الصحافة كالسينما تختصر لك قصة العمر في ساعة. إذا أردت أن تعرف كيف تنقضي الأيام والسنين بسرعة فاعمل في الصحافة. عملت في الصحافة وأنا في التاسعة عشرة من العمر. واكتشفت منذ أيام أني أمضيت في مهنة العمر خمسين عاما.
كيف مرت السنين وكأنها أيام؟!
لا أدري. كل ما أعرف أني عشت وما زلت أعيش في دوامة إعصار تستهلك الزمن. ينقضي العمر ولا تنقضي الحياة والأحداث والأفكار على هذا الكوكب.
لست نادما. فلم تكن حياتي رتيبة كموظف الحكومة أو معلم المدرسة. في الصحافة كل شيء جديد. ولعل الدرس الأول الذي تتعلمه في الصحافة هو أن تتجدد مع الحياة والناس. وما زلت تلميذا في مدرسة الصحافة والحياة. أتعلم دروسا جديدة من صحف ومجلات وزملاء، وأجد عبرا وتجارب جديدة لدى الناس.
العمر لا يقاس بالسنين، إنما بالقدرة على مواكبة التغيير في الفكر والتطوير في التقاليد. كتبت هنا منذ سنة عن سوسيولوجيا الغناء العربي. قلت ان لا بد من قبول الأغنية الشبابية الجديدة. لقد فرض الشباب ذوقهم وعصرهم: زاوجوا في «الفيديو كليب» بين الثورة الإلكترونية وثقافة الرياضة والرشاقة. لم تعد المغنية بوزن أم كلثوم وهي تتحدث عن الحب. فهي تغني وترقص على وقع موسيقي متسارع مع تسارع الحياة اليومية وصخبها. وهي بحاجة إلى جسد رشيق قبل الصوت الجميل. نعم، الذوق الفني قد هبط ليحاكي الغرائز. ومهمة الصحافة والفكر والمدرسة تهذيب الموجة الشبابية بالنقد والمعرفة لا بالقسر والمنع.
غير أن ما يشغلني حقا هو هذه البلبلة في مسيرة الفكر العالمي بعد انهيار الدولة الماركسية: هل انهارت الماركسية كنظرية للمساواة والعدل الاجتماعي، أم أخفقت في التطبيق؟ هل ما زالت الماركسية صالحة كأداة للتفسير الاجتماعي وكطريقة علمية للتحليل السياسي؟ هل إنعاش الذاكرة الدينية رد على إخفاق الماركسية وجفاء مادية الرأسمالية؟ ثم لماذا يتذكر العرب والمسلمون، ولا يتذكر الغرب والعالم؟
وأعود لأقنع نفسي بأن هذه «الجهادية» التكفيرية في رفضها الساذج المطلق للمجتمع وللآخر، وفي عنفها ودمويتها وانغلاقها، لا يمكن أن تشكل بديلا حداثيا وفكريا للمادية. مع ذلك، فالذاكرة الدينية مفيدة، كما يوحي المفكر ألان تورين في حديثه عن عصر ما بعد الحداثة، في مزج المادية بشيء من الروحانية الدينية، لمنح حياة الإنسان الصناعي والإلكتروني قدرا من الفرح والراحة النفسية.
لا يشغلني الماضي بقدر ما يقلقني المستقبل. أنا خائف من هذا الرهان الاجتماعي على الكراهية. وأريد أن أعرف ما إذا كان رهانا ثابتا أم هو موجة اجتماعية عابرة نتيجة للعدائية الأميركية للعرب المغلفة بشعار «مكافحة الإرهاب».
لا يمكن بناء المستقبل على أساس الرفض والكراهية للآخر. الشعارات الظرفية لا تصلح عناوين للحركات الدينية والسياسية. من السذاجة أن يجعل الشيخ اليمني الحوثي من «الموت لأميركا» شعارا لحركته. أمر خطير للغاية أن يلتفت المجتمع إلى شيوخ المغائر والخرائب والمقابر والأضرحة، ظنا ووهما أنهم قادة التغيير، أو «المجاهدون» الحقيقيون ضد الظلم العالمي للعرب. انها منائر العلم والتقنية والمعرفة هي قاعدة التحدي، تماما كما فعلت ألمانيا بعد الهزيمة، وكما يفعل العرق الأصفر على الضفة الأخرى من آسيا.
رفضت الحركات الدينية المعاصرة إصلاحية الأفغاني ومحمد عبده التي دعت إلى العودة إلى الإسلام الأول المنفتح، للمزاوجة بين الأصالة والحداثة. بعد غزل استمر ثلاثين سنة مع العنف الديني، عاد الاخوان المسلمون إلى التبشير بالاعتدال والتسامح. لكن الاعتدال بلا انفتاح، وبلا قبول بتنويع مصادر الفكر والثقافة والتربية، هو الذي أدى بهم ـ يا للسخرية ـ إلى تفريخ هذه الحركات العصبية في العالمين العربي والإسلامي.
