لقاء مع المفكر د. فهمي جدعان (2/2)

حاوره موسى برهومة: يعد المفكر د. فهمي جدعان واحدا من أبرز المفكرين العرب الذين اختاروا أن يشتغلوا على مشروعهم التنويري بعيداً عن دائرة الضوء، فحفروا عميقاً في تربة الفكر العربي المعاصر، والفلسفة الإسلامية، لينتقل، من بعد، في مؤلفاته الأخيرة لصياغة منظومة مفاهيمية لاستشراف ملامح المستقبل العربي. هنا الجزء الثاني والأخير من لقائنا معه:

قلتَ غير مرة بأن الخلل والعطب ليسا في العقل العربي.. وإنما في الفعل العربي، ولكن هل الفعل إلا صدى العقل ودينامياته الفاعلة؟
- نعم قلت ذلك أكثر من مرة، وتكلمت أيضا على مفارقة الفعل للعقل، لأن الفعل ليس دوما صدى للعقل ودينامياته الفاعلة، إذ يمكن أن يكون هناك طلاق بين الأمرين، وذلك حين يتنكر الفرد للعقل ويجري خلف قواه الغريزية، أو الانفعالية أو مطالبه النفعية وغاياته الذرائعية.
أنا أتشبث بهذه المزاعم جميعا، بيْد أنني، والحق يقال، ألاحظ الآن أن انتشار ( العقل الليبرالي) والثقافة الليبرالية السوقية – أعني الثقافة المرتبطة باقتصاد السوق الحر وبالعولمة الثقافية – قد بدءا يقرّبان بين العقل وبين الفعل، بمعنى أن الإيمان بآليات الفكر الليبرالي السوقي بات يولّد أفعالا مساوقة لهذه المنظومة في شتى مناحي الحياة الفكرية والأدبية والفنية والعملية. ونتيجة ذلك أننا أصبحنا نشهد مزيدا من الفساد الأخلاقي والعملي في حيانتا الشخصية والعامة. إن قوة الليبرالية - وخطرها في الآن نفسه- كامنان في قدرتها على التأثير المادي، وذلك بسبب تجذرها في عدد من المطالب الفردانية المشخصة والمادية، وذلك واضح في التجسدات الاقتصادية والسياسية والفنية والأخلاقية.

إلى أي مدى تعتقد أن القراء العرب ينفرون من الأعمال الجدية، ولا يتحملونها، ويفضلون عليها ما هو عادي ومألوف، وهل يعني هذا أننا نعيش عصر الوجبات السريعة في الثقافة والمعرفة والفن؟
- لست أشك في أن القاريء العربي، على وجه العموم، قد ألف الكتابات اليسيرة التناول واعتاد النصوص التي لا تحوج إلى كثير من التأمل والفحص والتدقيق والمراجعة، وهو يفضل الكتاب الذين يقدمون له أفكارا بسيطة جاهزة واضحة، وهذا في حقيقة الأمر حق له، إذ لا يجوز أن نثقل عليه بنصوص ملغزة لا تسمح له أدواته المعرفية بالولوج إليها وإدراك كنهها، لكن المشكلات والقضايا الكبرى – أيا كانت طبيعتها فلسفية أم اقتصادية أم اجتماعية أم أخلاقية- تشتمل على وجوه تقنية دقيقة، وهذا يتطلب تحليلات معمقة لا يتيسر دوما تقديمها بلغة وأسلوب "عاديين".
إن ما نسميه بالثقافة أو المعرفة " العالمة " يظل الأساس الصلب أو القاعدة الثابتة لأي تنظيم معرفي أو عملي. بالطبع ليس مطلوبا من القراء أن يتوجهوا إلى " الثقافة العالمة " لكن أي قول أو تداول أو نقاش في القضايا المركزية يشترط مثل هذه المعرفة أو الثقافة. وهذا يعني أن على القاريء العادي إن أراد أن يسهم إسهاما حقيقيا في " التداول الثقافي العام" أن يطور ملكاته وأدواته وخبراته، بحيث يكون قادرا على تمثّل المفاهيم والآليات التي تستند إليها الثقافة العالمة، كما أن على الكاتب نفسه أن يتوخى العمق فيما يكتب، وأن لا يخلّ بمبدأ الوضوح في الوقت نفسه.
أما أننا نعيش في عصر الوجبات السريعة في الثقافة والمعرفة والفن، فلا أعتقد أن ذلك تشخيص دقيق. لا شك في أن الظاهرة ماثلة في أعمال الكثيرين في حقول الثقافة والفن والأدب، لكن المشهد العام حافل بما يضاد هذه الظاهرة، ويشخص مثال جليا للفكر الرصين والأدب الرفيع والفن الذي يتحرّج أن يعبر عن نفسه في أقنية مثل أقنية " مزيكا " و" دريم " و" روتانا "...

