-1-

صدر قبل أيام عن احدى المحاكم الكويتية حكماً بإدانة المفكر الكويتي الطليعي د. أحمد البغدادي، بتهمة "الإساءة للإسلام" وهي تهمة سياسية أكثر منها دينية، نتيجة للدعوى التي رفعتها عليه السلفية الكويتية ، وهي التي تترصده وتعدّ أنفاسه نَفَساً نَفَساً منذ العام 1999، وتتحين الفرص لكي توقعه في شباكها.
لم يكن المفكر البغدادي مجرد صحافي عابر ومهاتر، يسعى إلى الشهرة، فلم يجد طريقاً إلى الشهرة الزائفة غير الهجوم على الإسلام.
فأحمد البغدادي عندما كان ينتقد السلفية الدينية كان ينتقدها من موقعه الأكاديمي والعلمي. فكان انتقاده لجهل السلفية من موقع العلم بهذا الجهل، ولم يكن من موقع الجهل بهذا الجهل.
وأحمد البغدادي عندما كان يتحدث عن خطورة الدولة الدينية وجرائمها كان يتحدث من خلال معرفته بالتاريخ، وتاريخ السياسة الدينية الماضي والحاضر، وليس من خلال أيديولوجية متعصبة وعقيدة متصلّبة غير قابلة للأخذ والعطاء، كما الحال عند السلفية التي استطاعت إقصاءه عن الحلبة الثقافية، لكي تتفرد هي وحدها بالرأي العام الكويتي.
وأحمد البغدادي لم تكن غايته من كشف فضائح وآثام الجماعات السلفية الإرهابية المسلحة، والتي ألحقت أضراراً بالغة بالأمة وبقضاياها وبمصيرها، أن يكون في عداء مع الدين القويم السمح الذي لا تعرفه هذه الجماعات. ولو عرفته كما عرفه الشيخ الأزهري المصلح أحمد صبحي منصور مثالاً لا حصراً (انظر مقاله في "السياسة" لا تهينوا الإسلام ولا تزيفوا شريعته) أو كما عرفه الشيخ خالد محمد خالد أو خليل عبد الكريم والذين يثبتون أن لا دين سماوياً منح الحرية للمفكرين كما منحها الإسلام.. نقول لو عرفته وعرفت أن الإسلام هو دين الحرية لما حجرت على آراء المُعلِّم أحمد البغدادي، ولما استعانت بالسلطة السياسية والقضائية في هذا الحجر.
فالذي يعادي الدين السمح القويم كان على مرِّ العصور كالتيس الذي يناطحُ الصخر، والذي قال فيه شاعر العرب الأعشى:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضُرها، وأوهى قرنه الوعلُ
ولعل السؤال الذي يُطرح هو: كيف أن السلطة السياسية تعلم أن السلفيين يسعون إلى الاستيلاء على السلطة ورغم هذا فهي تدعمهم؟
وهذا غير صحيح وخاصة في الكويت. ولعل الخلاف القائم بين السلطة وبين السلفيين في قضية ترشيح المرأة وانتخابها للبرلمان خير دليل على ذلك. ولكن السلطة في بعض الأحيان تسعى إلى عدم قطع شعرة معاوية بينها وبين السلفيين درءاً لشر أكبر، واتقاءً لنازلة أضخم، وتحاشياً لقارعة أعظم.

-2-
إن أكثر الوسائل اقناعاً ونجاعةً للدفاع عن أحمد البغدادي هو استعراض فكره في وسائل تجديد الفكر الديني ودعوته لاستخدام العقل في هذا التجديد من خلال ما هو قائم من منطق العصر والظروف الدولية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بعالم العرب والمسلمين. مع الأخذ بعين الاعتبار الأكيد أن العرب والمسلمين في هذه البقعة من العالم ليسوا وحدهم على كوكب الأرض. وأن تقاطع المصالح وتشابك العلاقات أصبح من أهم مميزات هذا العصر. وأن العالم قد تغير بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، وبعد كارثة 11 سبتمبر 2001، وأن على الإسلام
والمسلمين أن ينظروا لمصلحة الآخر قبل النظر إلى مصالحهم إن كانوا يريدون من العالم الآخر أن ينصفهم في قضاياهم ويتشيّع لهم في صراعاتهم ومعاركهم السياسية والاقتصادية والعسكرية. فالعالم لم يعد إمبراطورية عربية – إسلامية كما كان من قبل، تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. العرب اليوم أمة بحاجة إلى الآخر علمياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً كما لم يكونوا بحاجة إليه في أي من الأوقات. ومن هذا المنطلق يقوم المفكرون الليبراليون من أمثال أحمد البغدادي بالدعوة إلى تجديد الفكر الديني واستعمال العقل في هذا التجديد، لكي يفوّت الفرصة على السلفيين من أصحاب الثوابت والحرص على المنابت لأن يجددوا هذا الدين كما يريدون وكما يشتهون فتكون الطامة الكبرى كما هي الطامة الآن في العالم العربي والتي تتمثل في هذه الفوضى بالفتاوى والفتاوى المضادة، وفي هذا السباق من السلفيين إلى اعتلاء منابر الرأي السياسي والاقتصادي والاجتماعى والثقافي، ليقذفوا من عليائها هذه القذائف اليومية التي تدمّر مسيرة الفكر والثقافة الحرة.

