لا يكفي أن يكون الهدف السياسي نبيلاً ومشروعاً، بل لا بد أن التكتيك السياسي يصبّ بالاتجاه الصحيح، فإذا ما طرحت القيادات السياسية تكتيكاً يثير زوبعة شعبية حوله، فإن الهدف سيثور حوله الكثير من التساؤلات.
في الأيام القليلة الماضية، تصاعد الصراع بين جيش المهدي الذي يقوده السيد مقتدى الصدر، وبين الحكومة العراقية وقوات الاحتلال الامريكي. فإذا بأتباع الصدر يهددون بفصل المحافظات الجنوبية عن العراق، من دون أن يكشفوا عن مستقبل هذه المحافظات، بجمهورية إسلامية عراقية أو إلحاقها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، مما أثار الكثير من التساؤلات حول التوجه السياسي للسيد الصدر، ومدى افتراقه عن المشروع الأمريكي الذي يريد بناء العراق على أساس مذهبي طائفي عرقي، أو المشروع الإيراني الذي يريد استثمار الواقع الشيعي في جنوب العراق لتمزيق العراق وإنهاكه في حروب طائفية أو قومية لا يعرف أحد مستقبلها.
قبل ذلك، ارتكب مقتدى الصدر خطأين، الأول: عندما أعلن نيّته تشكيل حكومة عراقية بديلة لم تجد النور، وقبل ذلك تشكيل جيش لا غبار على مسماه المذهبي، مما يعني أنه عاجز عن أن يكون بطلاً وطنياً عراقياً يهدف إلى تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي ولا يهدف فقط إلى تحرير الشيعة أو يقتصر جيشه على أبناء الطائفة الكريمة.
ذكرتني أخطاء الصدر بالخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه النائب السابق للرئيس اليمني، وبطل الوحدة اليمنية، السيد علي سالم البيض عام ،1994 عندما اندلعت الحرب الأهلية، فلم يجد شعاراً يرفعه سوى انفصال الجنوب عن الشمال، وإعلان إعادة جمهورية اليمن الديمقراطية. فخسر قواعده في الشمال ولم يتمكن من استنهاض الحمية المناطقية في الجنوب، وجاء الدعم المالي والعسكري من الأشقاء العرب والمناصرين للكيانات الصغيرة بعد فوات الأوان، ولم ينتصر مشروع الانفصال، بل تمسّك الشعب اليمني بالوحدة وناضل من أجل الديمقراطية ولا يزال.
في الشأن العراقي، لدى الأمريكيين النموذج اللبناني، وتمكّنوا عبر سنوات الحصار من تقسيم العراق إلى مناطق ثلاث، أسسوا بموجبها لمشروعهم اللاحق بعد احتلالهم للعراق، في تقسيم الشعب العراقي إلى أكراد وسُنة وشيعة، لا وجود للعرب في المعادلة. ناهيك عن الأقليات التي يرعونها، لكنهم يريدون تفتيت العراق إلى دويلات ثلاث ضمن مشروع الفيدرالية الذي يدغدغ عواطف الأكراد، ويستجيب لبعض الطائفيين في الجنوب، ويخوف الجيران من المشروع الكردي، لكن إيران ستكون سعيدة بفصل المحافظات الجنوبية عن العراق بحجة الدفاع عن الشيعة، وهي بالضرورة لا تريد عراقاً قوياً له ارتباطاته القومية التي قد توصل إلى الوحدة مع سوريا أو بقية المناطق العربية، سواء ضمن مشروع الهلال الخصيب أو المشرق العربي؛ ناهيك عن امكانية استخدام الورقة الجنوبية في الصراع ضد الأمريكيين والصهاينة الذين يضعون الخطط حالياً لتدمير القوة النووية الإيرانية.
وبالرغم من الجهود التي بذلها التيار القومي العربي أو التيار الديمقراطي المستقل ليكون تيار الصدر جزءاً من المشروع الوطني العراقي العام، فإن تياراً مقاوماً يرتكز على الطائفة، والطائفة وحدها، لا يستطيع استنهاض الشعب العراقي بأسره، كما لن يستطيع التيار السلفي الذي يريد (القضاء على البدع) في كربلاء والنجف وغيرها من المقدسات الشيعية أن يشكل مركز استقطاب، بل سيوجه سهامه إلى مكوّنات الشعب العراقي الأخرى بين الفترة والأخرى عندما يعجز رجاله عن الوصول إلى الهدف الأمريكي المنشود.
ويبدو أن السيد الصدر حائر بين رغبته أن يكون حسن نصرالله العراق، وبين أن يستفيد من الدعم الإيراني، وأن يكون وريث بيت الصدر الذي واجه النظام السابق، في الوقت ذاته الذي يطرح مشاريعه لتطهير الساحة العراقية من كل ما يمت إلى الحداثة بصلة، وبين المواجهة مع الأمريكيين التي تستدعي تخفيف الغلواء الطائفية، وتستدعي تغيير مسمّيات جيشه وسلوكه ليتمكّن من استنهاض أوسع القطاعات الشعبية لمواجهة الأمريكيين وحلفائهم في العراق.
وحيث اكتشف أخطاءه، فقد تراجع عن تشكيل حكومة بشر بها، كما تراجع عن فصل المحافظات الجنوبية الذي لوح به، لكن هذه الأخطاء سيكون لها ثمن باهظ على صعيد القدرة على مواجهة قوات المحتل في بلد يتمسك شعبه بالوحدة الوطنية ويرفض المساومة على وحدة العراق والديمقراطية اللتين لا يمكن تحقيقهما في “جيتوات” طائفية أو عرقية أو تحت حراب المحتلين.