استشهد رفيق الحريري في لبنان ومن أجل لبنان وفداء للبنان، مات الحريري رجل الدولة، الشخصية العربية الدولية البارزة التي لم تتورط في الحرب وإنما أنغمس في الوفاق الوطني والسلام المدني والأعمار، وجسد نموذجا لرجل الأعمال العربي الذي يعرف جيدا المسئولية الاجتماعية للرأسمالية الوطنية،وهي نماذج متوافرة بكثرة في المجتمع الأمريكي ولكنها نادرة في المجتمعات العربية. رحل الحريري ولم يضبط في حياته عابسا ولكنه دائم الابتسامة منشرح القلب متفائل بالمستقبل دائما ينظر إلى الأمور نظرة كلية ولا يلتفت إلى الوراء ولا إلى الأشياء الصغيرة وهذه هي طبيعة الشخصيات الكبيرة الناجحة في كل العالم وعبر التاريخ.

ولكن السؤال ماذا يعني اغتيال الحريري ؟
أولا: يعني اغتيال الحريري صحة النظرية التى تربط بين الاستبداد والإرهاب. وأن محاربة الإرهاب تستلزم حتما محاربة الاستبداد والتخلص منه، فعلاوة على أن الديموقراطيات لا تحارب بعضها فأنها أيضا تخلق مناخا شفافا يساهم بفاعلية في محاصرة الإرهاب، أما الإرهاب فينتعش في أجواء الاستبداد والحكم الفاسد وتعشش أوكاره حول المستبدين، وهو جزء رئيسي من أدوات هذه الأنظمة المستبدة في ترويع خصومها ومواطنيها. إن هناك تلازما بين ثالوث الاستبداد والفساد والخراب.. إن الأنظمة المستبدة لم تستخدم الإرهاب كأداة رئيسية من أدواتها فحسب، بل أنها بفسادها واستبداها وقسوتها جعلت معارضيها أيضا يستخدمون أحيانا نفس الأداوات، وأغلب الجماعات الإرهابية في المنطقة العربية هي نتاج أساسي لأجواء الاستبداد العربي. وازعم أن ابتلاء العالم العربي بهذه الجماعات الإرهابية ما كان سيحدث لو كانت هناك أجواء ديموقراطية تنعم بها المنطقة.
ثانيا: فتح اغتيال رفيق الحريري الجدل بصوت عال داخل لبنان وخارجه حول مسألة أهمية الجانب الدولي فيما يتعلق بموضوع التحقيقات والحماية، بعيدا عن الكلام التقليدي عن سيادة الدولة وغيرها من الأدوات التي أستخدمتها كل الأنظمة المستبدة منذ ظهور الدولة القومية. فأمن الأنسان وحرية الإنسان وكرامة الإنسان أمور أهم بكثير من مسألة سيادة الدول، فالسيادة التي تكون نتائجها الرئيسية هي اضطهاد المواطن وأقتراف كافة الجرائم ضده، هذه ليست سيادة وإنما إستعباد يجب أن يسعي كل الأحرار للتخلص منه.
إن إجراء تحقيق دولي عادل وشامل حول مسألة أغتيال الرئيس الحريري لم يكن مطلبا فرنسيا فحسب، ولا مطلب المعارضة اللبنانية فحسب، وإنما هو مطلب يلقي إجماعا شعبيا لبنانيا، وهو مطلب مؤيد من كل دعاة العدالة والحرية من غير اللبنانيين في العالم العربي وخارجه.
إن لبنان يمر بمرحلة حرجة وتطورات داخلية مخاضية ويحتاج في هذه المرحلة إلى حماية دولية حتى تسفر هذه التطورات عن سيادة الديموقراطية والحريات بعيدا عن دولة المخابرات والحروب الأهلية والأيادي المقيتة التي تعبث بتجربته الحضارية الفريدة.
ثالثا: يمثل أغتيال الحريري جريمة سياسية وليست جنائية، وفي الجرائم السياسية الكبيرة والخطيرة مثل تلك الجريمة تكون مخططة بعناية ولها أهدافها، وجهات تقف ورائها، وفي حالة اغتيال شخصية محورية مثل الرئيس الحريري فإن حجم التخطيط كان على مستوي عال، فنيا وزمنيا وتمويهيا، وهذا ما يقودنا إلى النقطة الهامة التالية.