-3-
منذ بدأ المُعلِّم أحمد البغدادي المشاركة في تكوين الفكر العربي الليبرالى الجديد وهو يركز على ضرورة تجديد الفكر الديني والدعوة لاستخدام العقل في هذا التجديد. وهو خلال أكثر من عشر سنوات استطاع أن يؤكد على أن تجديد الفكر العربي الليبرالي لا يمكن أن يتم دون القيام بتجديد الفكر الديني الذي هو أساس وأُس تجديد الفكر العربي. ولعل كتابه (تجديد الفكر الديني: دعوة لاستخدام العقل، 1999) والذي سوف نعرضه في بحث لاحق قد جاء ليؤكد على هذه الحقيقة التاريخية العلمية.
فما هي الأسباب المعيقة لتجديد الفكر الديني عموماً للوصول إلى تجديد الفكر العربي الذي يمثِّل الفكر الديني فيه النسبة الكبرى والمساحة الأوسع، علماً بأن الإسلام دين مرن، فيه قابلية التجدد الفكري الذي حدث في الماضي عدة مرات، وعلى مدار أربعة عشر قرناً ، وتعسَّر في الحاضر؟

هناك عدة أسباب منها:
1- لا مستقبل عربياً مضيئاًَ بعيداً عن الحداثة أو إقصاءً لها بخيرها وشرها. وهناك قطيعة واضحة بين الحداثة والفكر الإسلامي المعاصر في مجمله. بل تكاد تكون الحداثة في خطاب السلفية الفكرية الإسلامية هي العدو الأغشم والشيطان الأكبر للدين. والسلفيون في هذه الحالة سيكونون بين مطرقة العصر وتحدياته، وبين ثوابت التراث وقيوده. وهم بذلك في وضع تراجيدي لا يحسدوا عليه على حد تعبير برهان غليون. ويقفون بصلابة في وجه تجديد الفكر الديني.
2- يعتبر بعض المفكرين العرب أن الدعوة الحداثية العربية هي التي أفزعت المجددين الفكريين الدينيين من التجديد الديني خاصة عندما تم تفريغ الحداثة من القيم الأخلاقية التي يتشدد الإسلام بالتمسك بها. وهذا الفزع من الحداثة هو الذي عطّل التجديد لمن ابتغى التجديد الديني في الحاضر.
3- لقد تعرّض الإسلام منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن على أيدي الجيل الثاني من الليبراليين (طه حسين، قسطنطين زريق، علي عبد الرازق، خالد محمد خالد وغيرهم) إلى نقد علمي تاريخي ترك ردة فعل عنيفة لدى المصلحين والمجددين الدينيين الذين اعتبروا ما انتجه هؤلاء الليبراليون من فكر هو "هجوم على الإسلام" وهو "مشروع تخريبي" وليس "نقداً علمياً". فتعطلت بذلك كل حركات التجديد الديني كردة فعل لذلك الفعل.
4- إن معظم دعوات تجديد الفكر الديني جاءت من خارج الفكر الديني. وهي جاءت من الفكر الليبرالي بالدرجة الأولى. ونستثني من ذلك بعض الأمثلة البارزة (الأشياخ: الطاهر الحداد، علي عبد الرازق، الطاهر عاشور، خالد محمد خالد، خليل عبد الكريم، جمال البنا، أحمد صبحي منصور وغيرهم). وكان وما زال كل ما يأتي به الفكر الليبرالي العربي فكراً منبوذاً مرفوضاً من السلفية الدينية، حتى وإن كانت فيه الفائدة. وإذا أُريد لفكرة ما أن تُقتل فليتبنها الليبراليون لكي يجهضوها ويجهزوا عليها. حيث أنهم يدسّون "السُمَّ في العسل" كما هي السياسة الأمريكية اليوم بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط في رأي الشارع العربي السلفي الديني والقومي على السواء.
