حوار مع الباحث السعودي في جامعة هارفارد د. سليمان الهتلان ( 1- 3)

حاوره عبدالله المغلوث: لم يكن يعلم ذلك الفتي الصغير الذي يشق الصحراء ذهابا وإيابا، ويكتب بأصابعه على الرمال التي تتحرك ببطء تحته، أنه سيكتب بذات الأنامل في صحيفة نيويورك تايمز، سيحمل ذات الجسد الذي يتهادى خلف الأغنام التي يرعاها إلى جامعة هارفارد العريقة التي أصبح أحد باحثيها. "إختطف السعوديون طائراتنا وهاهم يختطفون صحافتنا". استقبله أميركيون بعبارات مناوئة عندما انتشر اسمه في صحفهم.مازال يتذكر الدكتور سليمان الهتلان أكتاف القرية التي كانيصعدها ليلا في جنوب السعودية ليرتل قصائده على مسامع حبيبته التي لم يرها حتى اللحظة. صور جده(جبران) تجول بحبور في ذاكرته هي و(الرشاش) الذي كان يحمله في الأعراس و(الجنبية) التي يحزمها بإخلاص على جسده. الباحث في قسم دراسات الشرق الأوسط بأحد ابرز المراكز التعليمية في أميركا تحدث لـ"ايلاف" عن صناديق مغلقة لا تدخلها الشمس و وادٍ أبيض لاينطفئ.

رقصة الوادي


" جانا الحيا جانا... ورش معزانا". هكذا كان يغني سليمان مع الأطفال عند استقبال المطر، طفولته حافلة، مأهولة بالكائنات الكثيرة، يستحضر الدكتور سليمان الماضي ويغني:" ولدت و نشأت في قرية قديمة جداً، ولد فيها جدي و أجداد جدي، قرية صغيرة في حجمها لكنها كبيرة بحكايات الناس الأولين و كفاحهم و عشقهم للحياة. طيبة الأولين في قريتي هزمت فقرهم و أكدت صمودهم".

بعينين واسعتين، وصدر مملوء بالحكايات والصور يتكلم عن مدرسته الأولى وجده الطويل: " ( الوادي الأبيض ) هي مدرستي الأولى و كان جدي ، جبران بن هتلان، رجل طويل القامة له هيبته، أول من علمني حب الأرض و محبة الناس. كان عملياً في رؤيته للدنيا و كان يحثنا دائماً على العمل. في القرية، يولد الأطفال كباراً يرعون الغنم و يعملون في المزارع بمجرد القدرة على الحركة".

قطرات العرق التي تسكن جبينه لم تجف بعد، هي والأشجار التي تتكاثر في أخيلته :"عملت، مثل أقراني في القرية، في المزرعة و رعيت الغنم و مشيت طويلاً حافي القدمين، و لبست ( الجنبية ) و رقصت الخطوة و حملت ( الرشاش ) في مناسبات الفرح في القرية و كنت مع الشباب الذين يتقدمون الصفوف في الأعراس لإطلاق الأعيرة النارية في السماء أمام الناس".

جنوب السعودية شأنها شأن سائر المناطق التي ترقد باطمئنان على الجزيرة العربية، تسهر مع القصائد المفخخة بالرغبات البريئة والعيون الكبيرة، يقول الهتلان :"في ( الوادي الأبيض ) حاولت أن أكتب أولى قصائدي في إحتفالية خجولة بقصة حب بريئة و مشيت حافياً إلى قرية قصية كي أنشد قصيدتي للحبيبة التي تمنيت أن أعشقها و لما أنهيت قصيدتي عرفت أنني كنت أنشد في الوجهة الخطأ. كنت أردد قصيدتي في الظلام". يتابع :" لم أر وجه من تمنيت أن أعشق. لم يكن أجدادي يخفون قصائدهم أو يلقونها في الظلام. أدركت بعد تلك المحاولة بسنوات أن سنين من الظلام القاتل قد سيطرت على القرية. لم يعد الظلام يمنح فرصة لأية قصيدة. ماتت القصائد قبل أن تلد كحالة إعلان صاخبة عن "نهاية القرية".


صحافة وكهرباء


سليمان الذي سافر إلى أميركا وغادرنا، يجري اسمه في شرايين صحافيين سعوديين شبان، يرون في حسه وحماسته مستقبلهم المخفور بأمنيات جمة تتناسل بتسارع حينما يلوح اسمه وقافلة قصيرة من الاسماء الصحافية الناصعة، كيف بدأت علاقته مع الصحافة؟ سؤال يتوسد الأحلام اليافعة المترامية الأطراف، يجيب الصحافي السابق في جريدة ( الرياض ): " في أوائل الثمانينيات، وصلت جريدة الجزيرة إلى سراة عبيدة حيث كانت مدرستي الثانوية. كان السيد صلاح، رجل سوداني طيب و متواضع، يمضي يومه كاملاً يقود سيارته من مكتب الجزيرة في أبها إلى سراة عبيدة و ظهران الجنوب ليوزع الجزيرة في بعض البقالات و محطات البنزين. كانت تلك الأيام هي أولى أيام إتصالنا بالإعلام المقروء. أنتظر بشغف قدوم الجزيرة و قد كانت، وقتها، أهم قناة عندي للإكتشاف".

