لندن - مهدي السعيد: في الحلقة الأولى تحدث الدكتور تحسين معلة عن بعض جوانب الصراع على السلطة في العراق, وعن الأحداث السياسية التي عصفت بهذا البلد, وعن الظروف التي تعرف فيها الى أحمد حسن البكر وصدام حسين, وكيف عالج صدام من جروح أصيب بها في المحاولة الفاشلة لاغتيال عبدالكريم قاسم وهروبه الى سورية ثم مصر. وفي هذه الحلقة يواصل متابعة علاقته بصدام وظروف التحاقه بالمعارضة العراقية:
كيف تعاملت مع الوضع الجديد بعد انقلاب 1968, وهل كنت على حذر بعلاقتك مع أحمد حسن البكر وصدام حسين, بعد انقسام أعضاء الحزب حول تأييد كلا الطرفين؟
- علاقتي بأحمد حسن البكر كانت متينة للغاية, وكنت ألتقي به تباعاً منذ عام 1966, ونتحدث حول الكثير من القضايا, وكنت أتردد عليه في بيته مرات عدة خلال الأسبوع.
وقد طرح عليَّ رغبته في العودة الى الحزب بعد اطلاق سراحه من السجن ابان حكم عبدالسلام عارف, وقد استقرت ظروفه في شكل ملموس بعد مقتل عارف, اذ خلت الساحة السياسية أمامه, لأنه يعرف أن عبدالرحمن عارف كان رجلاً ضعيفاً وسهلاً وفي أحيان كثيرة متعاوناً, لذلك ارتفعت أسهم البكر في تلك المرحلة.
قبل انقلاب 17 - 30 تموز (يوليو) 1968, كان في نية بعض الضباط الوزراء مثل صبحي عبدالحميد وصالح مهدي عماش تنفيذ محاولة انقلابية ضد حكومة عبدالرحمن عارف. وفي الفترة نفسها كان المرحوم عبدالرزاق النايف يخطط هو الآخر لانقلاب "قصر" لأنه كان أكثر المقربين الى عبدالرحمن عارف, وكان يبحث عن شركاء له, ولم يوفق في البداية, لأنه لم يكن مسنوداً من حزب أو جماعة معينة, وكان مجرد فرد لم يكن معه سوى عبدالرحمن الداود.
ذهب النايف الى رجب عبدالمجيد وطلب منه الاشتراك في الانقلاب, لكن رجب اشترط انضمام ناجي طالب, وكان النايف متحفظاً عن ناجي طالب, ويبدو انه فاتح البكر, وكان البكر أكثر دهاء من النايف, فاقتنص هذه الفرصة, وخدع عبدالرزاق النايف حين أبدى موافقته على الاشتراك معه في الانقلاب.
هكذا تمت الصفقة التي خطط لها البكر بذكاء كبير وأشرك معه صدام حسين لاحقاً, وقد لعب صدام دوراً تنفيذياً وراء الكواليس في ما يتعلق بالانقلاب الآخر في 30 تموز من العام نفسه حين فاجأ النايف وأنصاره بإشهار السلاح في وجوههم واقتيادهم الى طائرة كانت جاثمة في انتظارهم, حيث انتقلوا الى بلدان أخرى, وتركزت السلطة بيد البكر وصدام منذ ذلك الحين.

lt; بعد الانقلاب ضد النايف والداود بدأت مرحلة جديدة في ما يتعلق بالسلطة والعلاقة بالرموز المسؤولة في هذه السلطة وخصوصاً البكر وصدام, هل جرى اتصال بينك وبينهم بعد ذلك وكيف تطورت هذه العلاقة؟
- في اليوم التالي لانقلاب البكر - صدام ضد النايف والداود, اتصل بي البكر هاتفياً, وقد استغرق ذلك بعض الوقت الى حين وصولي الى الهاتف, وحالاً أخذت سماعة الهاتف لأجيب على المحادثة, وإذ بالمتحدث هو صدام حسين.

