مستشار الرئيس الأميركي والسفير السابق د. سام زاخم في حوار شامل لـ ( ايلاف ) : (1-3 )
هل مات أبي لأني سافرت الى أميركا؟


حاوره عبدالله المغلوث:تلمع ساعة رولكس ذهبية على معصمه وخارطة العالم على وجهه،تزدحم القصص في عيني سفير أميركا السابق بالبحرين الدكتور سام زاخم ( 69 ) عاماً: "قضيت أجمل أيام حياتي في المنامة، ألعب أسبوعياً التنس الأرضي مع عاهل البحرين الملك حمد عندما كان وليا للعهد، بساطة وتواضع كبيرين وجدتهما أثناء عملي في الخليج، الأبواب والقلوب لاتغمض هناك". وجوه حكام عرب وعجم تبتسم على جدران مكتبه وفي أعماقه، يحتفظ بها جنبا إلى جنب بمحاذاة صناديق سوداء لاتتنفس! الدكتور سام الذي رفض تولي إدارة سفارة أميركا في بيروت متعللا: "لاأود أن أخسر أمي أو زوجتي، أريد أن أحتفظ بهما؟". مستشار الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان والسفير السابق يروي لـ ( ايلاف ) في 3 حلقات علاقته بواشنطن وحرب الخليج الأولى والحكام والسفراء العرب... يتناول زاخم وجبة عشائه ودوائه ويتدفق...

عبدالناصر والحقائب

ينحدر الدكتور سام زاخم من أصل لبناني، ولد وترعرع في طرابلس التي استمد منها بياضه الفاقع، والموسيقى التي تستفحل في أجزائها وخلاياه، لبنان التي درس في أرجائها المراحل التعليمية الأولى، وطبعت على وجهه ألحانا خالدة، جعلت من يشاهده لايفرق بينه والموسيقار اللبناني الراحل زكي ناصيف-أغنيته الشهيرة (راجع يتعمرلبنان)- الذي غادرنا وترك سام ولبنانيون مازالوا يشقون طريقهم بثبات بإتجاه القمة، أين تابع زاخم دراسته، إلى أين حمل جسده الصلب وحقائبه المملوءة بالأحلام؟يقول لـ ( ايلاف) "سافرت إلى القاهرة عام 1955م، التحقت بالجامعة الأميركية، استمتعت جدا بأيامي، ترأست اتحاد الطلاب العرب، لاأنسى زملائي حينها محمد ابو نوار، فاروق قدومي، حسين حمامي، أسماء كثيرة تدور بجوار ذاكرتي، استطيع التقاط بعضها، وأهدر أخرى، اخشى أن لاأمسك الأسماء بدقة، اغفروا لي".
كيف كانت القاهرة آنذاك؟ يستنشق، يعبئ صدره بهواء جديد، يهطل: "يالله،عظيمة تلك الأيام، عبدالناصر كان فارسنا، رجلنا الأول، عندما يمر بالقرب من الجامعة ويلوح بيده نقضي بقية اليوم في التعليق على عبوره، واللحظات الطفيفة التي أودع فيها نظراته في وجوهنا،كل شيء كان عبدالناصر في ذلك الوقت، يلتصق في دفاترنا، لافتاتنا، وداخلنا أيضا".
بعد أن تخرج بتفوق من القاهرة، وحصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد،ثابر نحو الارتحال الى روسيا ، تلك التي تغلغت والشيوعية في أوعية شبان ذلك الحين خاصة بعد حرب 1956م، يتحدث سام عن محاولته والقرار الأخير: "كنت أتطلع الى الذهاب الى روسيا، لكن والدي أصر أن تكون وجهتي أميركا، أخمد رغبتي وحققتُ رغبته".

