في مقاله الأسبوعي المعتاد في صحيفة الشرق الأوسط نشر الإعلامي والكاتب الصحافي الشهير توماس فريدمان بتارخ 28 شباط مقالا بعنوان ( ثلاث نقاط تغيير مهمة ) يستعرض فيها قراءته لدرس الإتخابات العراقية، متوقفا عن اهم نقاط التغيير التي وجدها تتجسد في أولا: تحدي الشعب العراقي البطولي لقوى الإرهاب البعثفاشي ولقوى الظلام الأصولية، وثانيا: في الدراما اللبنانية التي تجسدت باغتيال رفيق الحريري وتحول الهمس الى صوت واضح ضد سوريا، وثالثا: في الدراما الإسرائيلية- الفلسطينية، وتحول السياسة الأسرائيلية من بسط النفوذ الى التراجع الجغرافي.
ورغم أنه أصاب فيما توصل إليه لكنه لم يلحظ نقاط التغيير المهمة الأخرى التي لا ترتبط بالتكتيكات السياسية والأحداث الآنية وإنما بالإستراتيجيات التاريخية الكبرى كمسألة الإنتخابات في السعودية، ومسألة التغيير الدستوري فيما يخص مسألة الرئاسة في مصر، ودعوة تونس لشارون للمشاركة في مؤتمر للمعلومات، علما أنه دخل الى دائرة الموضوع للإجابة على السؤال: هل يمكنك معرفة وجودك وسط نقطة تغيير، أم هو شيء تستوعبه فيما بعد؟ ومن الواضح انه عرف وجوده في وسط نقطة التغيير، فتوماس فريدمان شخصية إعلامية، ديناميكية، واضحة الرؤيا، شجاعة عند التعبير عن رؤيتها، تنظر الى المشهد السايسي من منظور الطائر، رغم مسافة الاتفاق والأختلاف معه.
ما أستوقفني، بل وصدمني ، خلاصة إستنتاجاته في هذا الموضوع والتي ويجسدها بتقديم ثلاث نصائح غريبة، غير مباشرة، الى السلطة العراقية حيث يكتب:( لكي يسير العراق في الاتجاه الصحيح، كان لا بد من إجراء الانتخابات، إلا ان ذلك ليس كافيا. الكافي هو ظهور حكومة عراقية مستقرة ونزيهة تستطيع إخضاع التمرد السني. وهذا يعتمد على استعداد الولايات المتحدة للبقاء في العراق الى حين استكمال مهمتها، كما يعتمد من ناحية ثانية على مدى استعداد ونيّة الغالبية الشيعية اقتسام السلطة مع السنة ـ خصوصا الحقائب الوزارية المهمة مثل الدفاع والاستخبارات والداخلية ـ وعدم الاستمرار في عمليات اجتثاث حزب البعث. كما يعتمد سير العراق في الوجهة الصحيحة على تأييد قادة المسلمين السنة للغالبية العراقية).
هل مهمة الحكومة العراقية هي إخضاع التمرد السني؟ أية لغة طائفية تتحدث يافريدمان!! أليس الجادرجي والباجاجي والياور والنقيب سنة وقد شاركوا جميعهم في الأنتخابات عبر قوائمهم!! أليس الكورد سنة، إذا ما تحدثنا بهذا اللغة الطائفية!!
أليس من أولى مهام الحكومة العراقية هي توفير الأمن بالقضاء على العصابات البعثية والأصولية المتطرفة، والقضاء على البطالة، وتوفير الكهرباء، والماء الصالح للشرب، وتحسين المجاري والضمانات الصحية، وتوزيع الأراضي للعوائل الفقيرة وتقديم العروض لبناء الدور السكنية هي الأولى لتقديم نصيحتك !!
