يقول الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، إنه يشجب الحصانة الدولية التي تتمتع بها الدولة العبرية. وهو محق في هذا، لكن فقط من باب أن ما قاله لا يتجاوز نطاق أضعف الإيمان. وحتى من هذه الزاوية فإن موقف الأمين تنقصه الدقة، وربما الأمانة أيضا. فالحصانة التي أخذت الدولة العبرية تتمتع بها مؤخرا ليست حصانة دولية وحسب، بل هي حصانة لها سحنة عربية كذلك. وإذا كانت الحصانة الدولية تمنح للدولة اليهودية من منطلق سياسي من خلال الصمت المطبق الذي يكتنف المجتمع الدولي أمام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من مجازر، وانتهاكات متواصلة على يد "جيش الدفاع الإسرائيلي"، فإن الحصانة العربية تمنح أيضا للدولة اليهودية من خلال الآلية السياسية نفسها، أي آلية الصمت. لاحظ مثلا أن قرار الجامعة الأخير بالطلب من مجلس الأمن الدولي بالتدخل لوقف المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني صدر عن مؤسسة الجامعة وليس عن الدول العربية فرادة أو مجتمعة.
السؤال الذي قد يواجهه موقف الجامعة هو: لماذا يطلب من المجتمع الدولي أن يكون عربيا أكثر من العرب أنفسهم؟ كأن الدول العربية، وبعضها على وجه التحديد، تحتمي بالصمت من ناحية اتقاء غضب الدولة العظمى، الولايات المتحدة، صاحبة المساعدات المالية والعسكرية، وصاحبة الحمايات الأمنية، والوجود العسكري المنتشر في المنطقة. ومن ناحية ثانية تحاول هذه الدول اتقاء غضب شعوبها بترك مهمة الاحتجاج وتسجيل الموقف لمؤسسة الجامعة. والدول العربية تعرف مسبقا بأن الجامعة لا تستطيع أن تفعل شيئا ذا بال. وتعرف كذلك أن مجلس الأمن دونه الفيتو الأميركي. وتعرف أيضا أن أحد مرتكزات السياسة الأميركية في المنطقة هو حماية إسرائيل من الأمم المتحدة. وإذا كانت أميركا استخدمت الفيتو بشكل مستمر في وجه أي قرار يحمل شيئا من الشجب أو الاستنكار للسياسة الإسرائيلية في الأيام العادية، فإن موسم الانتخابات الأميركي لا يترك مجالا لغير الفيتو، لأن هذه الانتخابات هي موسم للمزايدات السياسية. لاحظ هنا أيضا غياب قضية فلسطين من مناظرة بوش وكيري، وهو غياب يعكس استهتارا أميركيا بالدول العربية التي تعمل على مسايرة أميركا. وإدارة بوش الابن تحديدا، وهي إدارة المحافظين الجدد بكل انحيازاتها وعنصريتها، تنطلق، دينيا وسياسيا، من أن شجب إسرائيل هو من نوع الهرطقة الأيديولوجية التي لا يقبل بها إلا ليبرالي متطرف، أو يساري أحمق، أو عدو (هكذا) للسامية.

أين مصر، الدولة العربية الأكبر والأقوى، وحليفة الشعب الفلسطيني، وصاحبة دور الوساطة بامتياز بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ ظاهرة الصمت العربي تعكس حالة الهزيمة والانكسار التي انتهت إليها الدولة العربية بعد أكثر من نصف قرن من الصراع مع الدولة اليهودية. برزت هذه الظاهرة وتشكلت في السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. واللافت أنها لا تبرز إلى العيان وبشكل مكشوف إلا عندما تتصاعد وتيرة المذابح الإسرائيلية. وأبرز مثال على ذلك هو الصمت الذي خيم في الأيام الأخيرة على القاهرة، مثلها مثل بقية العواصم العربية الأخرى. قبل أسابيع من العملية الإسرائيلية "أيام الندم" كانت هناك حركة دبلوماسية مصرية نشطة على خط الوساطة مع إسرائيل. وحالما بدأت "أيام الندم" ران الصمت، وهدأت الدبلوماسية. وإذا استمر النمط السياسي ذاته فإن أسطوانة الدبلوماسية ستعود إلى الدوران مرة أخرى وكالعادة، لكن بعد أن تتراجع وتيرة المذابح، ويبدأ الشعب الفلسطيني بتجميع خسائره وانكساراته. والدليل أن الزيارة المرتقبة التي سيقوم بها وزير الخارجية المصري، عاطف أبو الغيط، ورئيس الاستخبارات المصرية، عمر سليمان، لا تزال قائمة، لكن لا أحد يتحدث عنها في هذه الظروف. هذه الزيارة مبرمجة مسبقا، وقبل الاجتياح الإسرائيلي الأخير. إلا أن ذلك لم يمنع رئيس الحكومة الإسرائيلية، السفاح آرييل شارون، من مواصلة مخططه، وتدشين مجزرة جديدة تحت اسم لا فت حقا هو " أيام الندم". وهذا مخطط مبرمج وشرس ومنتظم، وسوف يستمر من وجهة النظر الإسرائيلية رغم كل ما تقوم به، أو تقدمه مصر "خدمة للسلام الشامل والعادل".

