أحمد عمر: ليس ثمة تاريخ بلا أبطال ولكن هناك أبطال بلا تاريخ، احتلّوا مكانة متميزة في الذاكرات الشعبية والروايات الشفهية، ففي اليمن ملوك لهم قوائم أنساب وفترات حكم هم في الحقيقة من اختلاق الرواة المتأخرين مثل افريقيس وذا القرنين والرائش!! هذا في التاريخ السياسي، أما في التاريخ الأدبي فنجد شخصيات ملتبسة مثل امرئ القيس والأعشى والسموأل وزرقاء اليمامة تتردد أسماؤها في مرويات وهب بن منبه وعبيد بن شرية الجرهمي والطبري وحتى ابن الأثير الذي خصه نُلدِكه بالإعجاب والإطراء، على عكس جواد علي الذي رأى فيه مؤرخاً متطفلاً على الطبري.. يفحص الكاتب الأساطير تحت مجهر البحث، وبحثه هو الأول من نوعه، ليكتشف أمرين: الأول أنه إذا كان التاريخ مليئاً بالأساطير، كما تقول الكتابات التقليدية في حقل التاريخ العربي القديم، فإنّ الأساطير مليئة بالتاريخ أيضاً. الأمر الثاني هو التشابه الكبير بين أساطير عربية وأساطير إغريقية وثالثة مصرية فرعونية!!
إنّ تعلم أبجدية الأسطورة ونزع القشرة السميكة التي تغلف الحكاية الأسطورية واستقراء التاريخ المخزّن فيها، كما يقول أريك فروم في كتابه "اللغة المنسية"، هو الخطوة الأولى في الطريق الشائك، فالأسطورة رسالة مكتوبة بلغة رمزية ومتلعثمة. الأسطورة تنشئ للبطل تاريخاً خاصاً به وحده، ويكاد لا يمكن إشراك المجتمع به، لكنه يقوم بربط التاريخ الشخصي بالتاريخ الجمعي للمجتمع الافتراضي الذي تخيّله سارد النص.
كان البطل في تصوّرات الإغريق، كائناً علوياً خارقاً، تمّ تخيله في الملاحم الشعرية القديمة على هيئة ثعبان، وكرجل قادر على النمو من الأرض كالنبات؟ ويبدو أن هذه الصورة مستعارة من أسلافهم الفينيقيين (اسمهم بني قين في الإخباريات العربية) الذين جلبوا لهم الآلهة والأساطير من الخليج العربي كما تقول إخباريات هرودت. ومن تلك الأساطير، أسطورة المعبود العربي القديم (ن) أو الرجل السمكة، في المعتقدات السومرية والبابلية، الذي جلب الحضارة الى اليابسة ثم اصبح اسمه نوح أو اخنوخ أو يونس أو إدريس في الفكر الديني الإسلامي. البطل عادة، عند ولادته الرمزية يشكو من عرج مثل آخيل اليوناني (كعب اخيل) وانكيدو الذي يصبح عاجزاً عن المشي بعد عودته من الغابة وعمرو بن عدي ملك الحيرة الأسطوري الذي يعود من البرية، بعد خطف الجان له.. إنها الولادة الرمزية، ومرحلة التحوّل من الإلهي الى البشري، أو من الطبيعة الى الثقافة.
حيوانات مقدسة
إن أفضل أسطورة عربية قديمة يمكن أن تشرح بدقّة وتكثيف وشاعرية نمط القداسة التي أحاط بها العربي حيوانه هي أسطورة حرب البسوس. فنحن لا نملك دليلاً على أنها حدث تاريخي. يرى الباحث أنّ أبطالها مثل كليب وجساس والزير سالم متخيلون. لقد تفجّرت هذه الحرب الأسطورية جراء ذبح ناقة تدعى (البسوس) وهو اسم خالة جساس، وهو اسم غريب على التراكيب العربية. إن فكرة فناء القبيلة جرّاء ذبح ناقة مقدسة كما حدث لقبيلة ثمود التي أبيدت عن بكرة أبيها لذبحها ناقة النبي صالح هي في صلب معتقدات العرب القدماء الذين أسّسوا نظام (السائبة) و(البحيرة) و(الحامي) و(الفصيل)، وتحريم ذبحها وركوبها أو الانتفاع بحليبها تكريما للآلهة. وهو نظام أبطله الإسلام بتشريع قرآني صريح. تذكّر البسوس بالملحمة الطراودية. إنها إعادة إنتاج لها تحت تأثير عصر بطولي إغريقي، تذكّر الناقة المقدسة بأسطورة قدموس والبقرة المقدسة أيضاً. قدموس (قدمة) في الأسطورة الفينيقية يتتبع أثر بقرة وحيث توقفت يبني مدينة اسمها (طيبة) ثم يقدم البقرة قرباناً للآلهة أثينا.
