تؤكد تقارير المهندسين في "لجنة إعمار المسجد الأقصى" أن الحريق الذي شب فيه عام 1969 شب في أكثر من مكان في الوقت نفسه، وأنه لم يكن بمقدور شخص بمفرده أن ينفذ هذا العمل دون مساعدة آخرين. لم يحمل التحذير الذي أطلقه وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي مؤخراً بخصوص المسجد الأقصى جديداً يُذكر فيما يتعلق بالأخطار التي تحيط بمنطقة الحرم القدسي الشريف بصفة خاصة والمعالم الإسلامية والمسيحية في فلسطين بصفة عامة. وإذا كان هذا التحذير الرسمي يهدف، في جانب منه على الأقل، إلى الإيحاء بأن مصدر الخطر هو بضع جماعات أو شخصيات يهودية "متطرفة" لا تمت بصلة للسلطات الحكومية في الكيان الصهيوني وبأن هذه السلطات حريصة على التصدي لهذا الخطر "الجديد"، فإن ثمة دلائل لا تُحصى على أن مثل هذه المخاطر قديمة العهد، وأنها ليست وليدة هوس أو "تطرف" ديني، بل تأتي في سياق مخطط محدد يمثل جزءاً لا يتجزأ من المشروع الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين، وهو مخطط تشارك السلطات الرسمية على أعلى المستويات في جميع مراحله النظرية والعملية، وإن اتخذت هذه المشاركة شكلاً متوارياً في بعض الأحيان وشكلاً علنياً صريحاً في أحيان أخرى.
ولعل إلقاء الضوء على بعض الاعتداءات التي تعرض لها المسجد الأقصى كفيلٌ بتفنيد الادعاءات الصهيونية الرسمية التي تحاول تصوير هذه الاعتداءات المتواصلة على أنها مجرد حوادث فردية متفرقة ليس إلا. وتُعد جريمة إحراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969 واحدةً من أبرز هذه الاعتداءات، إن لم تكن أبرزها على الإطلاق، سواء من حيث نطاقها وحجم الأضرار التي ألحقتها أو من حيث ثبوت الضلوع الرسمي في تسهيل ارتكاب الجريمة والتستر عليها.
ففي ذلك اليوم، تسلل سائح أسترالي يهودي، يُدعى دينيس مايكل روهان، إلى ساحات الحرم، وتمكن من الوصول إلى محراب المسجد وإضرام النار فيه. وأتت ألسنة اللهب على أثاث المسجد المبارك وجدرانه ومنبر نور الدين زنكي، وهو المنبر التاريخي الذي أعده القائد صلاح الدين الأيوبي لإلقاء خطبة لدى انتصاره وتحرير بيت المقدس. كما أتت النيران على مسجد عمر بن الخطاب ومحراب زكريا ومقام الأربعين وثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب إلى الشمال داخل المسجد الأقصى.

وأدت هذه الجريمة إلى إحراق أكثر من ثلث المساحة الكلية للمسجد الأقصى، حيث احترق ما يزيد على 1500 متر مربع من مجموع مساحة المسجد التي تبلغ حوالي 4400 متر مربع. وألحق الحريق أضراراً بالغة في أعمدة المسجد الأقصى وجدرانه وأقواسه وزخرفته الأثرية، حيث سقط سقف المسجد كما سقط عمودان مع القوس الحامل للقبة، فضلاً عن تحطم 48 نافذة من الجبس والزجاج الملون واحتراق السجاد وكثير من الزخارف والآيات القرآنية.

وربما يبدو الأمر في ظاهره وكأنه مجرد جريمة فردية ارتكبها شخص "مختل عقلياً"، وهذا هو الوصف الذي أطلقته السلطات الإسرائيلية آنذاك على ذلك السائح الأسترالي، الذي أدلى عقب اعتقاله بتصريحات قد تعزز هذا القول، حيث ادعى أنه ارتكب فعلته تحقيقاً لنبوءة في "سفر زكريا"، وأنه مبعوث من الرب لتنفيذ هذا الواجب الديني!. إلا أن الملابسات المحيطة بالحادث تؤكد أن هذه الادعاءات لم تكن سوى محاولة للتستر على الجريمة ولإخفاء الدور الذي لعبته السلطات الصهيونية الرسمية فيها: فقد تعمدت السلطات الإسرائيلية، التي أصبحت تسيطر على جميع المرافق في القدس بعد احتلالها عام 1967، قطع المياه عن منطقة الحرم الشريف قبل نشوب الحريق وأثناءه، من أجل إحباط محاولات الإطفاء وبالتالي إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالمسجد.