ليس الهتلان وحده الذي يقتني ويهتم بـ صحيفة ( الجزيرة ) آنذاك، كان يتسابق عليها الجميع مع الجميع، يتابعونها بعناية فائقة، خالد المالك، عثمان العمير، عبدالرحمن الراشد، محمد التونسي وآخرون حققوا لتلك المطبوعة تاريخا زاخرا، مازال الجيل الجديد يتصفحه بشهية بالغة و يمني النفس في الحصول على أعداد الجزيرة في تلك الفترة التي لم تدم طويلاً.
يواصل سليمان الحديث عن ( الجزيرة ) بدقة: " أعجبت بصفحة يكتب فيها الناس مطالب مدنهم و قراهم فكتبت رسالة أطالب فيها لمنطقتي بكهرباء و دفاع مدني و هاتف و مستشفى. نشرت رسالتي في الجزيرة فأسست عشقاً و وهجاً خاصاً للكتابة و الصحافة. كنت أشتري الجريدة عند عودتي من المدرسة و ما أن أعود إلى القرية حتى أحمل كتبي و جريدتي و أمشي خلف غنمي إلى الجبال المحيطة ثم أبدأ في أمتع رحلة يومية و هي قراءة الجريدة صفحة صفحة، و زاوية زاوية ثم أبدأ في الكتابة". يناديه الكثير، يعبر اسمه بجوار المساجد الصغيرة والوجوه الأليفة، يستقر في فؤاده: " كان كثيرون من أبناء القرى و البادية في محيطي يبحثون عني كي أكتب معاريضهم أو أنشر مطالبهم. و قد كانت تلك هي النواة الأولى لإدراك مسئولية الكتابة".


الكتابة عن بعد


ارتبط الدكتور سليمان بعلاقة طويلة مع جريدة ( الرياض ) التي نقشت اسمه على جدران الذاكرة،اختفى فجأة عن صفحاتها، لماذا تآكلت الجسور التي ربطتهما؟ يجيب الهتلان على سؤال "إيلاف" قائلا : "حاولت ألا يحدث الإنفصال لكنه حدث. أدركت بعدها أنني كنت أدفن نفسي في نفق يدفنك و لا يمكنه أن يقودك إلى نقطة ضوء. أعتز بتجربة العمل الأولى مع الرياض يوم كنت أقضي يومي كاملاً في الجريدة: أكتب و أجري مقابلات و أحرر بعض الصفحات".
وجوه مضيئة، تفترس الظلام وتستفحل بياضا في ذاكرة سليمان الصحافية، يفسرها: " سوف تظل أعداد ( الرياض ) ما بين 1988 و 1991 شاهداً على حجم الجهد و الكفاح الذي بذلته في صحيفة الرياض التي عشقتها كما لو كانت الجريدة الوحيدة التي تصدر في الشرق كله. أعتز بتجربة العمل مع نخبة صحفية في الرياض ممن تعلمت منهم الكثير من أمثال محمد أبا حسين و سلطان البازعي و قائمة طويلة من الزملاء النبلاء من أمثال هاني وفا و سليمان الناصر و محمد السليمان و سالم الغامدي و آخرين. في عام 1991، كان علي أن أرحل".
لماذا؟ بمحاذاتها تماماعلامة استفهام فارعة تستند على أقدامٍ كثيرة، يواجهها : " كنت أبحث عن فرصة لدراسة اللغة في أميركا. كانت الجريدة تبعث بعض محرريها لدراسة اللغة الإنجليزية لسنة أو سنتين و كنت قد وعدتّ أن تتاح لي فرصة الدراسة في أميركا لسنة واحدة على الأقل. لم يحن دوري أبداً و لما يئست، قررت الرحيل و رحلت. بعدها بسنوات، عادت العلاقة مع الرياض من واشنطن و ليتها لم تعد. كانت تجربة بائسة كأنها تدفعك أن "تشحذ" كي تنشر مقالاً أو تجري حواراً".
يضيف: " كان نشر مقال واحد في الرياض يكلف عشرات الإتصالات و الرسائل إلى رئيس التحرير. حرمني وفائي و إلتزامي الأدبي و عشقي للرياض من أكثر من فرصة صحافية جادة في واشنطن بدأت بعرض لإدارة مكتب الشرق الأوسط في واشنطن و إتصالات مع محطة الجزيرة لإعداد برامج وثائقية و مقابلات تلفزيونية من أميركا. رفضت قبول أي عرض آخر وفاءً لعلاقتي المتذبذبة – للأسف – مع الرياض. حين عدت إلى بلادي، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، 2001، و كنت وقتها ما زلت أفكر جدياً في العودة إلى أميركا، حاولت توثيق العلاقة من جديد مع الرياض، و لم أفلح".
ألا تحن إليها؟ يجيب الكاتب الصحافي: " بصدق: لا. لقد تعلمت من تجارب سابقه إنه إذا حان موعد الرحيل فما علي سوى الإنطلاق نحو الوجهة الجديدة دون أن أشغل نفسي بالنظر إلى الخلف".