5- كان الإسلام كقضبان الحديد في الخرسانة السياسية العربية، منذ بدء "دولة الرسول" في المدينة وإلى الآن. بل إننا نقول أن الذي لعب دوراً كبيراً في تشكيل الدولة العربية من العهد الراشدي إلى الآن كانت السياسة وليس الدين وحده. ولم يكن هناك فارق بين التوظيف السياسي للدين في التاريخ القديم وبين هذا التوظيف في العصر الحديث. كما لعب الدين ورجال الدين دوراً أساسياً في التشكيل السياسي العربي بعد الاستقلال في بداية الخمسينات وحتى الآن. وأصبحوا (كفكر تشريعي وتسويغي وتبريري وتحريضي وتكفيري وتحريمي وتحليلي) من الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي العربي ظاهرياً وباطنياً. فكانت الدعوة إلى التجديد الديني تعني ضمناً الدعوة إلى التجديد السياسي وهو ما ترفضه السلطات السياسية القائمة والتي ساهمت مساهمة كبيرة في عدم تجديد الفكر السياسي لأن هذا يعني بالتالي ومباشرة تجديد الفكر السياسي للسلطات والذي لا يمس ولا يُجسُّ.
6- في السنوات الخمس الماضية زادت مقاومة أية دعوة لتجديد الفكر الديني بعد وقوع كارثة 11 سبتمبر 2001 لربط الاصلاح الديني والتجديد الديني وتعديل المناهج الدينية المدرسية بهذه الواقعة وما تبعها من أعمال إرهابية، حيث تم الربط بين الإسلام والارهاب وبين المسلمين والارهابيين. وكانت تلبية أو قبول أية دعوة لتجديد الفكر الديني معناه القبول بما يطرحه الغرب عموماً وخاصة أمريكا (العدو الأول للمسلمين) من اصلاحات دينية مرفضة رفضاً باتاً. ولكن غاب عن ذهن الجميع أن مشاريع التجديد والإصلاح الديني مشاريع مطروحة منذ 150 سنة أي منذ القرن التاسع عشر على أيدي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي ورشيد رضا وغيرهم، ومن تبعهم بعد ذلك في النصف الأول والنصف الثاني من القرن العشرين. بل كان في تاريخ الفكر الإسلامي دائما محاولات الكشف عن عدم التعارض (بين صحيح المنقول وصريح المعقول) (ابن تيمية)، أو بين (الشريعة والحقيقة) (التصوف)، أو بين (الحكمة والشريعة) (ابن رشد)، كما يقول نصر أبو زيد (تجديد الخطاب الديني ضرورة معرفية وليس استجابة لاستحقاقات 11 سبتمبر ).
7- ساهمت بعض الظروف الاقتصادية العربية التي أدت إلى اغتناء بعض الدول العربية في الحيلولة دون تجديد الفكر الديني. بل هي ساهمت على عكس ذلك في تثبيت السلفية الدينية وخاصة الاقتصادية منها. وكانت مظاهر هذه السلفية الاقتصادية انتشار ما يُسمى بالبنوك الإسلامية بدءاً من العام 1973 لمحاربة البنوك الربوية والتي هي علامة من علامات الحداثة الاقتصادية في العالم العربي. كما أن ارتفاع أسعار البترول وتضخم ميزانيات الدول المنتجة للنفط في العالم العربي عزز من تثبيت أركان السلفية السياسية المدعومة من السلفية الدينية دائماً.

