فوزي الأسمر: ظهرتُ، خلال الأيام الثلاثة الأولى لمؤتمر الحزب الديمقراطي المنعقد في مدينة بوسطن (26- 29تموز/يوليو 2004)، على عدة فضائيات عربية. وكان الحوار حول موقف الحزب الديمقراطي، في حالة فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، من منطقة الشرق الأوسط، وهل ستكون مواقف جون كيري الديمقراطي السياسية، أفضل من مواقف جورج بوش الجمهوري بالنسبة لهذه المنطقة.
والواقع إيجاباتي كانت مقتضبة، بسبب ضيق الوقت المحدد لمثل هذه المقابلات والتعليقات. ولكن محور الأمور كان يتلخص في أن أية إدارة أمريكية، كما عهدناها تاريخياً حتى اليوم، لن تكون منصفة بحق العرب وبحق الفلسطينيين، وستكون متحيزة لإسرائيل، لأسباب كثيرة، في مقدمتها أن الغرب بما فيه أمريكا هو المسؤول عن زرع إسرائيل في قلب العالم العربي. وأيضاً بسبب مواقفنا نحن من قضايانا، والتعامل معها بعاطفة أكثر من المنطق والعقل، وعدم اتخاذ مواقف مبدئية، وعدم تسخير كل جهودنا وثرواتنا من أجل حقوقنا.
ومن هذا المنطلق، انزلق الحق الفلسطيني، وأصبح الأمر يشمل كل العرب، والمسلمين، واستطاع أعداؤنا الصاق كل التهم بنا، من إرهابيين وقتلة ومتخلفين وغيرها من الصفات، دون أن يواجهوا معارضة أساسية مبنية على المنطق والحقائق الدامغة.
ولهذا السبب فإن تعامل جورج بوش وإدارته مع العرب، مع القضايا العربية كان مبنيا على أساس فهم التقصير العربي، وفهم أن القوة، وعدم الاكتراث، هما اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب، ضارباً عرض الحائط بكل المشاعر الإنسانية والإحساسات العربية.
ومع ذلك، فإن وصول جون كيري، والحزب الديمقراطي إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، قد يغيير أسلوب التعامل، وربما تكون هناك محاولات للوصول إلى حلول، ولو أنها حلول غير وسط. أو ربما يمكن أن يضع ضغطاً على حكومة شارون لوقف المجازر ضد الفلسطينيين والدخول في مفاوضات معهم.
السبب في قولي هذا يعود إلى أن خروج جورج من البيت الأبيض، معناه خروج كل زمرة المستشارين الحاقدة على العرب والمسلمين معه، ومعناه أيضاً، دخول مجموعة أكثر إنسانية وتعقلاً مما كانت عليه المجموعة الأولى لتولي هذه المناصب.
ومعناه أيضاً أن الحزب الديمقراطي سيعمل جاهداً على إصلاح العلاقات بين دول العالم، وبين الولايات المتحدة، بمعنى أن أمريكا قد تعود إلى الأخذ بحسابها مواقف الدول الأخرى، خصوصاً الحليفة منها، في كثير من المواضيع.
ومعنى ذلك أيضاً، أن كيري قد يجلس ويستمع إلى آراء الغير، لأن حزبه طالبه بذلك في كل الخطب التي ألقيت في مؤتمر الحزب، لا أن يتمثل ببوش والذي حسب جميع التقارير التي تسربت من البيت الأبيض، لا يريد الاستماع إلا لبعض الآراء التي يعرف مسبقاً أنها تتماشى مع موقفه. ويبني قراراته كما صرح هو في أكثر من مرة، على أساس رؤية هبطت عليه من السماء أو جاءته في المنام.
كما أن بوش يرى العالم إما أبيض أو أسود (إما معنا أو ضدنا) أي أن ليس عنده منطقة رمادية، والتي يحتاجها العالم لكي تستمر الأمور في التقدم نحو مزيد من التفاهم والاستقرار. وقد برهنت سياسة بوش هذه أنها فاشلة على جميع المستويات. فشلت في ابقاء التحالف الأوروبي - الأمريكي على ما كان عليه، وفشلت في رص دول العالم خلف واشنطن في عدوانها على العراق، وفشلت في منع المضاعفات الخارجية، من التأثير على الأوضاع الأمريكية الداخلية، خصوصاً الاقتصادية منها، والتي تلعب دوراً أساسياً في حياة رجل الشارع الأمريكي، لأنها تتطرق إلى مجالات حياته المختلفة: التأمينات الصحية، وفرص العمل، وميزانيات التعليم، وغيرها من مرافئ الحياة في أمريكا.