حكاية الإختطاف

تفتقر الصحف الأميركية الى كتاب سعوديين يبررون ويدافعون عن وطنهم بعد سبتمبر الأسود، هل كان ذلك مبررا وجيها لصحف كنيويورك تايمز و واشنطن بوست وغيرهما لاستقطاب الهتلان كاتبا؟ يرد الدكتور سليمان : "لم تسع النيويورك تايمز و لا البوست لإستقطابي بل سعيت بنفسي إليهما. كنت منذ أيامي الأولى في أميركا أدرك حجم الدور الذي تلعبه الصحافة في صناعة الرأي العام الأميركي و في التأثير على القرار السياسي أيضاً. جاءت أحداث سبتمبر و ذكرتني نظرات الناس و دعواتهم لي للحديث عن بلادي و ثقافة مجتمعي بمسؤوليتي. كان لا بد من الفعل. كتبت مقالي الأول في الـ USA Today واسعة الإنتشار".
ماذا كتب في مقالته الأولى؟ : "كنت أحكي تجربة خاصة هي عودتي إلى مقر إقامتي في بوسطن و إلى دراستي في جامعة هارفارد بعد كارثة سبتمبر. فوجئت بردود فعل واسعة على مقالي. جاءتني عشرات الرسائل من قراء في أميركا و خارجها ما بين مرحب بمقالي و محتج عليه. كنت أحكي تجربة شخصية حقيقية". كيف تعاطت معها الجريدة و ماردة فعل المتلقي؟ أجاب الهتلان: " أعطيت مساحة كبيرة في صفحة الرأي و هذا ما أغضب البعض هناك ممن كتب: "إختطف السعوديون طائراتنا و هاهم يختطفون صحافتنا". واصلت بعدها الكتابة في اليو إس إيه توداي ثم في الواشنطن بوست و النيويورك تايمز و بالتمور صن و ميامي هيرالد و نشرت حواراً قصيراً – ضمن مقالي – مع سمو ولي العهد السعودي في صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكال تزامناً مع لقاء سموه بالرئيس الأمريكي في تكساس قبل سنتين و مازلت أكتب من وقت لآخر للصحافة الأمريكية".
سعوديون ينصرفون عن الكتابة في الصحف الأميركية، مالسبب رغم مقدرتهم الكتابية؟ يعلق الكاتب الصحافي والباحث السعودي لـ"ايلاف": "لكنني لا ألوم السعوديين المقتدرين على الكتابة باللغة الإنجليزية و لا يكتبون لأن الكتابة في الصحافة الأمريكية مغامرة خطيرة في ظل هوس بعض أجهزة الرقابة البليدة عندنا بمتابعة كل ما يكتبه أو يقوله السعوديين في الخارج". يستشهد بموقف شخصي: "في عام 1995 بعث لي الدكتور حمد السلوم، و كان وقتها الملحق الثقافي في واشنطن، برسالة رسمية يهددني فيها بقطع بعثتي و إعادتي إلى بلادي إن لم أتوقف عن الكتابة في صحيفة البارثنون بغرب فرجينيا التي أتاحت لي فرصة التدريب و العمل و كنت و قتها أدرس الماجستير في كلية الصحافة بجامعة مارشال و التدريب الصحافي كان من أساسيات دراسة الصحافة المطبوعة".
يمتدح الهتلان تعاطي القيادة السعودية وكتاباته و يحكي أيضاً عن الأصدقاء بعد توغله في الصحف الأميركية: " بعد أن بدأت أكتب عن الشأن السعودي و قضايا عربية أخرى في صحف أمريكية كبرى مثل الواشنطن بوست، نشرت مقالات لبعض كتابنا—و بعضهم للأسف كان من الزملاء السابقين -- تشكك في و تحذر من مقاصدي و تكاد تطعن في وطنيتي و إنتمائي. في المقابل، كان التفاعل مع كتاباتي و الإحتفاء بحضوري داخل أمريكا نفسها و كذلك تفاعل الأصدقاء في المملكة مع كتاباتي حوافز للإستمرار". يتابع : " كان ترحيب عدد كبير من رموز القيادة السعودية بكثير من الأفكار التي أكتبها داخل بلادي و خارجها من أهم أسباب إصراري على الكتابة الناقدة و التي تحث على "نقد الذات" في الداخل و في الخارج لأن الكتابة الناقدة – في نهاية المطاف – تظل حاجة ملحة لمجتمعنا في ظل هيمنة مدرسة فكرية أحادية تحرض على العنف و على كره الآخر و تجاهل حقيقة التعدد المذهبي والتعدد الفكري في مجتمعنا".

يتبع