هل كنت وراء موت أبي؟


لملم سام حزنه المبعثر وبقيته وذهب إلى أميركا، ترافقه دعوات أمه التي دستها بين أغراضه: "وصلت نيويورك في غرة يناير عام 1958م ومنها الى ديترويت التي دخلت جامعتها، درست الماجستير في إدارة الأعمال، بدأت أتأقلم مع البلد الجديد، وتتبدل قناعتي شيئا فشيئا".
وأضاف: "العمل السياسي شغلني حينها، رشحت لرئاسة جمعية الطلاب العرب في الجامعة، ساهمت في حملات مناهضة لاسرائيل، شعار تنظيم ( فتح ) الفلسطيني لايفارق صدري آنذاك".
في عام 1962م، وقع سام في غرام فتاة أميركية، تمتزج عبرته وابتسامة صغيرة: "عندما علم والدي بالنبأ،أوقف دعمه المالي فورا، لم استطع استكمال الدكتوراة في الاقتصاد في ولاية ميتشغان الأميركية التي انتقلت إليها بعد تخرجي من ديترويت، قال لي أبي بإقتضاب صارخ: لن تتزوج فتاة أميركية، لايجب أن تفكر في غير لبنانية، احزم حقائبك وعد فورا إلى طرابلس".
هل عدت فعلا؟ يجيب على ( ايلاف ): "نعم عدت مضرحا بآلامي، أبي صارم ولايتراجع عن قرارته".
وماذا عن دراستك؟ يرد: "تركتها ومن وقعت في غرامها، جئت وعملت في مدراس مختلفة لتدريس اللغة الانجليزية، مكثت في لبنان نحو عامين كانت حبلى بالفقد، لكن بصعوبة بالغة عدتُ الى أميركا، بعد 3 أيام من مغادرتي لبنان مات أبي،لاأعلم حتى اللحظة اذا كنتُ سببا في وفاته أم لأ".


هبوط وحواجز


يصارع زاخم دموعه، تهبط نظراته الى الأسفل، ويتابع على مضض: " وقفة أبي الروحي وزير خارجية لبنان السابق حميد فرنجية أزالت ارهاصات وفاة أبي، انطلقت في أنحاء أميركا بـ 23 دولار في جيبي وحزن أحمله على كتفي، لم أرغب في العودة الى ميتشغان ولا لقاء حبيبتي السابقة، أفتش عن حياة جديدة، لاتحمل تاريخا ومخالبا تجرحني بين فينة وأخرى، بدون مقدمات وجدتني في ولاية كلورادو-غرب أميركا- في طريقي إلى كاليفورنيا، أحببتها باكرا بعد أن انتشرت في عروقها بسهولة وارتياح فائقين، جذبتني سهولها وجبالها المشابهة للجبال اللبنانية بوعورتها ورقتها، بنظراتها الدافئة ودموعها التي تبلل أطرافها".

ولعه بكلورادو يذكره بالحب من النظرة الأولى: "مادفعني الى حب أميركا، هو النظام المدهش الذي تلبسه وينعكس على كل التفاصيل، تنتنقل بين الولايات دون ان يوفقك أحد ويطلب هويتك، أو يهديك نظرات إزدراء قاسية، في لبنان بلدي الأصلي ، استعرض هويتي مئات المرات أمام الحواجز الأمنية، أتنقل ببطء وحذر يمتص زخات الفرح القليلة التي تسقط على أجزائي!".
23 دولار وحب يتدفق في داخله لايكفي لمعيشة طيبة ولباس يستر على طموحاته وجسده، كيف تابع دراسته و وفر طعامه وغطى جلده بعد أن فقد والده والرغبة في العودة الى وطنه الأم خالي الوفاض؟ يستدعي التفاصيل: "وجودي بتأشيرة طالب داخل أميركا لايسمح لي نظاميا في العمل خارج حرم الجامعة، ماجعلني انغمس في أعمال مختلفة في أمعائها، عملت ممرضا في مشفى الكلية بالاضافة الى حراسة المباني ليلا، ترافقني كتبي أثناء عملي، لاأنام الا ساعات طفيفة، لكن كنت مملوءا بالسعادة، كلما انهمر عرقي ازددت حماسة وتحديا".


