باستثناء بعض الفلسطينيين، وعدد قليل من اليونانيين واليونانيات في مطار أثينا، لم يسمع أحد بمأساة فلسطيني مطار أثينا.
لم تكتب عنه الصحف، ولا تناقلت جوانب مأساته وكالات الأنباء، وبالطبع لم تتسابق شركات الإنتاج السينمائي العالمية لاستثمار حكايته المأساوية والأسطورية كون فصولها نسجت علي أرض اليونان بما تدّخره من أساطير، خاصة ومطار أثينا يقع علي مقربة من (الأكروبول)، وتحيط به جبال أثينا التي تجلّت علي قممها ربّات الجمال وآلهة العناصر.
هوليوود اشترت من المتشرد الإيراني ألفريد موهان واسمه الحقيقي (ميرهان كريمي) والمحشور في ترانزيت مطار شارل ديغول منذ ستة عشر عاماً حقوق التصرّف بحكايته، ليحولها المخرج الشهير ستيفن سبيلبرغ إلي فيلم أمريكي (عالمي) من بطولة النجم توم هانكس، مع تحوير طفيف وهو أن يحكي الفيلم ـ بتحوير يعني ـ حكاية متشرّد من أوروبا الشرقية (كله سياسة يا خال!)، وقد دخلت في حساب كريمي ثلاثمائة ألف دولار بينما هو محشور في ترانزيت المطار الفرنسي، وبات مشهوراً جداً، فالصحافة ووكالات الأنباء تسعي للالتقاء به ومحاورته.
الفلسطيني الذي تابعت مأساته قبل عقدين سنوات لم يشتهر، ولا ذاع صيته من خلال الاهتمام بمأساته، ولم يعوّض عليه أحد جرّاء ما لاقاه من مهانة، وتشرّد، وتمزيق لعائلته الصغيرة، وحتي أنا لم أكتب قصّته الواقعية الجنونية مع أنني والله العظيم تابعتها ودوّنت بعض الملاحظات، والسبب في ذلك أن تصاريف الحياة وعواصفها أخذتني وانشغلت بحكايات غيرها، والحكايات في حياة الفلسطيني تتراكم فوق بعضها، وبعضـــها أكثر مأساوية ممّا سلف، والفلسطيني أحوج ما يكون للنسيان أحياناً، ولذاكرة تتقزّم أمامها ذاكرة أعظم الكمبيوترات ليخزّن كثيراً ويستعيد بعضاً ممّا تختزن ذاكرته وقت يحتاج ويشاء.
قلت أكتب الحكاية ولم أفعل، وما قرأته في (القدس العربي) علي الصفحة الأخيرة بتاريخ 10 آب (اغسطس) عن مأساة الإيراني كريمي وتحويلها إلي فيلم أعادني إلي حكاية الفلسطيني التي ألحّت علي ذاكرتي فجلست وأخذت أستلّ من تشابك الحكايات والمآسي بعض ملامحها.
الفلسطيني كان يعمل في الجماهيرية ـ لا أريد أن أقول ليبيا لأن لي أصدقاء في ليبيا، والشعب الليبي عربي أصيل وهو الذي أنجب رمضان السويحلي، وغوما وعمر المختار، وهو غير مسؤول عن صنيع لا دولته (لا توجد دولة في ليبيا وإنما حالة فوضي مقصودة) وهو في هذا تتشابه أحواله مع أحوال أشقائه العرب في (دولهم) بكل تلاوينها ـ وقد دوهم البيت الذي يقيم فيه مع زوجته المصرية وابنه و..هب إلي المطار، وقذف بهم إلي مطار القاهرة...
الفلسطيني يحمل وثيقة سفر (فلسطينية) مصرية، وهذه الوثيقة العجيبة مكتوب عليها أنها لا تمكّن حاملها من دخول الأراضي المصرية إلاّ بعد الحصول علي تأشيرة دخول من إحدي السفارات المصرية، ومن منطلق (الأخوّة) والحرص علي راحة الفلسطيني وكرامته وتسهيلاً لحركته وتمكينه من الشغل والتعلّم في أية بلاد فلم تنس الجهة المانحة لتلك الوثيقة أن تتوجه بالرجاء لجميع الجهات المعنية بتقديم المساعدة لحاملها..!
أترون الأخوّة؟ يمنعون الفلسطيني من الدخول إلي مصر وهو يحمل وثيقة فلسطينية مصرية و..لكنهم يوصون بمساعدته !...