ماذا يفعل الإعلام والصحافة في مواجهة هذه الاتجاهات السلبية في المجتمع؟
لا أعتقد أن مهمة الصحافة تغيير العالم. لكن ليس أيضا تجميده وارتهانه لدى هذه الكوابيس المخيفة. الادعاء بأن «الجمهور عايز كده» لا يصلح حجة وذريعة لعرض مشاهد قطع الرؤوس، وللتنافس في تركيز «الكاميرا» على الوجوه والأجساد المشوهة.
الحياة الإنسانية هبة غالية. لا يمكن ابتذالها واختصارها إعلاميا بمشهد ميلودرامي مفجع. كنا كصحافيين نأبى أن نفعل ذلك في الماضي، فلماذا نفعل ذلك الآن؟ لماذا بات الفوز بـ«فيديو» صوتي أو مرئي من ابن لادن والظواهري والزرقاوي نصرا إعلاميا نهنئ أنفسنا عليه؟! نحن أيضا كإعلاميين نشجع ثقافة الدم والكراهية والرفض.
لست ضد حرية الصحافة والإعلام. الحرية في الرأي والموقف والتحليل أكثر أهمية من الحرية في الخبر. ليست الأهمية في «ماذا» حدث ويحدث، بقدر الأهمية في «لماذا» حدث هذا ويحدث؟ وما هي النتائج السياسية والاجتماعية المترتبة على الحدث.
جئت منذ 28 سنة إلى أوروبا مع الصحافة العربية المهاجرة. لم آت للسياحة والراحة على ضفاف السين والتيمز، ولست منبهرا بهذه الحضارة. لكني أشعر بأن الحرية السياسية التي كنت أتمتع بها عندما جئت قد تشوهت وأسيء استعمالها كثيرا، وتآكلت وَضَمُرَتْ كثيرا.
المزايدة الإعلامية المتشنجة ليست حرية. تعيير العرب بالسكوت عن محاصرة العتبات الشيعية فيه كثير من اللامسؤولية. ماذا يفعل العرب لشاب عصبي يقود شبابا بلا وعي إلى مجزرة دموية غير متكافئة في السلاح، ثم يعتصم في مساجد وأضرحة ومقابر، ويجعلها رهينة لمطالب سياسية تضعه فوق النظام والقانون والمرجعيات؟! ثم يبلغ المكر بإيران غير البعيدة عن تمويله وتسليحه إلى إحراج العرب بالمطالبة بقمة إسلامية وانعقاد مجلس الجيران الوزاري لإنقاذه من الورطة التي قادته هي إليها.
هل يحرك العرب صواريخهم، لأن صاروخ «قسام» ينطلق إلى مستعمرة في الغرب، فيسقط سليما معافى إلى جانب مستعمرة في الشرق؟ هل يضع العرب مشايخ «حماس» و«الجهاد» فوق قمة القيادة، لأن الانتفاضة «الجهادية» قد أخفقت؟
في المقابل، إذا كانت الصحافة المهاجرة لم تعد تستطيع أن تقول إن نظاما ما كان «مأزوما» قبل خمسة وعشرين عاما، فلا أجد ضرورة للبقاء الباهظ والمكلف الثمن في الخارج. الأفضل أن تعود هذه الصحافة إلى الداخل، حيث وسائل الإيصال والاتصال الإلكتروني متوفرة، وبتكاليف أقل.
ليست مهمة الصحافة المهاجرة إسقاط النظام العربي. لكن كلما مُنحت هذه الصحافة مزيدا من الاستقلالية في الموقف والحرية في الخبر والتحليل، تعوَّد النظام العربي على القبول بالنقد من دون حساسية. عندما تتراجع حرية الرأي، فسيحاسب النظام العربي الصحافة المهاجرة حتى على الهمزة فوق ألف «مأزوميته» السابقة والراهنة.
كان الوعي الإعلامي الرسمي ذكيا جدا في رسمه الغاية من مجيء الإعلام والصحافة إلى لندن. كان الغرض تحرير الصحافة من الرقابة الذاتية التي تفرضها على نفسها، ومن حساسية الأنظمة العربية تجاه كل ما يقال في صحافة الداخل الرسمية وشبه الرسمية. كان الغرض وضع الصحيفة المهاجرة صباح كل يوم على مكتب كل مسؤول وسياسي وديبلوماسي ومثقف في الخارج والداخل. كان الفهم الرسمي ذكيا في إدراكه أن هؤلاء يمثلون زبدة الرأي العام العربي المؤثرة والفاعلة في القرار السياسي. أنا أسأل الآن: هل تحقق هذا الوصول والاتصال تماما؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله، فما تعوّدت المزايدة على الخطوط السياسية العريضة للصحافة التي أعمل فيها، إنما أحب لها أن تكون فاعلة ومؤثرة ومقروءة.
تقول لي أيها القارئ العزيز: لم تتحدث عن ذكرياتك الصحافية والسياسية في السنوات الخمسين الماضية. لا بأس، سأفعل ذلك في السنوات الخمسين المقبلة.
- آخر تحديث :
التعليقات