كان العام 1989 سيئا لدرجة قاتلة بالنسبة لمستقبلي المهني في بلاط صاحبة الجلالة حتى أنني بدأت التفكير جديا الاعتزال، وأن أحوّل عن فرسي غير آسف تاركا الميدان للآتين الجدد والمنافسين من مجايليّ في صحف الغربة وديارنا العامرة بإعلامها الحكومي منه والخاص، لكن يبدو أن "الشيطان" لا يدخر جهدا طويلا في إشهار أسلحته معيدا مدمني مهنة ما أو عادة إلى جادة الصواب،، لا أعرف غيا منه أو شهادة أو مكرمة؟، أنا أعترف أن الصحافة "قاتلتي" مهنة وعادة معا. ولهذا وجدت نفسي ثانية في المعترك من جديد، وهو سجال ولا أعلم إلى متى سيمتد.
ما علينا، في يوم شتوي قارس من ذلك العام تلقيت هاتفا أخذني على حين غرة، فالسائل عني كان شخصا حلمت منذ نعومة أظفاري أن ألتقيه وكان الرغبة دفينة في نفس أي من أقراني في سن العاشرة ممن يحاولون تقليد الكبار في تقليب الصحف، والتعليق على ما جاء فيها،، كنا نحلم بلقاء كثيرين أو نقلدهم عن بُعد، أو نصبح مثلهم في قابل الأيام أو لدرجة أقل أن نعمل في ركابهم تلاميذ طائعين لهم. صاحب الصوت كان محمود أبو الزُّلف الذي ارتحل عن ديارنا قبل أيام.
كان موعد اللقاء مساء في فندق تشرشل اللندني، وجدت نفسي بعد أربعين عاما أمام أبو الزُّلف بشحمه ولحمه،، معه ابناه مروان ووليد، وخلال عشاء عامر، وسؤال وجواب، واستفسار عن أحوال الديرة هناك وديرة الغربة هنا في لندن، طرح محمود أبو الزُّلف أمامي موضوع استخدامي لديه، وهذا حلم ثان يتحقق، أبو مروان يريدني أن أعمل معه، ولكن أيش؟ كان يريدني أن أشرع بوضع خطة متكاملة لإصدار صحيفة دولية شقيقة لصحيفته المقدسية (القدس) العريقة. تجاذبنا أطراف الحديث ولم نطل الكلام، فهو صحافي مخضرم مرموق قادر على إيصال ما يبغي بسرعة وأنا هذا التلميذ متشوق لتنفيذ أمر الأستاذ،، ومن فوري حملت الحلم عائدا إلى منزلي الذي تحول إلى ساح وغى ومعركة زادته فوضى غير سابقاتها بين أوراق وملفات وصور وخرابيش وعبث إخباري، وباشرت أولى مهماتي بوضع "الخطط" كما طُلبت، وعلي يتعين أن أكون التلميذ النجيب.
ومرت أيام معدودات، كان كل يوم منها مقدار سنة مما تعدون، بين تخطيط ووضع استراتيجية الانطلاق الدولي، واضعا خريطة الطريق للانطلاق، فوجئت على حين غِرة باتصال هاتفي من زميلنا محمد التونسي وكان وقتها نائبا لرئيس تحرير جريدة (الشرق الأوسط) اللندنية ليزف لي الخبر الصاعقة، فبعد سلام وكلام سألني ما إذا كنت قرأت الشرق الأوسط، وحين أجبته بالنفي، قال "إذن اسمع هذا الخبر"، وبدأ زميلنا التونسي يقرأ كلمة تلو أخرى حتى اكتمل،، ساعتها أسقط في يدي،،، آخ لقد طارت السكرة .. وجاءت الفكرة،، فالجريدة التي عُهد لسيادتنا أنا التلميذ النجيب أقلعت لتحط ركابها فكرة في حضن زميل عزيز آخر، وهو للعلم ولشهادة الحق قام بالمهمة وأنجز ولا يزال.