- هل ما تزال تراهن على أن العالم العربي يحتاج بالدرجة الأولى إلى اشاعة عدد من القيم التنويرية والمدنية الحديثة التي تحمل بالضرورة تغييرا في عدد كبير من البنى التاريخية الفجة، وتجذير هذه القيم وتجسيدها. وما هي الروافع الكفيلة بعدم صيرورة هذا الأمر حلما طوباويا؟.
بكل تأكيد، وهذه قضية لا جدال فيها على الإطلاق. إن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية – بمنظور اجتماعي إنساني- وجملة القيم المدنية الأساسية، هي قيم لا يمكن التنازل عنها. والفكر العربي الحديث مسكون بهذه القيم قبل الدعاوى الخارجية الجديدة بزمن بعيد.
وإشاعة هذه القيم وتجذيرها هما الكفيلان بتحقيق تغيير أساسي وتقدم ملموس في الحياة العربية الشاملة. ولماذا تكون هذه القيم طوباوية؟ إن مزيدا من النقد والتنوير والضغط والنقاش والتداول يسمح بفتح الأبواب أمام هذه القيم وعيشها شيئا فشيئا، لكن علينا أولا أن (نؤمن) بأن هذه القيم هي على وجه التحديد ما نحتاج إليه للخروج من " الورطة التاريخية" التي نحن واقعون في براثنها، ثم إن علينا أن (نريد) هذه القيم ونطلبها، لأنها تأذن بقرب الخلاص، وأخيرا أن (نعمل) جميعا : مفكرين ومثقفين ومبدعين ونشطين اجتماعيين ومؤسسات مدنية واجتماعية من أجل (إقناع) السلطات السياسية بضرورة الأخذ بهذه القيم وتجذيرها وإشاعتها. أعتقد أن هذا ليس حلما " طوباويا ".. وإذا كان كذلك فعلا، فإن الواقع كارثيّ !

في كتبك الأخيرة بدا أنك تستشعر خطرا داهما يحدق بالمجتمع العربي، كما يبدو كما لو أنك تدقّ بعنف جدران الخزان، ولكن هل ثمة من مصغ ٍ أو مجيب؟
- هذا صحيح. واليوم لست أنا وحدي الذي يستشعر الخطر، وإنما أصبح ذلك هاجس الجميع. أنظر ما الذي يحدث في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان من المَواطن العربية. الدولة العربية " التقليدية " نفسها تستشعر هي أيضا وجوه الخطر، إذ لم تعد تبعيتها التاريخية لقوى الهيمنة الخارجية تحميها من " أصدقائها " التقليديين الذين لا يقدمون على مصالحهم ومنافعهم الخاصة أية مصلحة لأي أحد، وقد آن الأوان لهذه الدولة أن تعلم أن خلاصها لن يكون إلا بأيدي أبنائها، ولن يحميها من غدر القوى الخارجية إلا شعوبها وحدها، وليس عليها إلا أن تفتح أبواب الحرية والحقوق الأساسية للمواطنين لكي يكونوا حماتها الحقيقيين، ولكي تسترد كرامتها وعزّتها، وتكتسب احترام العالم بعد أن فقدت هذا الاحترام كلية، وأصبحت هي وشعوبها محط َ احتقار وازدراء وامتهان في كل مكان في العالم.

في أزمنة اليأس نرى أن المثقف العربي أو السياسي العربي يطالب بالتغيير ويهلل له حتى لو كان جاء التغيير على ظهر دبابة أميركية، وثمة من يقول إن إسقاط نظام صدام حسين يعد أعظم إنجاز قدمته أميركا للبشرية. ما تعليقك؟
- أزمنة اليأس أزمنة لا يقاس عليها. والأصل أن تكون أزمنة " شاذة " لكن امتدادها الزمني التاريخي يزوّد أحكامها بمنطق صحيح ظاهريا، لكنه فاسد جوهريا. لا شك أن أحوال الاستبداد والظلم والفساد والتخلف والقهر في الأقطار العربية قد طال أمدها، وبات التخلف يحسب بالقرون. ولأسباب ليس هنا مكان التوسع في تحليلها لم تقابل هذه الأحوال بما قوبلت به نظائرها في الغرب فانتهت الأمور إلى ما انتهت إليه وتجذر اليأس في النفوس. بالطبع أنا لست أبدا ممن يهللون للتغيير الآتي على ظهر دبابة أميركية، لأن الدبابة الأميركية لا تأتي من أجل خلاصي أو من أجل خيرنا الخاص أو العام، وإنما من أجل غايات مختلفة تماما لا يحمل أي منها أي خير لنا على الإطلاق.
أما أن يمثل إسقاط نظام صدام حسين أعظم إنجاز قدمته أميركا للبشرية، فقول لا يخلو من المبالغة، لأن نظام صدام حسين لم يمثل خطرا على أميركا والعالم، وإنما على شعبه ووطنه بالدرجة الأولى، ولست أعتقد أبدا أن أميركا أسقطت نظامه لأنها حريصة على " حرية" العراق وعلى تعليم العراقيين وبقية العرب الديمقراطية والحرية.. فذلك قميص عثمان ليس إلا.. ولا يصدق تلك الدعوى إلا الساذج، والمسألة بديهية لا تحتاج إلى كثير تعليق.

