من الطبيعي أن يتفق معي معظم القراء المصريين والعرب, فيما أقوله عن القضية الفلسطينية, وعن الصراع العربي ـ الإسرائيلي, وعن المنطق الذي تتبناه إسرائيل ومن يساندونها في فهم هذا الصراع, وعن الأكاذيب والادعاءات التي يروجون لها.والاتفاق الذي أعتقد أنه قائم بيني وبين معظم قرائي, لا يستند للأسباب التي تجعل المنتمين لثقافة مشتركة متفقين أو ميالين للاتفاق فيما بينهم, لأنهم ينظرون للمسائل المطروحة عليهم من وجهات واحدة أو متقاربة, ويتبنون قيما, ويسعون لبلوغ أهداف مشتركة, الاتفاق الذي أتحدث عنه لا يستند الي هذا الاعتبار وحده, وانما يستند أيضا لأسباب موضوعية تتجاوز عواطفنا, وتتيح لمطالبنا العادلة أن تتفهمها محافل دولية وتتبناها أوساط أجنبية واسعة, وربما وقف الي جانبها بعض الإسرائيليين المتصفين بالتعقل والاعتدال.
غير أني تلقيت رسالة من قاريء مصري مثقف لا تنقصه الموضوعية ولا تخونه الكلمات, يعلق فيها علي ما كتبته عن العنف باعتباره شرطا لوجود إسرائيل وشرطا لبقائها, فيعلن اتفاقه معي فيما ذهبت إليه, لكنه يري اني لم أقل ما يجب في نظره أن يقال حول العنف الذي تقوم عليه حياتنا, كما تقوم عليه حياة إسرائيل.
وأنا أريد أن أتوقف عند هذه الرسالة, التي أراها تعبيرا عن اتجاه صحي لنقد الذات, نستعيد به الثقة في قدرتنا علي تحمل النقد والتخلص من العيوب.
وصاحب الرسالة لايريد أن يتفلسف, فيتحدث عن العنف باعتباره ظاهرة عالمية أو مرضا من أمراض الحضارة الصناعية الحديثة, أو باعتباره قانونا طبيعيا يسري علي كل الأحياء الذين يتصارعون من أجل البقاء ـ كما قال داروين ـ أو بوصفه تعبيرا عن الصراع الذي يدور في داخل كل إنسان بين غريزة الحب, التي تدفع للتكاثر, وغريزة الموت التي تدفع للانتحار كما يقول فرويد.
صاحب الرسالة لا ينظر الي الصراع العربي ـ الاسرائيلي من خلال هذه القوانين والنظريات, وانما يريد بكل بساطة أن يقول إن العنف الذي نصبه علي أنفسنا ليس أقل من العنف الذي يصبه علينا أعداؤنا.
إن عنفنا ليس محصورا في مجال بالذات, وليس مقصورا علي فئة دون غيرها, فكل منا يعاني من هذا العنف بصورة أو بأخري.
واذا كانت الجماعات الدينية المتطرفة قد توقفت ـ والفضل لرجال الأمن وتضحياتهم ـ عن قتل السياح الأجانب, وترويع المسيحيين المصريين, واغتيال الكتاب والمفكرين, فالعنف الذي تمارسه هذه الجماعات وانصارها باسم الدين لا ينحصر في هذه الجرائم, بل يتخذ أشكالا أخري أقل دموية تهدد المجتمع كله وتقوض أركانه, لأن هذه الجماعات بطبيعتها لابد أن تكون خارجة علي القانون الذي لا تعترف به, لأنه قانون انساني من وضعنا نحن البشر, وتسعي لفرض قانونها الذي تعتقد أنه من وحي السماء, ولان هذه الجماعات تحارب الدولة الوطنية, وتحرض الناس عليها, وتسعي للاستيلاء علي السلطة, وفرض النظم والقوانين الموروثة من عصور الظلام بالقوة, وتتآمر علي الديمقراطية قبل أن تولد, وعلي حقوق الإنسان قبل أن تستقر.
ويكفي أن يستمع الإنسان لخطباء الجمعة المنتمين لهذه الجماعات, وهم كثيرون, أو لطريقة استخدامهم لمكبرات الصوت, ليدرك عنف الأفكار والمشاعر والدوافع التي تحركهم,انهم يكرهوننا ويكرهون العالم كله, ويسعون الي تخويف الناس وارهابهم بدلا من مخاطبة عقولهم وقلوبهم, ومجادلتهم بالحسني, ودعوتهم للخير برفق واعتدال.
