يا قارئاً كتابي
إبكِ على شبابي
اليوم كنت بينكم
غداً تحت الترابِ

هذان البيتان من الشعر لـم يكتبهما الأخطل الكبير ولا الأخطل الصغير، إنهما، والحق أقول، لمجنّد مجهول كتبهما على ظهر أحد مقاعد (بوسطة ـ حافلة) للنقل تعمل على خط طرابلس ـ بيروت. ولأنني لم أجد ورقة في محفظتي، دونتهما على كف يدي كي لا أنساهما، وحملتهما معي إلى أستراليا، كأثمن شيء جلبته من بلادي.
وقد هزّني خوف هذا المجنّد من الموت ـ لست أدري إذا كان لبنانياً أم سورياً ـ وبدأت أفتّش عن أي مجنّد، يقدر أن يشرح لي خوفه، ارتباكه، وهواجسه. وأعترف أنني فشلت فشلاً مؤسفاً. فلقد وجدت كل من تكلّمت معهم فخورين بجنديتهم، بكرامتهم، ببذلتهم العسكريّة، ومتأهبين للموت من أجل بلادهم، والانسان سيموت عاجلاً أم آجلاً، على حدّ تعبيرهم.
فممَ يخاف إذن ذلك المجند الشاعر؟!. ولماذا كتب ذينك البيتين من الشعر؟!.. أهما (للتفنيص) أم (للتخويف)؟!. أم أنهما يعبران عن معاناة حقيقية موجعة ومخيفة؟!
الحقيقة، أنني لم أصدّق معظم ما تبجّح به أمامي أولئك المجندون الشباب، رغم احترامي لمشاعرهم الوطنيّة، وتساميهم في الدفاع عن بلادهم، ولكن الإنسان يبقى إنساناً من لحم ودم، حياته تأتي أولاً وأخيراً ، وخير دليل على ذلك استسلام الجنود في الحرب، أو فرارهم من أرض المعركة، ولسان حالهم يردّد: ألف كلمة جبان ولا كلمة ألله يرحمه.
نحن، كعرب، نمتهن التبجح البطولي، ونمارس عنتريتنا على أكمل وجه، ولكن بالثرثرة فقط:

ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ولكن عندما يدق نفير الحرب، نخلع أحذيتنا، ونرمي أسلحتنا في أرض المعركة ونتوارى عن الانظار، ومع ذلك نظل نردد:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فما جدوى الحروب إذن، والأعداء سينقلبون أصحاباً بتوقيع واحد على معاهدة صلح؟ وما جدوى التفجيرات، وزهق أرواح الأبرياء، وخاصة أولئك المغرّر بهم، إذا كان العنف لا يحصد إلا الموت، والحوار البنّاء أفضل سبيل للحياة؟.
فالإرهابي، بنظري، مجند في خلية إرهابية، صادرت تفكيره، وداست إحساسه، واعتقلت إنسانيته، وحبّبت إليه الموت، فأصبح مسيّراً من رأسه حتى أخمص قدميه، تتلاعب بحياته وفق أهواء أمرائها ومنظّريها، وأعتقد أن خوفه من الموت لا يقل عن خوف ذلك المجند الشاعر، وإن نجح في إخفائه كي لا يتهم بالزندقة والكفر!
مجنون إبن مجنون من يفكّر بدخول الجنة ومضاجعة الحور العين عن طريق سفك دماء الأبرياء، فنيران الجحيم بانتظاره، وكل شياطين الهلاك! فلماذا إذن يتدافع هؤلاء الشبان البسطاء للموت، ومن أجل مَنْ؟ هل من أجل حقنة من المخدرات أم حفنة من الدولارات؟ هل من أجل نصرة دينهم، ودينهم يخجل من شرورهم؟ أم من أجل رفع شأن أناس يعملون، دائماً وأبداً، من أجل دنياهم ليس إلاّ.
ألا تكفينا الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات وموجات تسونامي العاتية التي بلعت الانسان والبنيان في لحظة مميتة، كما بلع الحوت النبي يونان في غابر الأزمان؟ فلماذا إذن نزيد فوق مصائبنا الجيولوجية الفتاكة مصائب صنعناها بأيدينا لنبتلي نحن بها؟
إذا كانت هذه هي حالنا، فحال غيرنا أسوأ منا، ويكفي أن نراجع ما كتبه أو قاله الجنود الأميركيون أو جنود الحلفاء، لا فرق، إثر مقتل أحدهم، لندرك عمق الخوف، وفظاعة المأساة، وصدقوني أن الموت ضيف ثقيل لا أحد يرحب باستقباله.
كلما قرأت خبراً محزناً عن فتك الإنسان بأخيه الإنسان، أراجع بذاكرتي ما كتبه ذلك المجند المجهول: إبكِ على شبابي. وصدّقوني أنني بكيت.. وبكيت، كما لـم يبكِ والد مفجوع من قبل، وأحسست أن كل هؤلاء الضحايا، الذين يتساقطون بدون ذنب اقترفوه، أبنائي، وأنني المسؤول الوحيد عنهم. وأن عليّ واجب المطالبة بحقوقهم، وبتوجيه سؤال ملح إلى زعماء العالـم، سياسيين وعلمانيين ودينيين وإرهابيين:
ـ لماذا مات هؤلاء؟!!
أجل.. لماذا ماتوا، ولماذا يموت غيرهم؟!. وهم يريدون الحياة!!

[email protected]