في مقدمة كتابك الأخير ( رياح العصر) تساءلتَ عن أسباب تحوّل الإسلام " بما هو دين سماوي حضاري ذو قداسة لا يطالها الجرح والتشكيك والثلم، إلى حركة سياسية " وهذا ما نراه الآن متجسدا على الأرض، وخصوصا في العراق، حيث يشكل الإسلام لدى بعض الجماعات ستارا لارتكاب أبشع الفظاعات، وهو ما ألحق بالإسلام صفات العنف والهمجية. ألا ترى أن تجلية هذه الصورة والحد من غلوائها يحتاج إلى، بداية، إلى (ثورة) في عقول الفقهاء ورجال الدين وعلماء المسلمين؟
لست أشك في أن تكثيف الرسالة الدينية الإسلامية في " حركة سياسية " خالصة قد ألحق أضرارا بالغة بالإسلام، وهي أضرار امتدت لتطاول كل المسلمين في كل مكان. ولست أشك أيضا في أن " القراءة الجهادية " أو " النضالية " للإسلام – سواء أكان ذلك في الدوائر المحلية أم في المجال العالمي – قد أفرزت " صورة عدوانية " للإسلام ترتب عليها، مثلما هو واضح لكل أحد، تخطيط عدائي لكل ما يمتّ إلى الإسلام والمسلمين بصلة.
أنا لا أعتقد أن تعديل الصورة يتم بإحداث ( ثورة) في عقول الفقهاء ورجال الدين والعلماء المسلمين، لأن مثل هذه الثورة في هذه العقول غير ممكنة أصلا، فهي عقول قد تشكلت وفقا لمقولات تنتمي إلى ظروف تاريخية سابقة، ويتعذر الآن إعادة تشكيلها. ألا ترى أن منطق علماء الدين المسلمين الذين يعبرون عن آرائهم في الأقنية الفضائية التي تمولها بعض الأنظمة ذات الطبيعة الدينية التقليدية ما يزال هو هو برغم كل ما حدث ويحدث؟
الثورة ينبغي أن تحدث في عقول الأجيال الجديدة وفي النظم التربوية والدعوية، وفي تكثيف الاستراتيجيات المعرفية التنويرية في كل الفضاءات الثقافية والمعرفية والعلمية والروحية.. وبالطبع، أيضا، في الحد من السلطات التي تتمتع بها القوى الدينية التقليدية في عالم التربية والتعليم والثقافة والإعلام، وفي تشجيع وتقوية تيارات التنوير في الفضاءات الدينية الإسلامية وفي الثقافة العربية على وجه العموم.

ثمة في هذا الخصوص من يبشّر بصدام حضارات مقبل، والحديث هنا يتصل بالصدام بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية، وهناك من يقلل من شأن ذلك فيرى أن الصراع إنما هو، وحسب، صراع مع تيارات أصولية راديكالية، وثمة من يعتبر أن الصراع لا يعدو أن يكون صراع ثقافات. فعمّ سيفضي هذا الصراع في سائر وجوهه؟

- ما يحدث واقعيا هو مزيج من هذه الوجوه جميعا.. ثمة، هنا وهناك، من يتمثل هذه الحالة أو تلك، ويتصرف وفقا لهذا التمثل أو ذاك. والقضية التي أنا مقتنع بها الآن هي أن الغائية الأساسية لأوضاع (التقابل) الحالية من منظور ما أسميه الليبرالية الديمقراطية في صيغتها العولمية الجديدة، تتمثل في رد عالم العرب والإسلام إلى أعظم قدر من الضعف والتضاؤل وانعدام الفاعلية والمعنى. أما من منظور التيارات الإسلامية والتيارات المضادة، فلا أتبين أي مخطط يمكن أن يفضي إلى نتائج ذات جدوى محققة.
ههنا "المقاصد" و"النوايا" تفصح عن نفسها من دون نظام وتخطيط، وتفتقر إلى كل مقومات النجاح : الوسائل، والفاعلية، والعقلانية الموضوعية والأداتية. وفي اعتقادي أن الأضرار التي ستلحق بالإسلام والعرب ستكون عظيمة جدا إذا ما استقلت الحركات الراديكالية بالفعل.
تعكف الآن على توثيق سيرتك الذاتية من خلال اندغامها مع تشكل مظاهر الوعي السياسي والثقافي العربي منذ منتصف القرن الماضي، والإطلالة على أبرز التحولات وأثرها في الذات المفردة والذات الجمعية. كيف ستتناول هذا الحشد الهائل من التفاصيل، وما التقنيات الفنية التي ستتوسل بها؟
هذا مشروع للمستقبل، وستكون السيرة " سيرة غير ذاتية ".. أما تقنيات المشروع، إن قدر لي أن أنجزه، فستكون : معطيات العصر، ووثائق ووقائع الحياة والأحداث الذاتية والعامة، و(أنا).


ما جديدك المعرفي الآن؟
- ما الجوهري الآن؟.. في كتاب طبعا.


[email protected]

الصور خاصة بـ (إيلاف) بعدسة نادر داود