كل هذه الأمور سيواجهها جون كيري إذا تم انتخابه رئيساً للولايات المتحدة. والدرس الذي أمامه لا يشجع كثيراً، حيث سيتحتم عليه البدء من نقطة الصفر، أو ربما من موضع أكثر سلبية. وهذا يحتاج من كيري إلى جهد خاص، وليونة وتفهم وحل وسط، وتعامل الند بالند، وليس التعامل من فوق. ولهذا السبب فإن كيري سيضطر إلى الاصغاء للآخرين وإلا ستفشل سياسته كما فشل جورج بوش.
لقد طالب جورج بوش، وفي أكثر من مناسبة، الناخبين بمنحه فرصة أخرى، أي أربع سنوات إضافية في البيت الأبيض، لكي يستطيع اتمام رسالته التي بدأها عند وصوله إلى سدة الحكم. وهذا المطلب أخاف الكثيرين من أبناء الشعب الأمريكي، حسب ما نعكس ذلك في وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة.
ماذا يريد أن يحقق جورج بوش إذا ما أعيد انتخابه؟ هل سيعمل على إحلال السلام في العالم؟ إن بوش يقول باعتزاز إنه "رئيس حرب"، وعندما أراد تصحيح ذلك بعد الهجوم الإعلامي عليه، قال إنه رئيس واكبته حروب منذ وصوله البيت الأبيض. فهل كان من الضروري أن تواكبه هذه الحروب؟ وهل حلت الحروب التي خاضها مشاكل أمريكا؟
إن وضع أمريكا الأمني اليوم هو أكثر سوءا مما كان عليه في الماضي، بمعنى أن بوش لم يستطع حل هذه المشكلة. وميزانية الحرب التي احتاجها بوش لتمويل عدوانه على العراق وحربه في أفغانستان، أدت إلى ارتفاع كبير في نسبة البطالة، وتدهور الوضع الاقتصادي، وعدم حل مشاكل التأمينات الصحية، خصوصاً للمسنين.
كل هذه الأمور أيضاً سيواجهها كيري، وسيضطر أن يتعامل معها بشكل يستطيع من خلاله اقناع الرأي العام الأمريكي، بأنه قادر على حلها أو التعامل معها إيجابياً، على الأقل.
أما بالنسبة للشرق الأوسط، وبالنسبة للعراق، فإن كيري لا يختلف كثيراً في موقفه المؤيد لإسرائيل، حيث يرى، مثل بوش، أن الفلسطينيين يتحملون مسؤولية كبيرة بالنسبة للوضع القائم، ولكن بلا شك أنه لا يرى أن "أرئيل شارون رجل سلام"، كما يعتقد بوش.
كما أنه سيحاول إعادة المحادثات بين الطرفين، عن طريق تحرك أكثر كثافة في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وإذا تحققت بعض الشائعات حول تعيين الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتن، مسؤولاً عن هذا الملف، فإنه بذلك يكون قد وضع الإنسان الأكثر تجربة واطلاعاً على هذه المسيرة في المكان الصحيح.
السبب في ذلك هو، أن كيري يعرف أن دول العالم، خصوصاً حلفاء أمريكا الأوروبيين، معنية في تحريك ملف الشرق الأوسط، والذي هو في الأساس سبب الكثير من الأوضاع غير المستقرة في العالم، بما في ذلك "محاربة الإرهاب"، هذا التحرك لا يمكن أن يأتي عن طريق عدم الخوض في لب الموضوع. وحسب المثل القائل بأنك إذا أردت أن تتخلص من مرض الملاريا أو التفوئيد، عليك أن تتخلص من البعوض، ولا يمكنك التخلص من البعوض عن طريق "شن حرب" عليه، بل عن طريق حل جذري، أي التخلص من المستنقع والماء القذرة التي تولد هذه الحشرة الفتاكة.
هذا لا يعني أن كيري سينحاز عن استراتيجية أمريكا بالنسبة للشرق الأوسط، ولكنه سيحاول حل الأمور بالطريقة التي تقبلها أمريكا وبالتالي إسرائيل، وتكون بمثابة حل وسط بالنسبة للدول الأوروبية، ولكنها لن تكون مرضية للفلسطينيين ولا للعرب.
- آخر تحديث :
التعليقات