هناك سؤال ينبغي على المسؤولين العرب، وخاصة المصريين، أن يواجهوا شعوبهم به، وهو: هل صحيح أن إسرائيل استقرت على خيار السلام؟ وبالتالي أصبحت مقتنعة بضرورة التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين؟ أم أنها تمارس لعبة سياسية يعطيها الإسرائيليون مسمى السلام؟ على ماذا يستند العرب، وخاصة المصريون، حينما يأخذون فكرة السلام بكل الجد كما يبدو من تصريحاتهم، ووساطاتهم، وتأكيداتهم التي لا تتوقف؟ ما يجري على الأرض، ولأكثر من ربع قرن من عمر "عملية السلام"، يؤكد من دون لبس على أن السلام ليس أولوية إسرائيلية في هذه المرحلة. ربما أن السلام هو الهدف الإستراتيجي والنهائي الذي تأمل إسرائيل بتحقيقه، لكن طبيعة هذا السلام، ووقت الحصول عليه لم يحن بعد في الأجندة الإسرائيلية. ما هو نوع السلام الذي تعتبره الدولة العبرية هدفها الإستراتيجي والنهائي؟ السلوك السياسي للدولة العربية لا يعكس أية درجة من الاهتمام بمثل هذه الأسئلة. والأنكى أن التشكيك بالنوايا الإسرائيلية حول موضوع السلام ليس غائبا تماما عن المسؤولين السياسيين العرب. فهم يعبرون عنه أحيانا بشكل علني. لكن سلوكهم السياسي، وطريقة إدارتهم للصراع لا تنم عن أن هذا التشكيك أصبح قيمة موجهة. بل يقال به أحيانا تعبيرا عن التبرم، والتنفيس، والتغطية أحيانا أخرى.

يبدو أن العرب سقطوا، بمعرفتهم أو من دون معرفتهم، لا فرق، أسرى التكتيك السياسي الإسرائيلي في هذه المرحلة، مما يعني أنهم لا يملكون إستراتيجية واضحة. هم يتمنون السلام بالفعل، لكن ليس كهدف إستراتيجي، وإنما كحلم يخلصهم من كابوس الهزائم المتتالية، ومن مهانة العجز وضعف الحيلة. تريد الدول العربية أن تخلص، لكنها لا تعرف سبيلا إلى ذلك إلا بتصديق، أو التظاهر بتصديق تصريحات وادعاءات العدو ليس إلا.

لكن الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل لها صفة عربية أخرى، إعلامية وثقافية. هناك ثلاثة أجهزة إعلام عربية ضخمة. وهي أجهزة الإعلام الخليجية، والمصرية، واللبنانية. بعض هذه الأجهزة يمثل أضخم جهاز إعلامي في العالم الثالث. ومع ذلك فشلت فشلا ذريعا في مواجهة ماكينة الإعلام الإسرائيلية عندما نجحت في تلبيس العرب والمسلمين تهمة الإرهاب. ونجحت في تطويق وعزل الفلسطينيين على هذا الأساس. استخدمت إسرائيل، وبشكل مكشوف، أيديولوجيا الإرهاب لممارسة الإرهاب، إلا أن الدول العربية، ومعها أجهزة الإعلام، فشلت في كشف هذه اللعبة للرأي العام الدولي.