ألست ديموقراطيا؟ إذن لماذا هذا الإصرار على منح مقاعد برلمانية للذين وقفوا بوجه الإنتخابات ولم ينتخبوا ؟؟ أية ديموقراطية هذه؟؟ فإذا كان العذر بان الوضع الأمني هو سبب عدم ذهابهم لتقديم أصواتهم الإنتخابية فقد كانت هناك مراكز إنتخابية في الفلوجة لكن لم يذهب إليها سوى واحد في المائة من السكان!! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا أصرت المفوضية العامة للإنتخابات على عدم منح فرصة لقصبات الموصل التي لم تصلها صناديق الإقتراع، علما ان جلهم من المواطنيين المسيحيين والأزيديين، وهما من الطوائف المهمة التي تزين القوس قزح العراقي؟؟ بل لماذا لم تحتسب أصواتعشرات الألوف من أصوات الكورد في قصبة سوران، وهؤلاء أدلوا بأصواتهم، وقد إعترفت المفوضية بخطئها في الأمر، ولو حسبت هذه الأصوات لأضافت الى القائمة الكوردستانية مقاعد في البرلمان تجاوزت الثمانين بكثير، بينما تعلو الأصوات لمنح من لم ينتخب مقاعد في الربمان، وهذا ما لم يحدث حتى في جمهورية الواق واق !!
إن الحكومة العراقية لا تمتلك الحق بمنح مقاعد برلمانية لمن لم ينتخب مهما كانت الظروف التي منعت الذهاب الى الإنتخابات، ومهما كانت النوايا طيبة وصادقة، فالحق الدستوري فوق رغبات هذا الطرف أو ذاك، وإلا فان يجب تعويض الذين يحق لهم التصويت في الخارج ولم يستطيعوا، لا لمعاضتهم للإنتخابات وأنما لأسباب إقتصادية في جانبها الأكبر، بمقاعد في البرلمان!!
ثم لنفترض جدلا بأن هناك من يريد أن يمنح السنة مقاعد في البرلمان الذين رفضوا التصويت له، فلأي سنة تمنح هذه المقاعد، للأصوليين السنة، للبعثيين السنة، للديموقراطيين السنة، للشيوعيين السنة؟؟؟ لماذا يتم التعامل مع السنة وكأنهم حزب متجانس، علما أن السنة كما نوهت قد شاركوا في الإنتخابات من خلال قائمة الياور والجادرجي والباججي والنقيب، وانا أعتذر من زج هذه الأسماء الطيبة في هذا المقام فهم أرفع من ان يكونوا طائفيين.
ثم لنتوقف عند تعبير ( التمرد السني)! أليس جناية أن يتم وصف البعثفاشي والسلفية الأصولية المتخلفة بانها تمرد سني!!
أليس هذا الأمر إساءة للعرب السنة!! الا يعرف فريدمان بأن الدليم وأهل الرمادي تمردوا على الطاغية صدام فقام بتدميرهم وإعتقالهم والتنكيل بهم!! ألا يعرف فريدمان بأن صدام حارب أهل سامراء بوحشية، بل أنه جعل سامراء تابعة لتكريت بينما كل عراقي يعرف أن تكريت كانت ناحية تابعة لقضاء سامراء، وانه حول نقطة إستراحة المسافرين الى الموصل من سامراء عند سد الثرثار الى التوقف في تكريت وجعل من تكريت محافظة!! اليس الصراع في بداية السبعينات كان بين (السوامرة)
وأهل تكريت!! فكيف نتحدث عن تمرد سني!!
ولنتوقف عند نصيحته الثانية عن نية وإستعداد الشيعة لتقاسم الوزارات السيادية مع السنة!! وهذا مردود إعتمادا على المقدمة الأولى في تعقيبنا على النصيحة الأولى. لكني أستغرب أن شخصية ديموقراطية وليبرالية مثل توماس فريدمان، لا اشك في موقفها المدافع عن حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، تطلب بتقاسم الوزارات السيادية بين من فاز في الإنتخابات بأكثرية واضحة وصلت الى النصف تقريبا وبين من قاطع الإنتخابات ولم يعترف بها، بينما لم ينصح بتقاسمها مع الأكراد وهم القائمة الفائزة الثانية، والأكثر حضورا في الواقع السياسي العراقي، بل والأكثر حقا من الناحية الدستورية والديموقراطية والليبرالية والحقوقية والعقلية والمنطقية وكل التعبيرات التي لها علاقة بالحس السليم!!
أما فيما يخص نصيحته الأخيرة بعدم الإستمرار باجتثاث البعث، فما لم يفهمه فريدمان، للأسف، عند قراءته لدرس الإنتخابات بان القائمة الشيعية إعتمدت في فوزها على وضعها التاريخي من البعث، بل أن مقتل علاوي وقائمته سياسيا كان في دعايته الإنتخابية التي قال فيها بأنه لا يأسف لتاريخه البعثي، وترحم على عفلق!! فلولا ذلك لكان من المحتمل لعلاوي أن يحقق الفوز الأكبر.