رابعا: أن هناك فرقا بين الأدلة الجنائية والأدلة السياسية، ومن الصعب جدا في جرائم الإرهاب والجرائم السياسية الوصول إلى أدلة جنائية تدين الفاعلين الحقيقين، وحتى التحقيق الدولي أشك فى إنه سيصل إلى إدلة جنائية مؤكدة. ولكن الهدف الأساسي هو الأدانة السياسية للمناخ السياسي الذي أفرز مثل هذه الجرائم. وقد كتبت مقالا بعد أحداث 11 سبتمبر مباشرة أفردته فقط للفرق بين الأدلة السياسية والأدلة الجنائية، وقلت أن الولايات المتحدة لو انتظرت أدلة جنائية محكمة لإدانة الإرهابيين فإن هذه هي الوصفة السحرية لإنتشار الإرهاب وليس محاصرته، وحسنا فعلت الولايات المتحدة حيث بنت تحركاتها ضد الإرهاب الدولي وفقا للادلة السياسية لمحاصرة الأسباب الأوسع المتسببة في هذه الظاهرة.
خامسا: ظهور شخص عبر شاشة الجزيرة يعلن أنه ينتمي إلى منظمة أطلق عليها " جماعة النصر والجهاد في بلاد الشام" وإن منظمته مسئولة عن أغتيال الحريري انتقاما من السعودية هو جزء من تمويه الجريمة، ولكنه أتي بنتائج عكسية حيث بدأ الموضوع تافها وسطحيا ومفتعلا. وهو ما جعل الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية السعودي يقول " أن أقحام بلاده في عملية أغتيال الحريري، بأنها عملية سخيفة، والتي قد تكون لأهداف معينة، وإنه لا يعتقد بوجود تلك الجماعة الإرهابية التي بثت الشريط ". إن هذا الفعل الساذج فتح المجال واسعا حول كثير من العمليات الإرهابية المخابراتية، والتي تحدث في العراق وغيرها، وتنسب إلى الجماعات الإسلامية الإرهابية، وقد اختلط الحابل بالنابل في هذه العمليات، والكثير منها في الواقع من تدبير وتخطيط أجهزة مخابرات عربية وغير عربية معروفة باتجاهاتها الدموية والتخريبية وتسعى لتفجير الموقف في العراق ولبنان لأسباب داخلية بحتة تمس جوهر انظمتها السياسية واوضاعها الداخلية الصعبة.
سادسا: إنه من المبكر جدا توجيه أصابع الاتهام الجنائي إلى جهة معينة إو إلى دولة معينة قبل إجراء تحقيق دولي شامل يسفر عن شئ، ولكن كما قلت أن المسألة في النهاية تتعلق بالمناخ السياسي الذي خلق العوامل التي أدت إلى هذه الجريمة، وفي هذه الحالة يمكن أن نوجه أتهاما سياسيا بناء على أدلة سياسية لا تخطئها العين. وبعيدا عن التصريحات العاطفية التي أعقبت هذه الجريمة الشنعاء يمكن أن ترصد بعض الكتابات والتصريحات التي تبدو منطقية ومتماسكة في هذا الإطار فيقول رضوان السيد في صحيفة الشرق الأوسط في وصف هذا المناخ الذي تعيشه لبنان " أطراف الحرب هم الذين تولوا السلطة السياسية الجديدة، وهم جميعا تحت القبضة الأمنية السورية، تساعدها الأجهزة الأمنية اللبنانية التي أعيد بناؤها، أما المدنيون القدامي والجدد، وعلى رأسهم الحريري، فقد عهد إليهم بالجزء المدني من الدولة. والوزارات وإدارات الدولة جري أقتسامها من جانب حلفاء سوريا، والأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية نمت أدوارها ليس في الجوانب الأمنية والعسكرية فحسب بل وفي الانتخابات وقوانينها وفي الاقتصاد والمصارف اللبنانية ".