الزوجة المصرية سمح لها بالدخول فهي عائدة إلي بلدها وجوازها مصري و..لكن ابنها فلسطيني!.. ولذا لا يسمح لها بإدخاله معها. عندما رأي الضابط المسؤول المأساة مجسّدة أمامه أمر بإدخال الطفل وعلي مسؤوليته، ومهما كانت النتائج ! (هذا ما رواه الفلسطيني بتقدير لمن التقوه في مطار أثينا).
الزوج الفلسطيني حامل الوثيقة (شحن) علي أول طائرة تغادر مطار القاهرة وكانت متوجهة إلي (أثينا).
وضع الفلسطيني في (الترانزيت) فهو لا مال معه ـ أخرج من جنّة الجماهيرية العظمي أرض كل العرب مع زوجته وطفله بما عليهم من ملابس ـ وبدأت حكايته تصل إلي الفلسطينيين من مطار أثينا.
من الذين التقوا بالفلسطيني الأسطوري ذاك الدكتور عبد الرحمن برقاوي أخصائي الأمراض النفسية والعصبية والذي كان يعرف الرجل من أيام درس في جامعة القاهرة، وهو الذي نقل إليّ كل عناصر الحكاية، وتطوراتها، وطرائفها...
من مرّ بمطار أثينا لا بدّ أن يلتقي هناك بيونان يحكون العربية، يونان من مدينة الإسكندرية، وبعضهم من بيروت، وهم يعملون في السوق الحرّة، ويجاملون العرب ويحبونهم أيضاً (في العرب العاديين جوانب كثيرة تستحق المحبّة رغم كل تشويهات نظم الحكم). هؤلاء اليونان اعتنوا بالفلسطيني، واليونان وهم مسيحيون أرثوذكس محبون لفلسطين والفلسطينيين، وزودوه بالطعام، وواسوه، وبذلوا جهداً لتخفيف أوجاع فراقه عن زوجته وابنه.
صار ذلك الفلسطيني العنوان الثابت للفلسطينيين العابرين ـ قبل معابر إيرتس ورفح وكارني الأسلوية ـ ومتقاطعي المصائر. بعض العابرين كان يترك نقوداً لزميل له سيعبر خلال أيام، ومنهم من يترك جواز سفر ليحلّ فلسطيني ما مشكلته ويتمكن من التنقّل به عبر مطارات وحدود عالم يناصبه الشك...
فلسطيني ترانزيت مطار أثينا نشأت بينه وبين العاملين والعاملات في المطار صلات إنسانية بلغت حدّاً مدهشاً خاصّة بعد أن ترك شعر رأسه ولحيته يستطيل ممّا منحه بجسده النحيل ووجهه المعروق الحاد النظرات حضوراً يذكّر بالسيّد المسيح وما لحق به من عذاب بأيدي من صلبوه وكللوه بالشوك ودقّوا المسامير في يديه...
ذات يوم خطر ببال ذلك الفلسطيني أن يري مدينة أثينا، فدبّر طريقة لمغادرة الترانزيت، وعندما افتقدته شرطة المطار ونبشوا أغراضه وجدوا كميّة من جوازات السفر في حقيبته تركها فلسطينيون أمانة عنده، تذكّروا انه ليس المسيح وأنه فلسطيني معاصر و..أنه ربّما يكون إرهابياً !...
جاؤوا بالكلاب البوليسية، وحشدوا سيّارات المطاردة، وأبرقوا لوحدات المطاردة، ولكن ضابطاً يونانياً عرف الفلسطيني ونشأت بينهما صلات إنسانية أكّد أن الفلسطيني لم يهرب وأنه ملّ الإقامة في الترانزيت، وأنه ليس إرهابياً...
أمام دهشة كل هذا الحشد انحني الفلسطيني ليعبر من طرف المطار فرآه صديقه الضابط اليوناني فأخذ يصيح:
ـ ألم أقل لكم بأنه لم يهرب وأنه سيعود؟
أمّا الفلسطيني فلم يأبه للكلاب البوليسية التي بدت هائجة نتيجة الأضواء الكاشفة الحادة وضجيج الطائرات، وجلبة سيّارات البوليس، تقدّم صوب صديقه اليوناني وبكل هدوء قال:
ـ أردت أن أري أثينا، و.. لكنني لم أعرف إلي أين اذهب، وخشيت أن تنزعج بسبب اختفائي.
تأمله الضابط اليوناني ثم ركع ورسم إشارة الصليب وهو يردد:
ـ كأنه هو.. كأنه هو...
ثمّ، ماذا جـــري للفلسطيني ذاك؟ وهل التقي بزوجته وطفله كما حدث مع (أوليس).. تلك حكاية أخري من حكايات الفلسطيني الكثيرة...