شخصيا أعيش في مدنة بألمانيا فيها حضور مكثف للشيعة العراقيين قياسا لبقية مكونات الشعب العراقي، وخلال فترة الإنتخابات كان (معظم) هؤلاء الشيعة يريدون التصويت لعلاوي، فهو في نظرهم البطل الذي قضى على فلول الإرهابيين في الفلوجة، بينما كانوا وهم الشيعة لا ينظرون بعين الرضى لقيادات الشيعة وموقفها السلبي في الرد على الإرهاب الموجه للشيعة، لكن ما قلب المعادلة هو الدعاية الإعلانية لعلاوي وقائمته، وتصريحه السابق بأنه لا يأسف على أنه كان بعثيا، وانه لو عاد التاريخ للوراء فانه سوف لن يختار غير طريق البعث، حينها ذهب باصان محملان بهؤلاء الشيعة الى مدينة كولن ليصوتوا لغير علاوي!! وعند بحثي في مسألة الدعاية الإنتخابية وتأثيرها على مجريات الإنتخابات وجدت هذا الأمر واضحا، فاجتثاث البعث مطلب شعبي وجماهيري، اكثر من كونه موقف سياسي لهذا الطرف أو ذاك..
ولأفيد السيد فريدمان أكثر، فقد وجدت أن بعض العلمانيين والمتعاطفين مع الشيوعيين صوتوا للقائمة الشيعية، لأنها تضم أحمد الجلبي، العدو الأول للبعث، والداعي لإجتثاثهم، ولم يصوتوا لقائمة إتحاد الشعب لغموض موقف الشيوعيين من قضية إجتثاث البعث، وظهور سكرتير الحزب الشيوعي على الفضائيات وتصريحه بأنه ضد الإجتثاث!!
أعتقد إن دراسة الإنتخابات العراقية يجب أن تأخذ العوامل النفسية للمجتمع العراقي بنظر الإعتبار، بل وعليه دراسة بنية المجتمع العراقي وتطوره السياسي الديناميكي وليس الظاهر والعابر من الأحداث، والحذر الشديد عند إستخدام مفردات مثل السنة والشيعة!!
إن نصائح فريدمان ليست مفيدة مع الأسف، وليست ديموقراطية أبدا.. لقد كان أولى به أن ينصح الحكومة التي سيقودها الأتلاف الشيعي، بأن يتعاونوا مع الأكراد، وان يقروا الفيدرالية ، وان ينظروا الى قضية كركوك، بشكل جاد، وان يتقاسموا الوزارات مع الأكراد ومع بقية القوائم المشاركة في الإنتخابات مهما كانت النسبة التي حصلت عليها، وليس مع من لم يشارك في الإنتخابات... وان على ( السنة) أن يتعلموا ان السلطة في العراق ستكون خاضعة لصناديق الإقتراع، وأن عليهم ان يشاركوا في اللإنتخابات القادمة، وإن عدم مكافئتهم على عدم مشاركتهم هو خير جواب.
كان الأجدر بفريدمان أن ينصح الحكومة أن تسارع برفع المستوى المعيشي للكادحين والفقراء والطبقات الدنيا والموظفين من أبناء الشعب العراقي، الذين صوتوا لها، وليس منح كعكة السلطة لمن رفض المستقبل الديموقراطي للعراق، لأن هؤلاء الناس البسطاء هم الذين سيطوتون ثانية بعد أشهر!! وعندها لا يجدي أي طرف حسن النوايا، وانما ما قدمه في الواقع المرير الى الناس.
كان ألجدر بفريدمان أن يدعو أن تكثيف الدعاية والإعلام المعادي للعنصرية والنزعات الطائفية وترويج ثقافة المجتمع المدني ودولة المؤسسات لا ات ينصح بايقاف العمل على إجتثاث الفكر الفاشي والنازي من تربة المجتمع العراقي. إن القضاء على الفكر العنصري البعثفاشي هو الضمان الوحيد والأساس لبناء مجتمع السلم والديموقراطية والتعددية والفيدرالية في العراق.