سعوديون وفوز كاسح


نبوغه يظهر جليا في عينيه، الحراسة وتنظيف المكاتب الجامعية والعمل ممرضا مهن لم تخلق من أجله وفق روايات أساتذته الذين طرزوا الصفحات الأميركية بإنطباعاتهم عن زاخم بعد ان اصبح سيناتور ومن ثم مستتشارا لريغان فسفيرا لأميركا، سؤال جائع يرتدي بزة رسمية، ويعتمر ارتياحا شديداً: كيف انتقلت من المهن البسيطة الى أخرى جعلتك وسط رجال السياسة وصناع القرار في أميركا؟ يضحك، يفتح محفظته ويخرج صورة حفيده ماكس-عام و8 شهور- يقبله ويستورد منه طاقة هائلة : "أثناء عملي حارسا كنت طالبا في برنامج الدكتوراه بقسم العلوم السياسية في جامعة كلورادو ببولدر، أساتذتي شجعوني كثيرا على التدريس، فرشوا الطريق بالورود واصبحت معلما في القسم، أذكر عددا كبيرا من الطلاب العرب الذين درستهم مثل: وزير الاتصالات السعودي السابق الدكتور علوي درويش كيال وشقيقه محي الدين كيال وزوجتيهما هدى وهند، وزهير فايز-قريب وزير البترول السابق هشام ناظر-ولائحة غير قصيرة من الأمراء السعوديين".
تتكلم عن علاقة حميمة بسعوديين، ألم يفروا منك كونك غير مسلم مثلهم؟ أجاب: "بالعكس، جمعتنا أشياء كثيرة غير حب الأرز وفلسطين، استقطبت علوي ليعمل مساعدا لي، يصحح بعض الأوراق ويجهز بعض المحاضرات بعد ان قرأت فطنته، كنت أتبادل الزيارات العائلية وأكثر من سعودي بحرص".
هل مازلت تتواصل مع علوي مثلا؟: " توقفت منذ زمن الاتصال به".
هل بالامكان معرفة السبب" : "لست بحاجة الى ذكره، اعذرني".
ومارأيك بالمسلمين؟: " سأروي لك لاحقا قصصا جمعتني بعاهل البحرين الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وابنه خليفة ووزير الخارجية محمد بن مبارك آل خليفة، أيضا عن الأمير بندر بن سلطان و الدكتور غازي القصيبي، الدين بين العبد وربه، مايهمني هو علاقة الآخر مع الآخر كيف يحترمه ويتعاطى معه، مسلمون كثر أرتاج لهم ومازلنا نلتقي".
قبل أن ننخرط في قصصك، ماسبب اتجاهك الى السياسة، وكيف توغلت في الوسط الجمهوري رغم لبنانيتك؟ يبتسم وينسكب الحديث: " تخصصي في السياسة، ساعدني على قراءة الواقع بشكل أكثر وعيا، انسجمت والحزب الجمهوري، كنت مع حرب فيتنام، ظهرت فعالا على المنابر والأمسيات الخطابية، التقطني الجمهوريين وشجعوني، جونسون عراب الحزب في المنطقة وجوزيف كورز كان لهما ابلغ الأثر في مسيرتي ونموي سياسيا، ترشحت لمجلس الولاية عام 1974م وانتصرت بعدد هائل يقدر بنحو 368 ألف صوت". وأردف: "بفضل زوجتي مارليند سكرتيرة النادي العربي في الجامعة آنذاك حصلت على الجنسية والأمل، من الحري أن أشير الى اسمها وأردده كثيرا في هذا السياق".


الوصول الى البيت الأبيض

البيت الأبيض، الأكثر دهشة وغرابة، من أرشدك إليه؟ من بوصلتك؟ يرد الدكتور سام على ( إيلاف ): " كافحت حتى أثبت جدارتي، كنت سياسيا ناشطا، أُنتخبت عام 1978م سيناتور ممثلا لـ كلورادو، كورز الذكي وأحد أصدقاء وداعمي الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان كان يتابعني، رشحني للعمل مستشارا في البيت الأبيض، وافق الراحل ريغان بعد دراسة متأنية لسجلي التعليمي والسياسي، جلست معه كثيرا، رشحني لادارة سفارة أميركا في لبنان فرفضت".
لماذا؟ :" لاأود أن أخسر أمي أو زوجتي، أريد أن أحتفظ بهما؟".
كيف؟ يعلق بإيجاز: "السياسة شديدة الخطورة، عندما أمثل أميركا كسفير يجب أن تكون دولتي التي عينتي أولى اهتمامي، عليّ أن أتجرد من جذوري أحيانا في سبيل مصالح البلد الذي ييبعثني".
هل اخترت بديلا؟ يجيب: "طلبت أن أذهب الى الامارات العربية المتحدة لألعب الطاولة مع شقيقي الذي كان يعمل في الشارقة آنذاك!".


يتبع

[email protected]