سلم عليَّ مرحباً, وقال لي: دكتور تحسين, لدينا منصب محافظ الكوت أو محافظ البصرة, فهل ترغب بأحد هذين المنصبين؟
أجبته حالاً بالرفض, وكان يجلس بجانبي كل من عبداللطيف البدري ومجيد سعيد (كان وزيراً للتربية في احدى وزارات طاهر يحيى). واصلت حديثي مع صدام حسين, وقلت له: أنا لم أطلب منكم وظيفة, قال: إذاً لا تريد الكوت, فأمامك البصرة, قلت: أنا أستاذ مساعد في كلية الطب, وموقعي هذا أكبر من منصب محافظ, وحين أطلب منكم وظيفة, فسأقدم عريضة كما يفعل الآخرون.
تحدثت معه بلهجة متشنجة وخشنة, ما دفع عبداللطيف ومجيد الى لومي قائلين: ان هذه اللهجة ليست مناسبة, فهؤلاء في كل الأحوال ليسوا غرباء, ويجب أن تتحدث معهم بأسلوب آخر.
رفعت الهاتف مرة أخرى للاتصال بصدام, ولما تم ذلك قلت له: أريد أن أراك, فقال لي: أهلاً بك وأنا في انتظارك.
ذهبت اليه, والتقيت به وتحدثت معه بلهجة هادئة وقلت له: من الخطأ أن تعيِّنوا طبيباً في منصب محافظ, فالمحافظ إما أن يكون محامياً أو ضابطاً, لأن الطبيب لا يصلح لمثل هذا الموقع, فأنا حالياً أستاذ مساعد في كلية الطب وهذه مسؤولية تختلف عن مسؤولية المحافظ. قال: طيب, لماذا لا تكون رئيساً لجامعة بغداد؟ قلت له: انني لا أزال أستاذاً مساعداً, ورئيس الجامعة منصب أستاذي. سألني: هل ثمة طموح لديّ؟ قلت له: طبعاً, لديّ مثل هذا الطموح, ولكن يجب أن ننظر الى مصلحة الثورة, وأن تحتل الكفايات موقعها طبقاً لمستوياتها, فالرجل المناسب يجب أن يكون في المكان المناسب.

lt; هل تعتقد ان ترشيحك لمنصب محافظ جاء بطلب من أحمد حسن البكر أم هو من تدبير صدام حسين؟
- لا أستطيع أن أجزم بهذا الخصوص, ولكن بعد فترة من الزمن طرحت عليَّ مناصب محلية كثيرة, وكنت أرفضها لأنها بعيدة من تخصصي, حتى وصل الأمر بالبكر الى استدعائي والطلب مني تحديد المنصب الذي أريده, ولكني لم أعطه رأياً بذلك.
وبعد مرور بعض الوقت اتصل بي عزة مصطفى وزير الصحة وأخبرني بأن البكر رشحني سفيراً في الجزائر, وقد وافقت على ذلك بعد أن ترددت كثيراً في البداية.
وموافقتي جاءت لحسم الأمر الذي بدأ يتحول الى أمر شخصي من دون ارادتي أو رغبتي, فقد كنت مقتنعاً بوظيفتي أستاذاً مساعداً في كلية الطب. وفي الجزائر ظهرت بعض المشكلات نقلت على أثرها الى بغداد, ربما بسبب غضب البكر عليَّ, بعد أن صرفت زوج ابنته مظهر مطلك من العمل في السفارة بسبب تصرفاته غير المنضبطة.
وبعد فترة من الجحود بيني وبين البكر, صدر أمر بتعييني عميداً لكلية الطب في بغداد, وهو الموقع الذي ينسجم مع مؤهلاتي ورغباتي, ولكنه الموقع الذي وسع مشكلاتي مع البكر وصدام في آن.

lt; يعني ذلك انك كنت لا تلبث أن تخرج من مشكلة حتى تقع في أخرى في تعاملك مع البكر وصدام, ماذا تريد بالذات؟
- من الممكن الاعتقاد بذلك, فالمشكلة الجديدة بعد تعييني عميداً لكلية الطب بدأت مع محمد ابن أحمد حسن البكر, الذي كان طالباً متعباً وكسولاً ولا تؤهله امكاناته العلمية لأن يصبح طبيباً, الا انه ابن الرئيس, وعليه فإن ارادة أبيه هو أن يكون طبيباً.
كان محمد قد أقلق الكلية, أساتذةً وموظفين وطلاباً, فقد كان يحمل معه مسدساً وهو متهور بطبيعته وارتكب مشكلات, لذلك قررت ان أفاتح صدام بأمره, لأني لا أريد أن أتسبب بوضع غير مناسب للبكر في حينه, اذ كان مريضاً وجالساً في البيت.
طلبت هاتفياً من سكرتير صدام علي العبيدي لقاء به, وسألني العبيدي عن طبيعة القضية التي أريد أن أفاتح صدام بها, فقلت له: قضية عائلية. وحين ذهبت الى اللقاء, قال العبيدي ان صدام خرج لمهمة عاجلة, وفوضني أن استمع منك عن تفاصيل هذه القضية. أخبرته بأمر محمد من البداية وحتى النهاية, وطلبت منه أن تحسم هذه القضية في شكل نهائي. وفي اليوم التالي صدر أمر بنقل محمد الى كلية الإدارة في الجامعة المستنصرية.