-5-

وبناء على كل ما سبق نستطيع أن نقول أن محنة المُعلِّم أحمد البغدادي الحالية لم تكن محنة دينية بل هي محنة سياسية بالدرجة الأولى. وهو قد علمها وأدركها لذا فقد طلب اللجوء السياسي. وأن الحكم الذي صدر عليه من المحكمة الكويتية كان حكماً سياسياً وليس دينياً، فالحجة الدينية في هذا الحكم كانت واهية جداً ومتهافتة. ولهذا السبب تدفقت هذه الكوكبة من أسماء المثقفين العرب من شتى المشارب والأصقاع للتضامن مع الدكتور البغدادي ومن هذه الأسماء التي وصلتنا:
سردار عبدالله الكاتب الصحافي العراقي، سليمان وارد من كندا، خالد السعيد المحاضر بمعهد الإدارة العامة السعودية، المهندس باقر العراقي بالمجر، زهير كاظم عبود الكاتب والقاضي العراقي ، الأكاديمي الفلسطيني د. أحمد أبو مطر، أشرف عبد الفتاح الكاتب المصري، ابراهيم الجروانى رجل الأعمال
المصري، صبحي درويش كاتب ومترجم في باريس، جمال جمعة الكاتب العراقي ، د. عبد الخالق حسين، الطبيب والكاتب العراقي بلندن، د . برهان شاوي الشاعر والإعلامي العراقي، خالد المعالي الشاعر والناشر العراقي، خضير طاهر الكاتب العراقي، فهان كيراكوس الشاعر و الكاتب السوري، نضال نعيسة الكاتب السوري ، سعد صلاح خالص الكاتب و المترجم عراقي، خالد عويس الروائي السوداني، د. جواد هاشم وزير التخطيط العراقي السابق، د. سيّار الجميل الباحث والأكاديمي العراقي، حسين ديبان، د. أحمد بشارة الكاتب والأكاديمي الكويتي ورئيس الحركة الديمقراطية الوطنية الكويتية، عبد الرحمن العلولا الناشط السعودي ، أحمد أميري الكاتب الإماراتي، عبد اللّطيف الأشمليّ، عابد كريم، عبد اللّه المدنيّ، باحث والمحاضر والأكاديميّ البحريني، يوسف الحمدان الكاتب بجريدة الأيّام البحرينيّة، سعيد الكحل الكاتب المغربي، سعد اللّه خليل الكاتب السوري، عماد سمير عوض، د. محمّد الرّميحيّ الكاتب والأكاديمي الكويتي، آدم ريّان، صالح الزّغيديّ الناشط الحقوقيّ التونسي، أميمة عبد الغفّار الكاتبة السعودية، سعاد المجيل الأستاذة بجامعة الكويت، مها برجس البرجس العضو بمجلس إدارة جمعيّة الخرّيجين الكويتيّة، عبد العزيز سلطان، قطيف الجشي مدير مشاريع بالسّعوديّة، هشام عرفة مبرمج كمبيوتر مصري، خالد الهولي ، جهاد نصرة الكاتب السوريّ ، إقبال الغربيّ الأكاديمية التونسية، فرج حنّا، جورج كتن الكاتب الفلسطينيّ ، عادل الجندي الكاتب المصري، نرين طلعت حاج محمود الكاتبة سورية، رائف شفيق، دارا كيلو الباحث السوري، خالد السّعيد المحاضر بمعهد الإدارة العامّة بالسّعوديّة، سامي البحيري الكاتب المصري، محمّد البدري المهندس المصري، وداد فاخر الكاتب والصحافيّ العراقيّ، شربل بعيني الشاعر والكاتب، غريب عوض،
محمّد اليحيائيّ، الكاتب والصحفيّ العماني ، نبيل عبد الملك، رئيس المنظّمة الكنديّة المصريّة لحقوق الإنسان، نصر منير، أبو خولة الناشط الحقوقيّ ورئيس سابق لفرع تونس لمنظّمة العفو الدّوليّة، نرين طلعت حاج محمود الكاتبة السورية، الموسيقي عاصم الجلبي، ميديا رؤوف ممثلة مسرحية عراقية بالدنمارك، ماجد شكر الممثل المسرحي العراقي، عامر طهبوب، عبد المحسن الشبل، أحمد سليمان الشاعر والصحافي ورئيس ائتلاف السلم والحرية، فيوليتا زلاتيفا مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية، سعد سلمان السينمائي العراقي ، د . أحمد بن عبد العزيز العويس الأستاذ بجامعة الملك سعود، حسن الصحاف، فادي عبد الأحد، عبد الله الوصالي الكاتب السعودي، سارة الكندري، محمد الزواوي، د. سامر شيراجواندي الطبيب والمحلل السياسي، زكريا كردي الباحث السوري، عبد الله العتيبي الصحافي الكويتي، ناصر الحجاج الشاعر والكاتب العراقي، وجاسم محمد المطير الكاتب العراقي، د. رجائي زيدان الأكاديمي والفيزيائي المصري.
وما زال باب التضامن مع المُعلِّم البغدادي مفتوحاً على العنوانين التاليين:

[email protected]

أو [email protected]

مقالات أخرى:

الشيخ أحمد صبحي منصور: لا تهينوا الإسلام ولا تزيفوا شريعته

د. شاكر النابلسي: محنة العقل العربي: البغدادي أنموذجاً

نصر المجالي: مثقفون يدعون للتضامن مع أحمد البغدادي


د. كامل النجار: حتى القضاة يخطئون