الناقة
تتسرب الأسطورة الى الجزيرة العربية عبر التجار فتتحول البقرة الى ناقة في مروية بناء مسجد (قباء) الذي هو أول مسجد بني في الإسلام وقد نقلها رواة متأخرون عن ابن هشام والطبري.. وشاع فيها جميعاً أن النبي عليه الصلاة والسلام عند دخوله المدينة ترك ناقته تمشي بينما كان المسلمون يتحرقون شوقاً لنيل شرف بروك الناقة عند بيوتهم. وحتى لا يؤثر النبي أحداً دون آخر، يخلي سبيل الناقة (دعوها فإنها مأمورة) فتبرك في (مربد) تمر لغلامين يتيمين من بني النجار. ومن المدهش التماثل النادر بين اسم المدينة المقدسة (طيبة) التي بناها (قدمة) ـ نلاحظ ارتباط الاسم بالقدم والعرج ـ واسم المدينة التي دخلها النبي منتصراً أي يثرب التي كان اسمها طيبة، ومن المعلوم، أيضاً، أن طيبة كانت عاصمة الهكسوس وهم الملوك الرعاة (العرب) الذين دخلوا مصر نحو عام 1720 ق.م. فلبناء مدينة أو معبد لا بد من ربطها بمعجزة بعد اقتراع علني على حدود البقعة المقدسة، يكشف عن تدخل إلهي عبر الأضحية، فالإله يتقبل القربان في هذا الجزء من المكان.
حرب طروادة كأسطورة عابرة للثقافات؟
كانت أسطورة طروادة بأحصنتها معروفة جيداً بين القبائل كما يبدو من روايات الطبري، وهو ممكن نتيجة انتشار الثقافة اليونانية لذا جاءت أسطورة جذيمة الأبرش محاكاة لأسطورة حصان طروادة فبدلاً من الحصان الخشبي كانت هناك قافلة ابل. الأسطورة اليونانية تقول أنّ أبطال اليونان اختبأوا بأسلحتهم في جوف حصان خشبي كبير أعدّه اغاممنون الملك. الجاسوس سيتون أدى دوراً حاسماً في إقناع حاكم طروادة بإدخال الحصان الخشبي في الأسطورة الإغريقية.. قصير بن سعيد يؤدي الدور نفسه في الأسطورة (المعرّبة).
إمتدادات مصرية فرعونية
مشهد موت كليوباترا إثر هزيمتها أمام الإمبراطور الروماني تتم استعارته للزباء في مشهد موتها، وهو مص الخاتم المسموم ليكون مشهداً جليلاً يتناسب مع مهابتها. هناك اعتبارات عدة أملت هذه الاستعارة، أولها ما يزعم عن نسْب زنوبيا نفسها الى أصول مصرية في المرويات التاريخية، وأن العماليق، وهو أصل الزباء، حسب روايات أخرى، حكموا مصر في بعض الفترات. وهكذا تمت مطابقة من نوع آخر. جرى فيها دمج متتابع ومثير للصور.
