطقة من اليهود.ويبدو أن المشهد ذاته بدأ يتكرر مع ما تبقى من (مسيحي المشرق)،فقد بدأت الحملة الأمريكية البريطانية، تلقي بظلالها على العلاقة بين الأقليات المسيحية والأكثرية المسلمة في المنطقة، وبدأت تنقلب ردة فعل التيارات الإسلامية المتطرفة، على الحرب الأمريكية في العراق، ضد مسيحيي العراق أنفسهم. ولأجل زج أكبر عدد ممكن من مسلمي العالم في هذه المعركة بدأت التنظيمات الإسلامية بحملة تضليل إعلامية كبيرة- تدعمها وتناصرها الكثير من وسائل الإعلام والأحزاب والمؤسسات،العربية والإسلامية- تصور الحملة الأمريكية، على العراق ،على أنها، حرب صليبية جديدة، يشنها الغرب المسيحي على الإسلام والمسلمين.كما أنها تنطلق من فرضية: أن كل مسيحيي العالم، أذناب لأمريكا و للغرب المسيحي وامتداداً له، لذا يجب التخلص منهم، بحسب ما جاء في بيان(هيئة التخطيط والمتابعة في العراق)، وهي منظمة اسلامية أعلنت مسؤوليتها عن تفجير الكنائس في العراق.
هل تشكل الحالة العراقية الراهنة، ظاهرة طارئة عابرة واستثنائية في حياة مسيحيي الشرق...؟ هذا ما نتمناه !. لكن المشهد العراقي يمكن له أن يتكرر في معظم هذه الدول، لأنها دول مأزومة،وهي تحمل في بنية نظامها السياسي،الاقتصادي،الاجتماعي،الثقافي، معظم عوامل الانهيار والسقوط، إما بفعل عوامل داخلية أو تحت الضغوطات الخارجية،كما حصل للعراق، عندها لن يكون حال المسيحيين في هذه الدولة أو تلك أفضل حالاً من وضع مسيحيي العراق.خاصة في ظل تراجع وانحسار القوى الليبرالية الديمقراطية والحركات التقدمية العلمانية في المنطقة، وتصاعد وتنامي الحركات الأصولية الإسلامية المتشددة التي تطرح مشروع العودة الى الدولة الإسلامية.ولا أظن أنه سيغير من واقع المسيحيين في المنطقة، انخراط العديد من النخب المسيحية في الأحزاب الوطنية والحركات الديمقراطية، في دول المنطقة وتبوءهم بعضهم مناصب قيادية في هذه الدول، لأن الشعور العام السائد في الشارع العربي والإسلامي هو شعور ديني اسلامي من النوع المتعصب والمتطرف، حتى داخل الكثير من الأوساط والنخب السياسية ذات التوجهات القومية.لبنان كان ينظر له على أنه أكثر الدول استقراراً وديمقراطية ومدنية في المنطقة، ومثالاً للتعايش الإسلامي المسيحي، عاش تحت وطأة حرب أهلية مدمرة، امتدت سبعة عشر عاماً- ولم تنته أسبابها وآثارها بعد- بمجرد حصول، تغيير ديمغرافي لصالح المسليين في لبنان وشعورهم بامكانية تغيير طبيعة النظام القائم فيه.
إن الحفاظ على المسيحيين وحماية وجودهم في دول المشرق الإسلامي، تتطلب أولاً وقبل كل شيء آخر: وجود رغبة حقيقة وفعلية لدى معظم المسلمين، حكومات وشعوب، ببقاء المسيحيين بينهم، دون شرط أو قيد. والخطوة الثانية: وضع برامج تثقيفية، ومناهج تربوية وتعليمية وطنية،تنشر ثقافة حقوق الانسان والديمقراطية في المجتمع، مناهج تعمل على تغيير نظرة الانسان المسلم الى الانسان المسيحي، من نظرة غريب الى نظرة شريك له في الدنيا والآخرة، نظرة تنطلق من أن أحداً لم يختار دينه وانما هكذا وجد نفسه. طبعاً هذا يتطلب بدوره، وجود نظام سياسي واجتماعي ديمقراطي علماني يجسد مفهوم (الدولة الوطنية)، يزيل مخاوف المسيحيين من المستقبل ويشعرهم بانهم اعضاء حقيقيين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة بالتساوي مع المسلمين دون تمييز أو تفضيل.نظام، يفصل الدين عن السياسة، ويعيد الإسلام الى المسجد، مثلما اعيدت المسيحية الى الكنيسة في الغرب. طبعاً هذه معادلة غير ممكنة التطبيق، لأن نظرة وفلسفة الإسلام، الى الكون والحياة والانسان، تختلف عن نظرة المسيحية.لهذا نجد أن هجرة غالبية المسيحيين هي باتجاه الجغرافية وصولاً الى الغرب، حيث الحرية والديمقراطية وفرص العمل، أما هجرة غالبية المسلمين هي باتجاه التاريخ و الماضي، وصولاً الى الدولة الإسلامية الأولى.
كلمة أخيرة:
إن تلاشي المسيحيين من الشرق يعني انسداد أفق الحوار المسيحي الإسلامي، وتراجع حوار الحضارات لصالح صدام الثقافات.
الكاتب سوري مهتم بحقوق الأقليات.
[email protected]
التعليقات