وفي بيان للتجمع الوطني الديموقراطي في سوريا جاء فيه " إن الجرائم وأعمال التخريب المتعددة الأطراف والأهداف، والتي تجري في لبنان، ما كان لها أن تنجح، لو أن العلاقات اللبنانية السورية صحيحة وصحية، مبنية على أسس الأحترام المتبادل، والعلاقات المتكافئة بين الشعبين والدولتين، بإقامة التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي والاستراتيجي، دون التدخل الأمني في الشئون الداخلية والتأُثير على التجربة الديموقراطية اللبنانية ومؤسساتها السياسية والدستورية ".
وقد ذكرت محطة س. أن. أن،عن مصدر في الأمم المتحدة، إنه كان قد تم توجيه عدة رسائل قوية قبل مقتل الحريري إلى سوريا فيما يتعلق بأمن الحريري وأمن جنبلاط.
وقد ذكرت صحيفة الحياة في عددها بتاريخ 13 فبراير 2005 " أن الأسرة الدولية أعطت رسالة واضحة لسوريا، بعد القيام بعمليات سفك دماء لأي معارضين في لبنان، وشددت الرسالة على أن تعرض وليد جنبلاط ورفيق الحريري لأي محاولة اغتيال سيشكل نقطة القطيعة النهائية بين سوريا والأسرة الدولية "، وفى اليوم التالى لنشر هذا الخبر.. اغتيل الرئيس الحريري.
إن الأنظمة المستبدة لا تحكمها قواعد المنطق التي تحكم التصرفات الإنسانية الرشيدة، فالأستبداد السياسي قرين الغباء وغياب الرشد، وهو لا يتخلي عن حماقاته إلا إذا وصلت المطرقة الحديدة إلى رأس النظام وهو ما يسمي بسياسة " حافة الهاوية". وقد أرتكبت الأنظمة السياسية المستبدة كافة الجرائم وكافة الحماقات بدون اي منطق أو عقل، وبالطبع بدون أي حسابات رشيدة لأي أوضاع أو ردود فعل اقليمية ودولية، ومن يشك في ذلك عليه رصد الحماقات والجرائم التي ارتكبها صدام حسين منذ مجيئة إلى الحكم وحتى سقوط نظامه الغير مأسوف عليه. للمستبدين حساباتهم الخاصة خلافا لكل التفكير الإنساني العقلاني الرشيد.
سابعا: من حظ لبنان السئ إنه مثل عبر تاريخه الحديث نظام أشبه بالديموقراطيات الغربية وسط محيط من الدكتاتوريات العربية، ومثل بؤرة حضارية في تماس حقيقي بين الغرب والشرق وسط بيئة أقليمية متخلفة وفي حالة عداء مع الحضارة القائمة. ولهذا دفع لبنان ثمن التدخلات العربية السلبية في شئونه الداخلية من الفلسطينيين إلى السوريين ومرورا بأغلب الأنظمة العربية. ورغم أن المثل يقول من " يشرب من النهر لا يتبول فيه" إلا أن العرب استمتعوا بكل مظاهر البهجة والفرح والجمال اللبناني بل بلبنان الملجأ للمضطهدين وفي نفس الوقت وضعوا أيديهم وانوفهم بقساوة على التجربة اللبنانية لتخريبيها. ومنذ أتفاق الطائف الذي ساهم الحريري والسعودية بدور رئيسي فيه تحاول سوريا تخريب هذا الاتفاق وجر لبنان بكل قوة إلى نادي الدكتاتوريات العربية ودولة المخابرات القمعية،وما أغتيال الحريري إلا مظهر من مظاهر التدخلات العربية الفاسدة في التجربة اللبنانية.
وأخير: يدي على قلبي خوفا على أبو مازن ونرجو الله أن يحفظه بعيدا عن أيدي المخربين والقتلة، فكل من يحمل في يده غصن السلام ويسعي بشجاعة نحو تحقيقه ويساهم برؤية إيجابية في بناء دولته أجد نفسي خائفا عليه، فهذه المنطقة تعادي البناءين وتحتضن المخربين.

كاتب ومحلل سياسى-واشنطن
[email protected]