lt; ما هي قصة العلاقة المتوترة بينك وبين صدام حسين, والتي انتهت بهروبك الى الكويت ومن ثم الى لندن؟
- كان لقائي الأول بصدام حسين التكريتي بعد يوم واحد من فشل محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم في منطقة "راس القرية" في تاريخ 7 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1959. المرة الثانية التي التقيت فيها صدام حسين كانت أثناء عقد المؤتمر القطري في 13 أيلول (سبتمبر) 1963, حيث شارك مندوباً عن مكتب الفلاحين القطري.
ولم يكن آنذاك برز على صعيد الوسط الحزبي, لذلك لم يكن تأثيره كبيراً في أعمال المؤتمر, وأذكر أنه جاءني ليثني على دوري ونقاشاتي في المؤتمر, اذ كانت الأزمة بين كتلتي علي صالح السعدي وحازم جواد مشتعلة, وكنت ممن تحدثوا باتجاه تسوية المشكلة في صورة جذرية خدمة للحزب والعملية السياسية في البلاد, وقد عبر لي عن اتفاقه مع ما قلته حول المشكلة, ثم تبادلنا أحاديث أخرى كثيرة.
المرات الأخرى التي التقيت فيها صدام حسين كانت بعد عام 1968 عندما كان نائباً للرئيس البكر, وفي تلك الفترة خصوصاً حين أصبحت عميداً لكلية الطب, بدأت الضغوط والمضايقات تتصاعد ضدي, وأعتقد ان صدام حسين كان وراءها.
أثناء ذلك طلبت قيادة الحزب ان يكتب الكادر الحزبي تقارير تقييمية للحكم. في البداية امتنعت, ولكن إلحاح الحزب أحرجني, فكتبت تقريراً أشرت فيه الى ان التحزبات المناطقية والعشائرية والاقليمية هي التي تغلب على المصلحة الوطنية في الدولة, بعدها توقفوا عن مطالبتي بالمزيد من التقارير.

lt; ولكن, هل هناك مشكلات أكثر بعداً في تصاعد العداوة بينك وبين صدام حسين؟
- نعم, حدثت مشكلتان بيني وبين صدام حسين عام 1975, وهما المشكلتان اللتان قطعتا حبل المودة بيني وبينه, وأدتا الى اثارة حال من الخصومة المباشرة التي كادت أن تقودني الى حتفي. المشكلة الأولى تتعلق بطبيب ناشئ جاء من الدنمارك اسمه ملحم العاني.
كان هذا الطبيب حديث عهد بالمهنة لأنه تخرج في الكلية منذ فترة قصيرة. وكان حاصلاً على دبلوم في الأمراض الزهرية, والمفروض أن يعين طبيباً في الكلية الطبية, وربما على أقل تقدير يعين مدرساً, وليس أستاذاً في كلية الطب, لأن لقب أستاذ يعتبر قضية كبيرة بالنسبة الينا.
أرسل صدام أوراق تعيينه في كلية الطب الى عمادة الكلية التي كنت عميدها, وكتب على هذه الأوراق: يعين أستاذاً في كلية الطب. أنا رفضت ذلك, ولا أريد ان أدخل في المزيد من التفاصيل, لأن ذلك يحتاج الى عملية سرد طويلة, وتحايلت على اصرار تعيينه أستاذاً, فقررت تشكيل لجنة لتحديد مرتبته العلمية, وبذلك أستطيع تجريد صدام من أي تأثير في هذه القضية.