ومن الطبيعي بعد أن شاع استعمال الميكروفون بهذه الطريقة الهمجية, أن يصيح من حق صاحب كل فرح أو مأتم أو مطعم, أن ينصب ميكروفوناته, وينفخ فيها, ثم يصبح: واحد, اثنين, ثلاثة, ثم تلعلع الزغاريد, وتدربك الدربكات, وتذاع الأغاني والاعلانات, بل ان الميكروفون الآن أصبح آلة ضرورية لابد أن تتوافر لبائعي الخضر والأجهزة والأدوات والملابس المستعملة, أما باعة اسطوانات الغاز فيستخدمون المفكات الحديدية في الضرب علي اسطواناتهم المحمولة علي الدراجات البخارية والمعروضة للبيع منذ الثامنة صباحا, لا يعترضهم معترض من رجال الأمن, ولا يجرؤ علي الوقوف في وجوههم السكان, وأما سائقو السيارات, والتاكسيات, وموصلو الطلبات للمنازل فيقتحمون الارصفة, ويستخدمون أجهزة التنبيه في تخويف العابرين واستدعاء أقاربهم وأصحابهم الذين يسكنون في الطوابق العالية!
أليس هذا الصخب الفظيع الذي يزلزل كياننا, وينتهك خصوصيتنا, ويحرم أصحاءنا ومرضانا معا من حقهم الطبيعي في الراحة والهدوء عنفا؟ أليس قهرا وعدوانا علي أبسط حقوق الإنسان, حقه في الصمت, وحقه في النوم, وحقه في أن يلوذ بنفسه وينفرد بأفكاره وأحلامه بعيدا عن صخب الحياة اليومية وصراعاتها ومعاركها؟
وماذا تقول يا استاذ في العنف السياسي الذي نعاني منه طوال تاريخنا, علي أيدي الأجانب الغزاة والمصريين الطغاة؟
وماذا تقول في العنف الاجتماعي الذي يصبه الرجال علي النساء والكبار علي الأطفال؟ ماذا تقول في رجل يمسك بفتاة صغيرة كأنه يمسك بدجاجة ليقطع من أعضائها الحميمة الحساسة ما يراه ضروريا لقتل شهوتها وحرمانها من الشعور بالحب والتمتع به, كما تتمتع بالحب قطة, أو يمامة, أو فراشة؟ وهل تعلم أن عدد الأطفال المصريين المضطرين للانقطاع عن الدراسة والاشتغال بحرفة من الحرف المناسبة وغير المناسبة,الشريفة وغير الشريفة لا يقل عن مليونين؟
وهل تقرأ صفحات الحوادث؟ أنا أقرؤها بانتظام, ويهولني تطور الجريمة في مصر وما اصبحت تكشف عنه في أكثر الاحيان من دوافع تافهة, وعواطف ميتة, ويأس قاتل, واستهتار وحشي بكل القيم الدينية والخلقية, رجل يقتل أولاده الخمسة واحدا بعد الآخر,لأنه سمع من بعض جيرانه ما شككه في سلوك زوجته, وأب يخنق طفله الرضيع لأنه لا يكف عن البكاء, وزوجة تخون زوجها مع شقيقه وتقتل طفلها الذي أنجبته سفاحا, وزوجة أخري تتآمر مع عشيقها علي قتل ابنها البكر, ورجل أعمال يتزوج خليلته بعد أن أمطرها بالهدايا, ثم يقيم حفلة ليقتلها في نهايتها, ثم يقتل أصدقاءه الذين دعاهم للاحتفال معه قبل أن يطلق علي نفسه الرصاص من أحد المدافع الرشاشة التي كان قد أعدها للاستعمال في هذه المذبحة, التي سارت بذكرها الركبان!.
أليس هذا عنفا؟ ألسنا نصطلي بنار هذا العنف آناء الليل وأطراف النهار؟ وهل تجده عنفا عاديا لا يختلف عما كان لدينا من قبل, وعما نجده في أي مجتمع انساني, أم انه عنف آخر, عنف خبيث معد كأنه الوباء الذي يستحق اعلان حالة الطواريء, ومعالجة الأسباب, وتطهير الشوارع والمنازل والمكاتب والمؤسسات, وعزل الحالات الخطيرة, وتطعيم الجميع باللقاح المضاد؟!.
وأنا من جانبي أتفق مع صاحب الرسالة في كل ما ذكر, ولعلي أشرت مرات في مقالاتي السابقة الي كثير مما جاء في رسالته, لكني اعتبرها استطرادا لا بأس في أن نتطرق إليه, وان لم يدخل في صلب الموضوع الذي أكتب فيه, وهو العنف الإسرائيلي الذي يختلف عما وصفه صاحب الرسالة جملة وتفصيلا, فشتان بين اساءة استخدام مكبرات الصوت والتلويح باستخدام القنابل النووية, بين قتل رجل أو اغتصاب فتاة, وقتل شعب بكامله وسرقة وطنه ومحو آثاره.
عنف القاتل الفرد في مجتمعنا أو في أي مجتمع آخر موجه بالدرجة الأولي للفرد هنا أو هناك, أما عنف اسرائيل فموجه للانسانية كلها, والعنف الفردي ـ ولو تكرر وانتشر ـ عنف مدان تحاربه العدالة, التي لابد أن تمسك به وتقتص منه, انه خروج علي القانون, لكن العنف الاسرائيلي عنف منظم مقنن, العنف الاسرائيلي هو القانون, والقانون الاسرائيلي هو العنف, لهذا أشك في قدرة إسرائيل علي البقاء, لأنها لا تستطيع أن تعيش خارج القانون الي الأبد!
التعليقات