لا يستطيع الإعلام العربي إلا مخاطبة العرب. وحتى عندما نجح هذا الإعلام في تغطية الحرب الأميركية في العراق مثلا، فإن هذا النجاح كان في أغلبه تحصيل حاصل. فهو أولا نجاح مع الرأي العام العربي، وهو رأي مناوئ للسياسة الأميركية أساسا. ثانيا إن جزءا مهما من المجتمع الأميركي، ومعه صوت مرتفع في الإعلام الأميركي نفسه كان معارضا للحرب على العراق لأسبابه الخاصة. ثالثا إن الإدارة الأميركية لم تأت إلى العراق للبقاء فيه، وبالتالي لم تأت بدعاوى تاريخية أو قومية يتطلب الأمر مواجهتها تاريخيا وثقافيا وقانونيا. رابعا إن الفشل، أو المأزق الأميركي في العراق ناجم ليس نتيجة لنجاح الإعلام العربي، بل ناجم في الأساس من عوامل عدة أخرى: منها رفض عراقي متجذر لفكرة الاحتلال، وفشل أميركي في التخطيط، وتناقض أميركي بائس بين هدف مزعوم حول الحرية والديموقراطية، وتناغم سياسي مكشوف بين الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. يضاف إلى ذلك أن الأسباب التي ادعتها الإدارة الأميركية كمبرر لضرورة الحرب انكشف أنها مزعومة وتنطوي على كذب ومبالغات لتضليل الرأي العام داخل وخارج أميركا. كذلك لم تبرز قيادة عراقية بديلة تتمتع بشيء من الشرعية. وفي هذا الإطار كله هناك انهيار أمني مريع أعقب سقوط النظام السابق، انهيار تداخلت فيه عوامل المقاومة مع عوامل الإرهاب. إزاء كل ذلك لا يمكن للإعلام العربي إلا أن ينجح.

وتتضح الصورة من خلال وضع "نجاح" الإعلام العربي في الحالة العراقية مقابل فشله في الحالة الفلسطينية. فالقضية الفلسطينية هي حقا أعدل قضية في هذا العصر، لكنها خذلت إعلاميا وسياسيا. هناك سبب مهني وراء هذا الفشل، إلا أن السبب الرئيسي هو سبب سياسي قبل كل شيء. كل أجهزة الإعلام العربي، المرئي والمسموع منها، والمكتوب، ليست مستقلة سياسيا، ولا حتى أحيانا أيديولوجيا عن الأنظمة السياسية. يؤكد هذا أن ديدن الإعلام العربي في تغطيته لموضوع الصراع العربي الإسرائيلي لا يزال يتمحور في أغلبيته الساحقة حول محاولات لا تتوقف لإثبات عدوانية الدولة اليهودية، وأنها الطرف الذي يدفع بالمنطقة نحو الهاوية.

وهذه فكرة مملة، ومستمدة من الخطاب السياسي للدولة العربية منذ بداية الصراع. هي فكرة قالت وتقول بها جميع الأنظمة العربية، الملكية والجمهورية، التقليدية والحديثة، و"التقدمية منها والرجعية"، ...الخ. وآخر تصريح يحمل المعنى نفسه قال به وزير خارجية مصر، أحمد أبو الغيط، معلقا على المجازر الإسرائيلية، عندما "أكد" (هكذا)، على أن " التصعيد في الموقف لن يؤدي إلا إلى مزيد من أعمال العنف الأعمى ...". يتفادى الإعلام العربي في تغطيته للصراع الحديث عن مسؤولية الدول العربية، خاصة المعنية منها بالصراع بشكل مباشر، وترتبط بعلاقات دبلوماسية مع الدولة اليهودية، وهي مصر والأردن. حتى المسؤولين والمثقفين الإسرائيليين أصبحوا يتحدثون إلينا من خلال فضائياتنا، من دون أن يواجهوا خطابا إعلاميا وثقافيا متماسكا يكشف تورطهم في لعبة الإرهاب ذاتها التي يدعونها. هناك نوع من التواطؤ بين الإعلام العربي، والأنظمة العربية، وهو تواطؤ يشكل الرافعة التي تمر عليها أيام الندم العربي، أيام تبدو مفتوحة على المزيد من الدم، والمزيد من الانكسارات.