وما علينا من طول السيرة، كيف ولماذا؟ اختارني الراحل محمود أبو الزُّلف للمهمة الصعبة؟ أما كيف فهو اعترف لي والآن هو في دار الحق ونحن في ننعم في باطلها بأنه كان يتابعني من مقره في القدس ووجد فيّ ضالته،، أما لماذا؟ فإنه زاد في القول بأنه آن الأوان لنعترف بضرورة الاتجاه نحو دعم آفاق التسوية مع الجار الإسرائيلي "العدو الصديق" مضيفا "وبما أنك لا تخرج يا أخ نصر عن هذا التوجه، فإن جريدة تقودها أنت ستدعم كل التوجهات التي ينخرط بها الأردن حاليا ومعه الأطراف المعتدلة من القيادة الفلسطينية". للإشارة فقط،، هنا أقول من جانبي وأعترف أنني لم أكن أفكر لا بمشروعات تسوية ولا بإسرائيل ولا بالأردن، شيء واحد كان أمام ناظري ه تحقيق فرصة العمر بإصدار صحيفة طالما حلمت بها مهما كانت التضحيات،، ومهما كانت النتائج، فأمامي فرصة تاريخية لمنافسة الكبار في الميدان، أوليست الشرق الأوسط والحياة تصدران من لندن؟ نعم ،، هذه هي فرصتي في المنافسة والمواجهة، وهي فرصة تمر يتيمة في العمر ثم تتلاشى كأي خبر كان اليوم "بفلوس،، وغدا نقرأه ببلاش"". المهم "مبروك .. إن شاء الله تعيش وتوكل غيرها" هكذا حادثني أحد الزملاء مازحا، أجبته "صحتين على قلبك في مقلب مثله".
يظل محمود أبو الزلف الذي تابعته عقودا أربعة وتعرفت عليه وجها لوجه أستاذا كبيرا ومروقا ولامعا، اعترف بقدراته وبريقه اعداؤه قبل اصدقائه ومناهضيه ممن اتهموه بالعمالة مرة للأردن، وثانية لإسرائيل، وثالثة للاعتدال الفلسطيني،، ورابعة بإدمانه الصحافة وخامسة لأنه محمود أبو الزلف،، هذا اليافاوي الشرس مات واقفا في الأسبوع الماضي، فمن اللجوء المرّ بنى قلعة صحافية ناهضة تحت أقسى الظروف وأسماها القدس عاصمة الأردن الروحية حتى النكسة التي لم نقم منها بعد، وسريعا صار من أخلص خلصاء الملك الراحل الحسين بن من الإعلاميين حاله حال جمعة حماد وآل العيسى وإبراهيم سكجها وآل حجازي وآل الشريف ممن يمموا شطر الأردن شرقا، وهم كانوا موالاته إعلاميا وسياسيا في الشطر الغربي الذي احتل باسم الضفة الغربية عربيا أو (يهودا والسامرة ـ عبرانيا).
كان أبو الزلف أول فلسطيني تجرأ علي افتتاح صحيفة يومية تحت الاحتلال الإسرائيلي في نهاية الستينيات الماضية، وهو أثار بخطوته هذه معارضة شديدة بين جماعات فلسطينية مختلفة، رأوا ذلك تسليما للسلطة الإسرائيلية، هذا فضلا عن اتهامه بالارتباط بالأردن،، حيث تلك الأيام ويبدو أن الأمر لازال قائما كعادة راسخة لاتتغير سهل على أي من كان أن يتهم ويتهم أي من كان،، ألسنا عربا؟ لقد أيد الراحل أبو الزُّلف في البداية بحماسة عودة الحكم الهاشمي للضفة تحت أي تسوية، ويقول كاتب إسرائيلي هنا" لقد عرف أبو الزُّلف كيف يسير بين قطرات المطر: بين الإسرائيليين والأردنيين، وبين الأردنيين ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبين منظمة التحرير الفلسطينية وحماس".