وبالإضافة إلى ذلك، تأخرت سيارات الإطفاء التابعة لبلدية القدس في الوصول إلى الموقع، ولم تسهم بأي دور في عملية الإطفاء التي نهض المواطنون العرب بكل أعبائها، حيث استبسلوا في الدفاع عن الحرم القدسي وتمكنوا من إخماد النار رغم قلة ما لديهم من إمكانات. وتؤكد تقارير المهندسين في "لجنة إعمار المسجد الأقصى" أن الحريق شب في أكثر من مكان في الوقت نفسه، وأنه لم يكن بمقدور شخص بمفرده أن ينفذ هذا العمل دون مساعدة آخرين.

وبالرغم من اعتراف الجاني بجريمته وبأنه حاول من قبل تنفيذها ولكنه فشل، مما يؤكد أنه عمل مدبر مدروس ويصدر عن وعي كامل، فقد أطلقت السلطات الإسرائيلية سراحه دون أن يلقى أي عقاب بدعوى أنه "مصاب بمرض عقلي وغير مسؤول عن تصرفاته"، وتم ترحيله إلى موطنه الأصلي أستراليا للتغطية على أبعاد الجريمة.

ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يتضح فيها دور السلطات الرسمية في الاعتداءات على المسجد الأقصى. فقبل حوالي شهرين من الجريمة، وبالتحديد في 16 يونيو 1969، استولت القوات الإسرائيلية على الزاوية الفخرية التي تقع في الجهة الجنوبية الغربية من ساحة المسجد. وفي الأسبوع التالي، فرضت القوات الإسرائيلية سيطرتها على المدرسة التنكزية، التي تـُعرف باسم المحكمة وتقع عند باب السلسلة، وحولتها إلى موقع عسكري. وفي أعقاب الحريق، زادت السلطات من دعمها للجماعات والعناصر الدينية اليهودية التي تطالب بالسماح لليهود بالصلاة داخل الحرم، وسهلت محاولات بعضهم لاقتحام المسجد الأقصى، مثلما حدث في 14 أغسطس 1979، عندما حاولت جماعة يتزعمها الحاخام جورشون سلمون وجماعة أخرى بزعامة الحاخام مائير كهانا اقتحام المسجد، حيث وفر جنود الجيش الإسرائيلي الحماية للجماعتين، واشتبكوا في معارك ضارية مع المواطنين العرب الذين تصدوا لمحاولة الاقتحام.

وفي 28 أغسطس 1981، أُعلن عن اكتشاف نفق يبدأ من حائط البُراق ويمتد أسفل الحرم القدسي، وتبين أن عمالاً من وزارة الشؤون الدينية هم الذين قاموا بأعمال الحفر، وهو الأمر الذي دعا الوزير المسؤول آنذاك أهارون أبو حصيرة إلى إحاطة الموضوع بسرية تامة. ومع ذلك فقد استمرت عمليات الحفر في السنوات التالية، مما أدى إلى حدوث أضرار جسيمة سواء في جدران المسجد أو الأبنية المحيطة به. وفي عام 1984، انهار الدرج المؤدي إلى مدخل المجلس الإسلامي الأعلى، حيث اكتُشفت ثغرة عميقة تؤدي إلى نفق طويل شقته دائرة الآثار الإسرائيلية بمحاذاة السور الغربي الخارجي للمسجد الأقصى. وفي عام 1996، وفي ظل حكومة بنيامين نتانياهو، أُعلن رسمياً عن شق نفق أسفل السور الغربي للقدس، وهو الأمر الذي قُوبل بسخط عارم من الجماهير العربية داخل فلسطين وخارجها.

وليست هذه الوقائع كلها سوى أمثلة قليلة على الاعتداءات المستمرة والخطيرة التي يتعرض لها المسجد الأقصى. وربما كان بعضها من تنفيذ أفراد أو جماعات محدودة فعلاً، إلا أنها ما كان لها أن تتواصل وتتسع على هذا النحو دون غطاء من الدعم المادي والعسكري والسياسي والقانوني توفره الدولة الصهيونية نفسها، حتى وإن حاولت إبعاد الشبهات عنها بإطلاق تحذيرات أو اتخاذ إجراءات شكلية من حين لآخر ضد هذه الجماعة أو تلك.
والله أعلم.