ملحمة طروادة أيضاً
المكّون الأسطوري اليوناني حاضر بقوة في بنية الخطاب الأسطوري العربي، العنصر الأهم في (التراجيديات) العربية والإغريقية متماثل. الكاهن عنصر أساسي فيها. أسطورة زرقاء اليمامة هي في واقع الأمر صدى لمرويات يونانية... ويبدو أنّ أسطورة زرقاء اليمامة قد شغفت قلوب السامعين فقام الأعشى بمحاكاة الإلياذة وروايتها شعرياً على الطريقة الهومرية. تقول الأسطورة اليونانية إن كاسندرا ابنة بريام ملك طروادة من زوجه هيكوبا وقعت ضحية غصب ابولون الذي أحبها حباً جماً، ومنحها موهبة التنبؤ. خوف كاسندرا من فقدان الموهبة جعلها تنصرف عنه، فانتقم منها أبولون بأن جعل الناس لا يصدقون تنبؤاتها، وحين وقع الهجوم اليوناني على طروادة حذرتهم كاسندرا من المهاجمين. لكن أحداً لم يصدقها وهو ما يجري لكاهنة هجر الكبرى، زرقاء بنت زهير، التي حذرت أهلها من شجر يتحرك، على مسيرة ثلاثة أيام لكن أحداً لم يصدقها؟
هجرة معاكسة للأساطير والآلهة؟
في الاتجاه المعاكس، يفتش الباحث عن تسرب الآلهة العربية الى اليونان عبر مصر، فذو الشرى هو دوسيرا الإغريقي، مناة آلهة القدر (نقول وافته المنية) هي آلهة الحساب مونتيا. هبل المكي إله الصيد والطعام دخل بلاد الإغريق عن طريق مصر في صورة أبولو، هبل والصيد يستعيدان صراع هابيل الصياد وقابيل المزارع، الإله العربي القديم قيس دخل البانثيون الإغريقي في صورة كاسيوس بصفاته نفسها، كإله جبلي. ست الإله الفرعوني الشيطاني هو شيث. هردوت يؤكد أنّ موجة بشرية عربية (عاربة استولت على دلتا النيل 300 قبل الميلاد، هي موجة الهكسوس، الذين سمّوا بالملوك الرعاة. تامودي هو ثمودي، عثترو هو صيغة عن عشتار، عزيزو وأسيس هو العزيز أو عثتر، أبا شنان هو أبو سنان العمليقي، سالتيس هو الصلت.. يسرد الربيعي في بحث منفصل أسطورة الثياب المسمومة ومقتل امرئ القيس ويحاول تحديده بين خمسة وعشرين شاعراً يحملون اسم امرئ القيس ويصنفهم ويعيد ما استطاع منهم الى عصره وزمنه، وفي بحث آخر يفرق بين سبعة عشر شاعراً يحمل اسم الأعشى بينهم أعشى طرود (طروادة)؟! فادعاء العمى يعيد تقليداً قديماً يمتد من شعراء سومر حتى الشاعر الأعمى هوميري، الذي قد يكون شخصية أسطورية بدوره. حيث الشاعر المعصوب العينين رمزياً يعيد تمثل العالم بحدسه، ببصيرته، فالحدس أقوى من الحس. الربيعي حاول تحديد صناجة العرب، نظير هومر صناجة اليونان وراوي مآثرهم وملاحمهم من دون أن يحالفه النجاح الكامل، بسبب كثافة الورم الأسطوري حول شحم التاريخ.
يبدي الباحث فاضل الربيعي معرفة فيما يمكن أن يسمى علم الأسطورة المقارن، ويبرهن أن الزباء ليست زنوبيا وأن الدروع المودعة عند السموأل هي دروع النعمان وليست دروع امرئ القيس ويجتهد في فصل التاريخ عن الأسطورة... وربما يبالغ أحياناً في تنسيب الأساطير، كما فعل مع مرويّة بناء مسجد قباء.. فهناك ذاكرة جمعية إنسانية. أو ما يسميه مرسيا الياد أسطورة (العود الأبدي) أو ما يسميه جيمس فريزر (الكليات النفسية)، أو ما يسمى في الفكر الديني الإسلامي بالفطرة.

الكتاب: أبطال بلا تاريخ/ الميثولوجيا الإغريقية والأساطير العربية.
المؤلف: فاضل الربيعي.
الناشر: شركة قدمس للنشر والتوزيع