ومن بعد عودة سلطة عرفات إلى مناطق السلطة جاهد الصحافي الراحل رغم أنه دق بوابات الثمانين من العمر لتبقى (القدس) المقدسية محافظة على ألقها وشانها رغم المنافسة الحادة التي واجهتها من جانب صحف أنجبتها الظروف السياسية الجديدة، فالكل كان يدعم ويساعد ويرشو هذه المطبوعة أو تلك، وبقيت القدس سيدة الموقف "ليس لأن رخصتها صارت إسرائيلية وحسب، بل لأن صاحبها المقاتل لم يكن يرمي أسلحته في الميدان لكل مغامر مراوغ وهم كثيرون في الحالة الفلسطينية ابتداء من تمويل كازينوهات القمار في أريحا مرورا بالاستثمار في مضخات البترول ليس في المناطق الفلسطينية بل هناك ما وراء الخط الأخضر وصولا إلى رخص استراد الاسمنت من مصر للإسهام في بناء الجدار العازل الذي نسميه "ثورجية منا" جدار الفصل العنصري!.
عانى أبو الزّلف كثيرا من ذوي القربى وأهل الثورة العائدين من منفي تونس وبيروت وقبرص واليونان و.. و... وظلت صحيفته هي السيدة والقائدة، لقد كان يدرك أن شعبه الفلسطيني يرغب في الحقيقة لا غيرها وخصوصا أولئك الذين ظلوا يقارعون الاحتلال بأيد ورؤوس عارية لا يغطيها إلا غيمانهم بقدر شعبهم في المقارعة حتى انتزاع النصر بتسوية أو من دونها،، لقد كانت هموم الناس هنالك مختلفة وكان أبو الزلف يقرأ ذلك جيدا، لهذا شق على البعض أن يروه مقاتلا لا تلين له قناة، فاتهموه بالعمالة وظلوا وسيركبون رؤوسهم على ذات الموجة من الغي حتى يتبين لهم الرشد، وانا جازم أنه لن يتبين، مع التأكيد بأن أبو مروان رحل راشدا.
وإذ نودع فارسا جال ليس مترفا في بلاط صاحبة الجلالة، يحق لي اختطاف ما قاله صحافي إسرائيلي صادق الصحافي الراحل وعرفه عن كثب لسنوات طويلة، فهو يقول "رغم الرقابة الإسرائيلية التي ألغت أحيانا تقارير كاملة (زيادة علي الرقابة الذاتية لأبي الزلف) ظلت جريدة القدس لسنوات طويلة الناطق المستقل الوحيد عن الفلسطينيين في المناطق والقناة الوحيدة للإعراب عن احتجاجهم وآرائهم".
ويختم الصحافي الإسرائيلي اليساري يهودا ليطاني مقاله في (يديعوت آخرونوت) بقوله "بعد خمس سنوات من حرب الايام الستة توجه إليّ بطلب أن آخذه الي بيت عائلته علي طريق يافا ـ تل ابيب. تذّكره عدد من الجيران اليهود واحتضنوه بحرارة. لقد تأثر الي حد البكاء لمرأي البيت واستقبال جيرانه السابقين، وقال لي بعد الزيارة، إنه مستعد للتخلي عن طلبه لأملاك عائلته في اسرائيل، لقاء سلام حقيقي. لقد حدثني ذات مرة عن كوابيسه الليلية: في أحلامي، أكون دائما علي سفينة متأرجحة في وسط البحر، في الطريق من يافا التي احتلها اليهود من قريب، هناك زحام وشعور بالاختناق، ويبدو لي دائما ان السفينة توشك بعد قليل علي الغرق بموجة كبيرة توشك ان تنزعنا الي أعماق البحر. بعد ذلك استيقظ وأدرك أن ذلك كان حلما فقط"..
يا أستاذي الكبير الراحل ،، يا زميلي العميل، لقد كنت صلبا فلم تنكسر، وداعا.
- آخر تحديث :















التعليقات