اتصل بيَّ هاتفياً, وقال لي: دكتور تحسين, حينما يطلب رئيس الدولة أو نائب رئيس الدولة أن يعين ملحم العاني أستاذاً, فيعني ان يعين أستاذاً. قلت له: نحن نحترم رئيس الدولة ونائب رئيس الدولة, ولكن لدينا قانون يقيدنا, فإذا أراد رئيس الدولة أو نائب رئيس الدولة ان يعين أستاذاً, فليُصدِر له قراراً من مجلس قيادة الثورة, وبذلك يكتسب صفة القانون. نحن لا نستطيع مخالفة القانون, قال: وإذا اصدرنا قراراً لمجلس قيادة الثورة؟ قلت له: إذاً لن نقول لا.
بعد أشهر وصلتنا زمالة للتدريب على الأمراض الجلدية في بريطانيا, فرشحته بعدما وقع على عبارة "ارغب بذلك", وهكذا غادر الى الخارج وانتهت المشكلة. القضية الثانية هي القشة التي قصمت ظهر البعير وتخص طالباً آخر هو بهمن بختيار ابن مدير استخبارات الشاه الذي هرب الى العراق وأخذ يعمل ضد الشاه بحماية صدام حسين, ولكنه قتل في ظروف غامضة من جانب أحد الذين خرجوا معه الى الصيد. بهمن كان يدرس في كلية الطب, وكانت له علاقة مع ابنة أحد المسؤولين السوريين التي كانت تدرس معه في الكلية, وكان وسيماً, ولكنه مراهق الطبع وغير مكترث بأحد, وقد التزمه صدام بسبب علاقة ربطته بوالدته.
تصرف بهمن معي في احدى المرات تصرفاً أرعن, وانتظرني في الباب حاملاً مسدسه, ولكن أحد الموظفين هجم عليه وأخذ منه المسدس. بسبب هذا التصرف فصلته من الكلية, فحاول صدام اعادته, ولكني أصررت على موقفي, فاتصل بي سعدون شاكر مدير الاستخبارات العامة وكان آنذاك محسوباً على صدام وحاول اقناعي بإعادته الى الدراسة فرفضت.
هذه القضية أدت الى اثارة الضغوط ضدي, مما دفعني الى تقديم الاستقالة, ولكن قرار مجلس قيادة الثورة استبدل الاستقالة بإحالتي على التقاعد, وعينوا بدلاً مني شخصاً موقتاً أصدر قراراً بنقل بهمن بختيار الى كلية طب الموصل.
بعد هذه الحادثة ثبت لي أن وراء حملة الضغوط والتهديد بنقلي من منصبي كان يقف صدام حسين, واعتبرت ان قرار احالتي على التقاعد كان في واقع الحال محاولة لتسوية الأزمة, ربما قد حفظت حياتي الى حد ما.

lt; كيف توقعت ان تجري الأمور لاحقاً, ولماذا اخترت طريق الخروج من العراق والانضمام الى المعارضة في الخارج؟
- عام 1976 خرجت من العراق بعدما فقدت الأمل بأن أعمل طبيباً أو رجل أعمال في ظل الوضع القائم آنذاك, فقد وصلني الكثير من التهديدات والتحذيرات وأخبرني أحد أصدقائي المتنفذين بأني في خطر, وان صدام حسين بدأ حملة اغتيالات وتصفيات في صفوف قياديي حزب البعث, لأنه يشعر بتعصب تاريخي أمام العناصر القديمة في الحزب, وخصوصاً العناصر التي لم تعره اهتماماً في السابق.
ومن بين الذين حذروني كان أحد أبناء مدينتي النجف الذي عمل في المكتب الاستشاري لصدام حسين, وكان هذا الصديق من عائلة المرزة. وقد أرسل لي خبراً يقول: ان صدام حسين طلب اضبارتي الشخصية, وهذا يعني بالنسبة الى من يعرف صدام حسين انه حين يطلب اضبارة شخص ما, فإن قرار الموت قد اتخذ بحقه.

كان موقف صدام مني عدائياً منذ البداية, وهذا ما كنت أشعر به, وربما يكمن السبب في معرفته الدقيقة بعلاقتي الشخصية بأحمد حسن البكر.

غادرت العراق سراً الى الكويت, وهناك بدأت أتصل بالمعارضة العراقية, وسافرت الى دمشق والتقيت الرئيس حافظ الأسد, واتفقنا على العمل المشترك, ولكن الأمور لم تمضِ كما أردت لها. وتعرضت في الكويت الى محاولة اغتيال, وفي النهاية قررت الذهاب الى لندن, وهناك أسست مع أياد علاوي وصلاح عمر العلي "حركة الوفاق الوطني" وأقمنا علاقات مع الداخل, واتصلنا بضباط في الجيش العراقي ومدنيين من قطاعات مختلفة. ولكن حركة الوفاق تعرضت الى انشقاق قام به صلاح عمر العلي واسماعيل القادري, فاعتبرناهما مستقيلين.

شاركت في معظم نشاطات المعارضة في الخارج, وحضرت مؤتمرات فيينا وبيروت وصلاح الدين ونيويورك, ولكن اصابتي بالمرض حالت دون مزاولتي نشاطاتي السياسية التي تتطلب الحركة والانتقال, لذلك قدمت استقالتي من الحركة بعد سقوط نظام صدام حسين, وأنا الآن اعتبر نفسي مستقلاً, ولم انقطع عن مواصلة العمل السياسي في الوقت الحاضر.